ثمة يقظة متأخرة لدى بعض حكومات دول المنطقة حيال عواقب الانغماس المبالغ فيه بالأزمة السورية والتقديرات غير الواقعية لتطور مسارها.

لم تعد "القاعدة" او "داعش" او "النصرة" خطراً يقتصر على سوريا، إضافة الى العراق، بل إن الأصوات بدأت تعلو من أنقرة والرياض بصورة متزايدة للتحذير من وصول الحريق السوري الى أطراف الثوبين التركي والسعودي.

إعلان تركيا عن قصف رتل لـ"داعش" في سوريا هو أول تحرك عسكري تركي يستهدف التنظيم مباشرة، ويأتي بعد سلسلة خطوات أقدمت عليها أنقرة ضد أعضاء في القاعدة على اراضيها، وأسفرت عن اعتقال قيادي في التنظيم وعدد من آخر من عناصره. كما اتخذت تركيا خطوات اخرى مفاجئة من بينها مصادرة أسلحة ضبطت على الحدود اثناء توجهها الى سوريا.

تركيا: العدو داخل البيت

ويبدو ان تحركات سلطات تركيا تندرج في سياق بداية مراجعة لسياساتها ازاء سوريا، بعد مراهنة طويلة على سقوط النظام. وافتتح هذه المراجعة الرئيسُ التركي عبد الله غول بإعلانه قبل ما يزيد على اسبوعين ان على تركيا أن تعيد تقييم دبلوماسيتها وسياساتها الأمنية نظراً إلى "الوقائع" في جنوب البلاد، مشددا على أن الوضع الحالي "يشكل سيناريو خاسراً لكل دولة ونظام وشعب في المنطقة". وكانت تقارير وشهادات كثيرة قد أفادت أن تركيا تـُعَدّ محطة هامة لوصول المقاتلين الأجانب الى سوريا، ويبدو أن بنية تحتية أقيمت لاستقبال هؤلاء قبل نقلهم الى الأراضي السورية حيث يتم توزيعهم على جبهة النصرة او داعش او سواهما، بحسب الجهة التي تستقبلهم. وكان من اللافت ان ينبري رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان الى تأكيد ان حكومته "لا تدعم لا القاعدة ولا جبهة النصرة، بل على العكس هي ضد كل الجماعات القادمة من خارج سوريا"، مستثنياً ضمناً الجماعات المسلحة التي تحظى برعاية أنقرة ضمن ما يسمى "الجبهة الاسلامية". ويُنظر الى هذا التصريح على أنه رد على الانتقادات التي طالت سياسة غض الطرف التي اتبعتها أنقرة طويلا حيال مرور المقاتلين الاجانب المرتبطين بالقاعدة الى سوريا. أما وقد تبين ان القاعدة تفرّخ خلايا في تركيا، كما في بلدان أخرى في المنطقة، فان السلطات التركية تبدو مضطرة الى نفض يدها من هذا الملف وإعادة تقييم خطره على الأمن في عقر دارها.

واذا كانت السلطات التركية تبدو أكثر تكتماً في معالجة هذا الملف، فإنها لا تخفي مخاوف من انعكاس سيطرة تنظيم داعش على نقاط حدودية سورية، ومنها تل ابيض في محافظة الرقة، وجرابلس في حلب، بينما يقترب من معبر باب الهوى في محافظة ادلب.

وكما تنبئء الكثير من التجارب، فإن الإرهاب التكفيري ليس عابراً للحدود فحسب، بل هو يبحث عن مَوَاطن يحل فيها أينما ذهب. لقد تبين ان للقاعدة حضوراً في تركيا، يقوم على مواطنين أتراك بتواطؤ او مساندة من جهات محلية تحت عنوانٍ خيري أو غيره. وقد عمدت السلطات في الأيام الاخيرة الى إجراء حملة مناقلات واسعة في محافظات تركية محاذية لسوريا، وشملت في غازي عنتاب (جنوب البلاد) وحدها 27 مدير أمن ورؤساء شعب أمنية من بينها شعبة حماية المنشآت الحساسة وشعبة مكافحة الارهاب وشعبة المواد المتفجرة. وبرغم ان أوساطاً مرتبطة بالحكومة وضعت هذا الإجراء الواسع في اطار تصفية نفوذ جماعة الداعية فتح الله غولن في أجهزة الدولة، في ضوء تفجر الخلاف بينه وبين رئيس الوزراء اردوغان، الا ان موقع غازي عنتاب الحساس على الحدود السورية وطبيعة الوظائف التي شملتها الاجراءات توحي بأن الأمر يتعدى مشكلة داخلية. في وقت صدرت تحذيرات من جهات أمنية تركية تتعلق باحتمال وقوع هجمات يشنها تنظيم القاعدة ومتفرعاته على الاراضي التركية، ونُقلت بعض هذه التحذيرات الى الائتلاف السوري المعارض الذي يتخذ من اسطنبول مقرا له، وتناولت بالتحديد إمكان قيام "داعش" بهجوم انتحاري ضد الائتلاف بعد صدور تهديد صريح من التنظيم باستهدافه بوصفه "طائفة ردة وكفر".

لكن رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية أفيف كوخافي الذي يحتفظ بصلات مع الأجهزة الامنية التركية ذهب أبعد من ذلك في "كشف المستور"، إذ قال إن بعض مقاتلي القاعدة الذين يذهبون إلى الحرب في سوريا لديهم قواعد في تركيا المجاورة ويمكنهم الوصول بسهولة إلى أوروبا عن طريقها. وعرض كوخافي في مؤتمر أمني في فلسطين المحتلة خريطة للشرق الأوسط مبين عليها "ثلاث قواعد لتنظيم القاعدة داخل تركيا"، قيل إنها في أقاليم قرة مان وعثمانية وأورفة جنوب تركيا. وقدّر كوخافي عدد المقاتلين الاجانب الذين يقفون مع المعارضة المسلحة بأكثر من ثلاثين ألفاً، وهو عدد ضخم نسبياً لم يسبق تسجيل مثيل له (لمقاتلين أجانب) في أي مكان آخر من قبل.

 

مأزق الغرب: النظام او القاعدة

أما مدير هيئة الاستخبارات الوطنية الأمريكية "جيمس كلابر" فيتحدث عن أكثر من 26 ألف عنصر إرهابي من بين عشرات الآلاف الذين يقاتلون ضد الحكومة السورية، ويقول إن 7 آلاف من هؤلاء أجانب جاؤوا من نحو 50 بلدا بينها دول كثيرة في أوروبا والشرق الأوسط، وهذا الرقم أعلى بكثير من الرقم الاميركي المقدر سابقا وهو 3- 4 آلاف أجنبي. النقطة الأكثر أهمية التي أراد كلابر أن يلفت الإنتباه إليها أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي هي ان الكثير ممن يدخلون سوريا أسبوعياً لا يبقون هناك، وان المجموعات المرتبطة بتنظيم القاعدة ترسل عناصرها إلى سوريا للمشاركة في تدريبات عسكرية قبل العودة إلى دولهم وتنفيذ هجمات فيها. وهذا يعني ان سوريا باتت ساحة للتدريب ومركزاً لتوزيع المهام القاعديّة على دول أخرى في الشرق الأوسط والعالم. كما ذكر كلابر "جبهة النصرة" بالإسم على أنها تسعى لتنفيذ هجمات على الولايات المتحدة ومصالحها. وهذا المعطى الأخير يشير مجددا الى ان الأميركيين غير مقتنعين بمحاولات تبذلها جهات عربية وسورية معارضة لتعريب "جبهة النصرة" وتصويرها على انها تعمل لأجندة سورية محلية، برغم أنها تعلن صراحة ارتباطها بالقاعدة، وتمييزها عن "داعش" التي باتت مشروعاً قائماً بذاته خرج من عباءة التنظيم العالمي لتجسيد مشروع "دولة" تدعو لنفسها وتدين بالولاء للبغدادي وليس للظواهري. ووصفت رئيسة لجنة الاستخبارات السناتور ديان فنشتاين الوضع في سوريا بأنه أبرز تهديد أمني ملحوظ منذ آخر اجتماع للجنة بشأن التهديدات العالمية للأمن الأميركي.

لقد اتهم الأميركيون مراراً في السابق النظام السوري بالتركيز المبالغ فيه على وجود الإرهاب والقاعدة في سوريا، وقللوا من شأن ذلك الى حد الإنكار تقريباً، لكنهم الآن باتوا يعترفون بأن تقديراتهم السابقة لم تكن دقيقة، وظهر مؤخراً تحول في التعاطي الأميركي تمثل بالضغط على المعارضة للجلوس الى طاولة الحوار مع النظام لإيجاد مقاربة سياسية – أمنية، تلافياً لاتساع نطاق المشهد "القاعديّ" والتشرذم في صفوف المعارضة المسلحة. وألمح مسؤولون أميركيون في هذا السبيل الى انهم لا يودون ان يكونوا مضطرين للإختيار بين النظام والقاعدة.

السعودية: حملة ضد التجنيد في سوريا

تشكلُ سوريا أكثر المواضيع التي تبعث على الشعور بالصداع في السعودية. وبرغم ان الرياض انخرطت متأخرة بضعة شهور فحسب في مشروع إسقاط النظام في سوريا، على أمل تحقيق اختراق في الخريطة الاستراتيجية في المنطقة على حساب محور المقاومة، فإنها تشعر الآن كما لو ان استثمار مليارات الدولارات ووضع ثقل السياسة السعودية وراء هذا المشروع معرّض للضياع، على ضوء إعادة العديد من الدول مراجعة سياساتها حيال تطورات هذا البلد. إضافة الى ذلك، ثمة تخبط واسع في داخل المملكة حيال التعامل مع حقيقة تورط الكثير من أبنائها في القتال؛ فسجال دعاة المؤسسة الدينية المسيطرة حول وجوب او حرمة الذهاب الى سوريا للمشاركة في الحرب يشير الى ان الحكومة بدأت تستشعر الأخطار الأمنية المتأتية من عودة المقاتلين "الجهاديين" الى المملكة وما يحمله ذلك من أخطار. وحتى إن لم يعودوا، فإن هؤلاء بمقدورهم عبر وسائل الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي الالكتروني نقل أفكارهم العنيفة ضد النظام السعودي وكذلك تجنيد شبان جدد ونقل خبراتهم القتالية المكتسبة في سوريا.

لم يعد سراً أن آلاف الشباب السعوديين أصبحوا في قلب الحرب في سوريا، والمئات منهم قـُتلوا بالفعل. قيل الكثير عن تغاضي السلطات عن توجه الكثيرين منهم الى سوريا، على أمل التخلص من الشغب الذي يثيرونه للسلطات، لكن هذه السياسة لم تعد مغرية. لقد أعطت السلطات الضوء الأخضر للإعلاميين لمهاجمة الدعاة الذين ينظـّرون لمشاركة الشباب السعودي في هذه الحرب، وبالخصوص في صفوف التنظيمات التي تقاتل الى جانب فروع القاعدة. ترتدي الحملة طابع التنفير من "داعش" تارة، وطابع الحديث عن استغلال الشباب السعوديين في حرب تقع في "مواطن فتنة"! برغم ان حكومة الرياض لا تزال تصر على التعبئة من أجل تحقيق انتصار يؤدي الى قلب النظام السوري.

لقد تعرض المشروع السعودي لضربة قوية بفعل التفاهم الروسي- الأميركي الذي يفضي الى إزالة السلاح الكيماوي في سوريا، ثم تعرض لنكسة اخرى مع فشل هجوم الجماعات المسلحة على جبهتي حلب والغوطة الشرقية، والآن يواجه مشكلة جدية بفعل تمكن تنظيم داعش من استعادة زمام المبادرة في مجابهة الفصائل المنافسة المدعومة من السعودية في ريف حلب وريف ادلب. لقد أصبح النقاش على مواقع التواصل الاجتماعي حول أحداث داعش والفصائل المنافسة كأنه امر يخص حدثاً داخل البيت السعودي بين مؤيد لهذا الطرف ومناصر لذاك، مع وفرة في مفردات الإتهام والسجال الحديثي- الفقهي الذي ينبئ عن اصطفاف سعودي (حكومي)- سعودي (سلفي معارض للنظام) يتفاعل باضطراد.

وما يجري من صداع سعودي بشأن سوريا يصح جزء منه في الاردن الذي بات يشعر بأن أمنه يتعرض لتحديات خطيرة في ضوء الخروق المتتالية للحدود وعمليات تهريب السلاح والمسلحين، إضافة الى اشتداد سطوة التيار التكفيري المنخرط بقوة في معارك سوريا.

لم تعد الحرب في سوريا ذات مردود مجز ٍ للأنظمة والحكومات التي رعتها، إنها حرب معقدة ذات أبعاد دولية وإقليمية؛ بدأ الأمر بحراك مطلبي قبل ان يجري اختطافه وتحويله حرباً بالوكالة لإسقاط النظام السوري بالضربة القاضية، ثم تحولت حرب استنزاف، والآن تتطور الى حرب عابرة للحدود يأكل فيها كل طرف خارجي نصيبه من حصاد السم الذي زرعه على مدى السنوات الثلاث الماضية.

  • فريق ماسة
  • 2014-02-01
  • 12656
  • من الأرشيف

الحرب في سورية ترتدّ على أعناق رعاتها: الإرهاب يستدير في الإتجاه المعاكس

 ثمة يقظة متأخرة لدى بعض حكومات دول المنطقة حيال عواقب الانغماس المبالغ فيه بالأزمة السورية والتقديرات غير الواقعية لتطور مسارها. لم تعد "القاعدة" او "داعش" او "النصرة" خطراً يقتصر على سوريا، إضافة الى العراق، بل إن الأصوات بدأت تعلو من أنقرة والرياض بصورة متزايدة للتحذير من وصول الحريق السوري الى أطراف الثوبين التركي والسعودي. إعلان تركيا عن قصف رتل لـ"داعش" في سوريا هو أول تحرك عسكري تركي يستهدف التنظيم مباشرة، ويأتي بعد سلسلة خطوات أقدمت عليها أنقرة ضد أعضاء في القاعدة على اراضيها، وأسفرت عن اعتقال قيادي في التنظيم وعدد من آخر من عناصره. كما اتخذت تركيا خطوات اخرى مفاجئة من بينها مصادرة أسلحة ضبطت على الحدود اثناء توجهها الى سوريا. تركيا: العدو داخل البيت ويبدو ان تحركات سلطات تركيا تندرج في سياق بداية مراجعة لسياساتها ازاء سوريا، بعد مراهنة طويلة على سقوط النظام. وافتتح هذه المراجعة الرئيسُ التركي عبد الله غول بإعلانه قبل ما يزيد على اسبوعين ان على تركيا أن تعيد تقييم دبلوماسيتها وسياساتها الأمنية نظراً إلى "الوقائع" في جنوب البلاد، مشددا على أن الوضع الحالي "يشكل سيناريو خاسراً لكل دولة ونظام وشعب في المنطقة". وكانت تقارير وشهادات كثيرة قد أفادت أن تركيا تـُعَدّ محطة هامة لوصول المقاتلين الأجانب الى سوريا، ويبدو أن بنية تحتية أقيمت لاستقبال هؤلاء قبل نقلهم الى الأراضي السورية حيث يتم توزيعهم على جبهة النصرة او داعش او سواهما، بحسب الجهة التي تستقبلهم. وكان من اللافت ان ينبري رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان الى تأكيد ان حكومته "لا تدعم لا القاعدة ولا جبهة النصرة، بل على العكس هي ضد كل الجماعات القادمة من خارج سوريا"، مستثنياً ضمناً الجماعات المسلحة التي تحظى برعاية أنقرة ضمن ما يسمى "الجبهة الاسلامية". ويُنظر الى هذا التصريح على أنه رد على الانتقادات التي طالت سياسة غض الطرف التي اتبعتها أنقرة طويلا حيال مرور المقاتلين الاجانب المرتبطين بالقاعدة الى سوريا. أما وقد تبين ان القاعدة تفرّخ خلايا في تركيا، كما في بلدان أخرى في المنطقة، فان السلطات التركية تبدو مضطرة الى نفض يدها من هذا الملف وإعادة تقييم خطره على الأمن في عقر دارها. واذا كانت السلطات التركية تبدو أكثر تكتماً في معالجة هذا الملف، فإنها لا تخفي مخاوف من انعكاس سيطرة تنظيم داعش على نقاط حدودية سورية، ومنها تل ابيض في محافظة الرقة، وجرابلس في حلب، بينما يقترب من معبر باب الهوى في محافظة ادلب. وكما تنبئء الكثير من التجارب، فإن الإرهاب التكفيري ليس عابراً للحدود فحسب، بل هو يبحث عن مَوَاطن يحل فيها أينما ذهب. لقد تبين ان للقاعدة حضوراً في تركيا، يقوم على مواطنين أتراك بتواطؤ او مساندة من جهات محلية تحت عنوانٍ خيري أو غيره. وقد عمدت السلطات في الأيام الاخيرة الى إجراء حملة مناقلات واسعة في محافظات تركية محاذية لسوريا، وشملت في غازي عنتاب (جنوب البلاد) وحدها 27 مدير أمن ورؤساء شعب أمنية من بينها شعبة حماية المنشآت الحساسة وشعبة مكافحة الارهاب وشعبة المواد المتفجرة. وبرغم ان أوساطاً مرتبطة بالحكومة وضعت هذا الإجراء الواسع في اطار تصفية نفوذ جماعة الداعية فتح الله غولن في أجهزة الدولة، في ضوء تفجر الخلاف بينه وبين رئيس الوزراء اردوغان، الا ان موقع غازي عنتاب الحساس على الحدود السورية وطبيعة الوظائف التي شملتها الاجراءات توحي بأن الأمر يتعدى مشكلة داخلية. في وقت صدرت تحذيرات من جهات أمنية تركية تتعلق باحتمال وقوع هجمات يشنها تنظيم القاعدة ومتفرعاته على الاراضي التركية، ونُقلت بعض هذه التحذيرات الى الائتلاف السوري المعارض الذي يتخذ من اسطنبول مقرا له، وتناولت بالتحديد إمكان قيام "داعش" بهجوم انتحاري ضد الائتلاف بعد صدور تهديد صريح من التنظيم باستهدافه بوصفه "طائفة ردة وكفر". لكن رئيس المخابرات العسكرية الإسرائيلية أفيف كوخافي الذي يحتفظ بصلات مع الأجهزة الامنية التركية ذهب أبعد من ذلك في "كشف المستور"، إذ قال إن بعض مقاتلي القاعدة الذين يذهبون إلى الحرب في سوريا لديهم قواعد في تركيا المجاورة ويمكنهم الوصول بسهولة إلى أوروبا عن طريقها. وعرض كوخافي في مؤتمر أمني في فلسطين المحتلة خريطة للشرق الأوسط مبين عليها "ثلاث قواعد لتنظيم القاعدة داخل تركيا"، قيل إنها في أقاليم قرة مان وعثمانية وأورفة جنوب تركيا. وقدّر كوخافي عدد المقاتلين الاجانب الذين يقفون مع المعارضة المسلحة بأكثر من ثلاثين ألفاً، وهو عدد ضخم نسبياً لم يسبق تسجيل مثيل له (لمقاتلين أجانب) في أي مكان آخر من قبل.   مأزق الغرب: النظام او القاعدة أما مدير هيئة الاستخبارات الوطنية الأمريكية "جيمس كلابر" فيتحدث عن أكثر من 26 ألف عنصر إرهابي من بين عشرات الآلاف الذين يقاتلون ضد الحكومة السورية، ويقول إن 7 آلاف من هؤلاء أجانب جاؤوا من نحو 50 بلدا بينها دول كثيرة في أوروبا والشرق الأوسط، وهذا الرقم أعلى بكثير من الرقم الاميركي المقدر سابقا وهو 3- 4 آلاف أجنبي. النقطة الأكثر أهمية التي أراد كلابر أن يلفت الإنتباه إليها أمام لجنة الاستخبارات في مجلس الشيوخ الأميركي هي ان الكثير ممن يدخلون سوريا أسبوعياً لا يبقون هناك، وان المجموعات المرتبطة بتنظيم القاعدة ترسل عناصرها إلى سوريا للمشاركة في تدريبات عسكرية قبل العودة إلى دولهم وتنفيذ هجمات فيها. وهذا يعني ان سوريا باتت ساحة للتدريب ومركزاً لتوزيع المهام القاعديّة على دول أخرى في الشرق الأوسط والعالم. كما ذكر كلابر "جبهة النصرة" بالإسم على أنها تسعى لتنفيذ هجمات على الولايات المتحدة ومصالحها. وهذا المعطى الأخير يشير مجددا الى ان الأميركيين غير مقتنعين بمحاولات تبذلها جهات عربية وسورية معارضة لتعريب "جبهة النصرة" وتصويرها على انها تعمل لأجندة سورية محلية، برغم أنها تعلن صراحة ارتباطها بالقاعدة، وتمييزها عن "داعش" التي باتت مشروعاً قائماً بذاته خرج من عباءة التنظيم العالمي لتجسيد مشروع "دولة" تدعو لنفسها وتدين بالولاء للبغدادي وليس للظواهري. ووصفت رئيسة لجنة الاستخبارات السناتور ديان فنشتاين الوضع في سوريا بأنه أبرز تهديد أمني ملحوظ منذ آخر اجتماع للجنة بشأن التهديدات العالمية للأمن الأميركي. لقد اتهم الأميركيون مراراً في السابق النظام السوري بالتركيز المبالغ فيه على وجود الإرهاب والقاعدة في سوريا، وقللوا من شأن ذلك الى حد الإنكار تقريباً، لكنهم الآن باتوا يعترفون بأن تقديراتهم السابقة لم تكن دقيقة، وظهر مؤخراً تحول في التعاطي الأميركي تمثل بالضغط على المعارضة للجلوس الى طاولة الحوار مع النظام لإيجاد مقاربة سياسية – أمنية، تلافياً لاتساع نطاق المشهد "القاعديّ" والتشرذم في صفوف المعارضة المسلحة. وألمح مسؤولون أميركيون في هذا السبيل الى انهم لا يودون ان يكونوا مضطرين للإختيار بين النظام والقاعدة. السعودية: حملة ضد التجنيد في سوريا تشكلُ سوريا أكثر المواضيع التي تبعث على الشعور بالصداع في السعودية. وبرغم ان الرياض انخرطت متأخرة بضعة شهور فحسب في مشروع إسقاط النظام في سوريا، على أمل تحقيق اختراق في الخريطة الاستراتيجية في المنطقة على حساب محور المقاومة، فإنها تشعر الآن كما لو ان استثمار مليارات الدولارات ووضع ثقل السياسة السعودية وراء هذا المشروع معرّض للضياع، على ضوء إعادة العديد من الدول مراجعة سياساتها حيال تطورات هذا البلد. إضافة الى ذلك، ثمة تخبط واسع في داخل المملكة حيال التعامل مع حقيقة تورط الكثير من أبنائها في القتال؛ فسجال دعاة المؤسسة الدينية المسيطرة حول وجوب او حرمة الذهاب الى سوريا للمشاركة في الحرب يشير الى ان الحكومة بدأت تستشعر الأخطار الأمنية المتأتية من عودة المقاتلين "الجهاديين" الى المملكة وما يحمله ذلك من أخطار. وحتى إن لم يعودوا، فإن هؤلاء بمقدورهم عبر وسائل الاتصال ومواقع التواصل الاجتماعي الالكتروني نقل أفكارهم العنيفة ضد النظام السعودي وكذلك تجنيد شبان جدد ونقل خبراتهم القتالية المكتسبة في سوريا. لم يعد سراً أن آلاف الشباب السعوديين أصبحوا في قلب الحرب في سوريا، والمئات منهم قـُتلوا بالفعل. قيل الكثير عن تغاضي السلطات عن توجه الكثيرين منهم الى سوريا، على أمل التخلص من الشغب الذي يثيرونه للسلطات، لكن هذه السياسة لم تعد مغرية. لقد أعطت السلطات الضوء الأخضر للإعلاميين لمهاجمة الدعاة الذين ينظـّرون لمشاركة الشباب السعودي في هذه الحرب، وبالخصوص في صفوف التنظيمات التي تقاتل الى جانب فروع القاعدة. ترتدي الحملة طابع التنفير من "داعش" تارة، وطابع الحديث عن استغلال الشباب السعوديين في حرب تقع في "مواطن فتنة"! برغم ان حكومة الرياض لا تزال تصر على التعبئة من أجل تحقيق انتصار يؤدي الى قلب النظام السوري. لقد تعرض المشروع السعودي لضربة قوية بفعل التفاهم الروسي- الأميركي الذي يفضي الى إزالة السلاح الكيماوي في سوريا، ثم تعرض لنكسة اخرى مع فشل هجوم الجماعات المسلحة على جبهتي حلب والغوطة الشرقية، والآن يواجه مشكلة جدية بفعل تمكن تنظيم داعش من استعادة زمام المبادرة في مجابهة الفصائل المنافسة المدعومة من السعودية في ريف حلب وريف ادلب. لقد أصبح النقاش على مواقع التواصل الاجتماعي حول أحداث داعش والفصائل المنافسة كأنه امر يخص حدثاً داخل البيت السعودي بين مؤيد لهذا الطرف ومناصر لذاك، مع وفرة في مفردات الإتهام والسجال الحديثي- الفقهي الذي ينبئ عن اصطفاف سعودي (حكومي)- سعودي (سلفي معارض للنظام) يتفاعل باضطراد. وما يجري من صداع سعودي بشأن سوريا يصح جزء منه في الاردن الذي بات يشعر بأن أمنه يتعرض لتحديات خطيرة في ضوء الخروق المتتالية للحدود وعمليات تهريب السلاح والمسلحين، إضافة الى اشتداد سطوة التيار التكفيري المنخرط بقوة في معارك سوريا. لم تعد الحرب في سوريا ذات مردود مجز ٍ للأنظمة والحكومات التي رعتها، إنها حرب معقدة ذات أبعاد دولية وإقليمية؛ بدأ الأمر بحراك مطلبي قبل ان يجري اختطافه وتحويله حرباً بالوكالة لإسقاط النظام السوري بالضربة القاضية، ثم تحولت حرب استنزاف، والآن تتطور الى حرب عابرة للحدود يأكل فيها كل طرف خارجي نصيبه من حصاد السم الذي زرعه على مدى السنوات الثلاث الماضية.

المصدر : المنار /علي عبادي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة