دولة الإسلام في العراق والشام"الروافض"، "الصفويون" "الفرس"،"دولة الإسلام في العراق والشام"، "إقامة إمارة إسلامية تمهيداً للدخول في مشروع إقامة الخلافة أو الإمامة الكبرى"،عبارات يسمعها جيل اليوم مستغرباً من دلالالتها وما يرافقها من عنف وقتل ودمار، وهي التي كانت حبيسة كتب ارتبطت بنظريات فقهية وصفها علماء زمانها بالوضيعة لا ترقى إلى أبسط علوم الفقة والحديث التي كانت رائجة أنذاك.

هي عبارات كانت تضج بها أدبيات السلفية الحنبلية في قرن بعيد عفى عليه الزمن، إذا حاربها علماؤه وأوقفوها عند حدود الإبقاء عليها نظريا، ودفنتها الأجيال اللاحقة، عندما بدأت التغيرات الكبرى تدخل إلى المشرق العربي. ولكن السؤال الملح أمام هذا الجيل الذي يموت تحت وطأة حموتها من أيقظ هذه "المذهبية الوضيعة" من سباتها؟! ولماذا تعود اليوم في القرن الحادي والعشرين؟!..

غير صحيح أن هناك انقطاعاً تاريخياً بين سلفية ابن حنبل وصولاً إلى سلفية اليوم. في بلاد الحجاز، حيث أقدس تراث الدين الإسلامي، نشأت بدعة دينية "الوهابية" في القرن الثامن عشر، استوحت تعاليمها ومفرداتها "الوضيعة" من الحنبلية ومن فكر ابن تيميه التكفيري، وتمكنت أن تصنع لها سلطة زمنية، فكان أن توحدت البدعة مع السيف وألة القتل "الجهاد" لتقوم على أنقاض أصحاب الأرض الأصليين مملكة القهر والإستبداد وسميت تيمناً بمؤسسيها "المملكة العربية السعودية". وبذلك تصبح هذه المملكة هي الدولة الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية التي قامت على القتل وطرد السكان الأصليين وارتكاب المجازر بمن بقي منهم، لتنضم "إسرائيل" إلى اللائحة في القرن العشرين وتصبح الرقم الثالث فيها والأخير إلى اليوم.

الوئام بين أل سعود والوهابية  

كيف تحقق الوئام والوحدة بين "الوهابية" وآل سعود حتى تمكنّوا من إقامة مملكتهم في بلاد الحجاز العربية؟!! كيف لبدعة دينية أن تستغل السياسة والسلطة لتتحكم بمصائر الناس، وكيف لسلطة ترفع راية الدين لتحقق لها السيطرة على الجغرافيا والتاريخ والحضارة؟!.. أم أن العملية كانت عكسية ؟!!، هذا ما يجلي عنه كتاب "العقيدة والسياسة في السعودية"، للكاتب والباحث السعودي الدكتور فؤاد إبراهيم، الصادر عن دار الملتقى، في العام 2010.

 

غلاف كتاب الساسية والعقيدة في السعودية للدكتور فؤاد إبراهيم منذ نشأت الحركة الوهابية أعلنت بصراحة أنها هي دين الحق ومذهب "السنة" الصحيحة ومنهج التوحيد السليم ومن خالفها من عموم المسلمين أهل بدعة وضلالة وهم في النار إلا إذا تابوا وعادوا للدين السليم، الذي وضع قواعده ابن تيمية واسس لمنهجه الحديث الشيخ محمد ابن عبد الوهاب. وبدأت هذه الحركة، التي تشكلت من العصابات واللصوص، أعمالها الدموية مبكراً فأغارت أولى سراياها العسكرية، بعد أن أعلن الشيخ نفسه الجهاد، على الأعراب يسلبونهم المال والنساء ويعملون فيهم القتل. وبدأت فتاوى التكفير والقتل تظهر. وأول من قتل كان أئمة المساجد كما ظهر في مجموعة رسائل ابن عبد الوهاب في أحد المشهورين. يقول : «إن عثمان بن معمَّر ــ حاكم بلد عيينة ــ مشركٌ كافر، فلما تحقق المسلمون من ذلك تعاهدوا على قتله بعد انتهائه من صلاة الجمعة، وقتلناه وهو في مصلاه بالمسجد في رجب 1163 هـ.». وانتشرت رحلة القتل الممنهج وطالت جرائم الوهابية كل الجزيرة العربية وما حولها حتى أنها وصلت إلى وسط الأردن في معركة زيزيا المعروفة بين القبائل الأردنية وغزت الرياض، واستباحت أموال أهلها ثم غزت الطائف وحدثت مجزرة معروفة مشهورة في التاريخ.

أما في تاريخ اليوم، وفي نظرة تأمل، وعلى أفق واسع – يقول الدكتور فؤاد إبراهيم في إحدى مقالاته - يمكن الجزم بأن "الطائفية الشعبية" منتج وهابي بامتياز، لا تلبث أن تتحوّل إلى ظاهرة مسلّحة في أي بيئة تتوافر فيها شروط تسييل الأفكار الطائفية إلى أفعال إرهابية. ومهما جرت محاولات طمس الآثار الأيديولوجية للعنف في العراق وباكستان وحديثاً في تونس ومصر وسوريا ولبنان واليمن، فإن نزعة نفي الآخر بيولوجياً أصيلة في الأدبيات الوهابية القديمة والحديثة (هل سمع أحد بظاهرة سحل الجثث والتمثيل بها قبل الدخول الوهابي المسلّح الى هذه البلدان؟!.

وقد جاء في كتاب (السياسة الشرعية، ج1 ص 106 ومابعدها) لشيخ الاسلام ابن تيمية: "وأيما طائفة ممتنعة انتسبت إلى الإسلام وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين، حتى يكون الدين كله لله". يمكن قراءة الأدبيات الوهابية بوصفها تمظهرات أمينة عن الهوية الأيديولوجية الأصلية للتنظيمات "القاعدية"، فالحرب في سورية التي يشارك فيها عناصر جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة تعتمد أيديولوجية وهابية، ولا صلة للنظام السوري بالدين بل وصف قبل فترة بأنه النظام العلماني الوحيد في الشرق الأوسط بعد سقوط نظامي حسني مبارك وزين العابدين بن علي، ولكن لا يمكن تعبئة الشارع وتجنيد المقاتلين لمجرد كون النظام السوري علمانياً، وليس هناك من إمكانية لتعبئة المناخ الدولي ضده، ولذلك لجأت الوهابية الى العنوان الطائفي، فأصبح التحريض سهلاً وببساطة متناهية: إنه نظام "علوي" يقوم بقتل المسلمين "السنة". وكانت عبارة من هذا القبيل كفيلة بأن تلبّد العالم العربي والاسلامي بغيوم سوداء وتمطر دماً غزيراً، لأن ما هو مطلوب قد تحقق فتنة طائفية، تخرج الوهابية من أقليتها وتضعها في معسكر الاغلبية، خصم الأمس حليف اليوم.

شيخ الأزهر أحمد الطيب له تصريح مشهور بأن :"السلفيين الجدد هم خوارج العصر". وقال بأن جمهور المسلمين لم يكونوا على مذهب السلفية، وأن من يرى الصلاة في مساجد فيها أضرحة باطلة، أو يجب هدم القبور، وتقصير الثياب، هم ليسوا من السلف بل هم من "غلاة الحنابلة"، ووصفهم بالتساهل بالتكفير، والتجسيم، وهما "أهم صفتين في هذا المذهب"، ويقصد به من عهد الشيخ إبن تيمية وحتى عصرنا الحاضر.

تعميق الخلافات المذهبية لسيادة الوهابية :

الجهاد الوهابي هو ارهاب للأخراعتقدت الوهابية بأنها سوف تحقق حلماً مستحيلاً، من خلال ثالوث التكفير والهجرة والجهاد، وسوف ترغم بقية المسلمين على اعتناق أفكارها، ولكّنها واجهت مأزق العزلة، حتى في المجتمع الذي ضمته بعدما أصبحت مملكة بحكم آل سعود، إذ إنها لم تتمكن من توهيب كل مسلمي المملكة، وما حماهم من القتل رضوخهم لأمر السلطة، فكانت بحاجة إلى تعميق الاختلافات المذهبية لتبقى مفاهيم التكفير حاضرة بقوة ولا يجرؤ أحد على مواجهتها. ورغم ذلك هي أصبحت بحاجة الى التماهي مع الأغلبية، للإحتماء بها، ولتوظيفها في معركتها مع خصوم آخرين، ولذلك فهي تؤكّد على نزوعين: التأكيد على مفهوم أهل" السنة" والجماعة وأنها جزء من هذا الفضاء الكبير، وتعميق الإنقسام المذهبي عبر تغذية الخطاب الطائفي للحيلولة دون وقوعها خارج المساحة المشتركة بين المسلمين من كل الأطياف، ولذلك حاربت فكرة التقريب بين المذاهب لأنها تستثنيها وتتجاوزها، لأن وجودها قائم على أساس تعمّق الانقسام المذهبي، تماماً كما هو النظام السعودي الذي يحقق وحدة السلطة من خلال انقسام المجتمع، وبقاء التناقضات الاجتماعية والعقدية حاضرة بقوة في ثقافة أفراده وعلاقاتهم.

ونسوق تساؤلا أخر لا يقل أهمية عن الأول : لماذا إلى اليوم لم نرَ أن المملكة العربية السعودية تمثل اجتهادا إسلاميا، أو وطنيا مقبولا على الصعيد السياسي؟!..سؤال مشروع يطرحه كبار علماء الأمة اليوم، ويقول الشيخ ماهر حمود في مقال له في جريدة الأخبار منذ أسبوعين تقريباً، إن سياسة المملكة دائما مبنية على التنسيق الكامل ـــ إلى حد التبعية ـــ مع الولايات المتحدة الأميركية. ومثّل «اجتهادها» السياسي تكريساً للفصل بين الدين والسياسة، إذ إنها تقدم نفسها دائما كحامية للدين بحسب المذهب الوهابي، وحامية للحرمين، وتُزايد على الجميع بأنها لا تملك دستورا مكتوبا لأن دستورها القرآن، وبأن علمها هو الوحيد الذي لا ينكس لأنه علم التوحيد (لا اله إلا الله محمد رسول الله)...

التعامل والتطبيع مع الاحتلال البريطاني كان السلاح الأول الذي اعتمده بنو سعود في تثبيت مملكتهم ويؤكد الشيخ حمود أننا "لم نشعر يوما بأن الموقف السياسي السعودي يعتمد على معايير إسلامية أو وطنية – إسلامية. ومع ذلك كان الطابع العام للسياسة السعودية هو «الواقعية»، بمعنى أن مواقفها تتجنب المغامرة ومواجهة المجتمع الدولي، وتتركز على تأمين الاستقرار والرخاء الاقتصادي وتطوير الاستثمارات المالية... الخ. ولم تأخذ قضية فلسطين أو أي قضية من قضايا الأمة الكبرى حيزا واضحا، ولم تمثل يوما المملكة رافعةً لقضايا الأمة، أو حافزا للتقدم نحو الأهداف الكبرى المرجوة، التي تتمناها وتسعى إليها الشعوب العربية كافة".

لقد تقدمت بكل هذا السياق لنتمكن من الغور عميقاً في فصول الكتاب، لأهميته المركزية، في تبيان التعقيدات المركبة بين "مذهب الوهابية"، وآليات تحجره الفكري والثقافي وبين جموح أل سعود للسلطة في حجز مملكة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية وكيف آلت إليه المسارات التاريخية لهذا الإنشاء، لتصبح العقيدة والسياسة ركنين أساسين في تدعيم بقاء المملكة في تجربة مغايرة لكل دول العالم، بعيدا عن توسل الحداثة العلمية وابتكاراتها المعرفية في صنع الدساتير وتطوير حركة المجتمع.

انتظر هذا المحور في الجزء الثاني للمقال ..

 

  • فريق ماسة
  • 2014-01-30
  • 12474
  • من الأرشيف

المملكة السعودية "مستعَمَرة" إن حكت تاريخاً دموياً..! (1)

 دولة الإسلام في العراق والشام"الروافض"، "الصفويون" "الفرس"،"دولة الإسلام في العراق والشام"، "إقامة إمارة إسلامية تمهيداً للدخول في مشروع إقامة الخلافة أو الإمامة الكبرى"،عبارات يسمعها جيل اليوم مستغرباً من دلالالتها وما يرافقها من عنف وقتل ودمار، وهي التي كانت حبيسة كتب ارتبطت بنظريات فقهية وصفها علماء زمانها بالوضيعة لا ترقى إلى أبسط علوم الفقة والحديث التي كانت رائجة أنذاك. هي عبارات كانت تضج بها أدبيات السلفية الحنبلية في قرن بعيد عفى عليه الزمن، إذا حاربها علماؤه وأوقفوها عند حدود الإبقاء عليها نظريا، ودفنتها الأجيال اللاحقة، عندما بدأت التغيرات الكبرى تدخل إلى المشرق العربي. ولكن السؤال الملح أمام هذا الجيل الذي يموت تحت وطأة حموتها من أيقظ هذه "المذهبية الوضيعة" من سباتها؟! ولماذا تعود اليوم في القرن الحادي والعشرين؟!.. غير صحيح أن هناك انقطاعاً تاريخياً بين سلفية ابن حنبل وصولاً إلى سلفية اليوم. في بلاد الحجاز، حيث أقدس تراث الدين الإسلامي، نشأت بدعة دينية "الوهابية" في القرن الثامن عشر، استوحت تعاليمها ومفرداتها "الوضيعة" من الحنبلية ومن فكر ابن تيميه التكفيري، وتمكنت أن تصنع لها سلطة زمنية، فكان أن توحدت البدعة مع السيف وألة القتل "الجهاد" لتقوم على أنقاض أصحاب الأرض الأصليين مملكة القهر والإستبداد وسميت تيمناً بمؤسسيها "المملكة العربية السعودية". وبذلك تصبح هذه المملكة هي الدولة الثانية في العالم بعد الولايات المتحدة الأميركية التي قامت على القتل وطرد السكان الأصليين وارتكاب المجازر بمن بقي منهم، لتنضم "إسرائيل" إلى اللائحة في القرن العشرين وتصبح الرقم الثالث فيها والأخير إلى اليوم. الوئام بين أل سعود والوهابية   كيف تحقق الوئام والوحدة بين "الوهابية" وآل سعود حتى تمكنّوا من إقامة مملكتهم في بلاد الحجاز العربية؟!! كيف لبدعة دينية أن تستغل السياسة والسلطة لتتحكم بمصائر الناس، وكيف لسلطة ترفع راية الدين لتحقق لها السيطرة على الجغرافيا والتاريخ والحضارة؟!.. أم أن العملية كانت عكسية ؟!!، هذا ما يجلي عنه كتاب "العقيدة والسياسة في السعودية"، للكاتب والباحث السعودي الدكتور فؤاد إبراهيم، الصادر عن دار الملتقى، في العام 2010.   غلاف كتاب الساسية والعقيدة في السعودية للدكتور فؤاد إبراهيم منذ نشأت الحركة الوهابية أعلنت بصراحة أنها هي دين الحق ومذهب "السنة" الصحيحة ومنهج التوحيد السليم ومن خالفها من عموم المسلمين أهل بدعة وضلالة وهم في النار إلا إذا تابوا وعادوا للدين السليم، الذي وضع قواعده ابن تيمية واسس لمنهجه الحديث الشيخ محمد ابن عبد الوهاب. وبدأت هذه الحركة، التي تشكلت من العصابات واللصوص، أعمالها الدموية مبكراً فأغارت أولى سراياها العسكرية، بعد أن أعلن الشيخ نفسه الجهاد، على الأعراب يسلبونهم المال والنساء ويعملون فيهم القتل. وبدأت فتاوى التكفير والقتل تظهر. وأول من قتل كان أئمة المساجد كما ظهر في مجموعة رسائل ابن عبد الوهاب في أحد المشهورين. يقول : «إن عثمان بن معمَّر ــ حاكم بلد عيينة ــ مشركٌ كافر، فلما تحقق المسلمون من ذلك تعاهدوا على قتله بعد انتهائه من صلاة الجمعة، وقتلناه وهو في مصلاه بالمسجد في رجب 1163 هـ.». وانتشرت رحلة القتل الممنهج وطالت جرائم الوهابية كل الجزيرة العربية وما حولها حتى أنها وصلت إلى وسط الأردن في معركة زيزيا المعروفة بين القبائل الأردنية وغزت الرياض، واستباحت أموال أهلها ثم غزت الطائف وحدثت مجزرة معروفة مشهورة في التاريخ. أما في تاريخ اليوم، وفي نظرة تأمل، وعلى أفق واسع – يقول الدكتور فؤاد إبراهيم في إحدى مقالاته - يمكن الجزم بأن "الطائفية الشعبية" منتج وهابي بامتياز، لا تلبث أن تتحوّل إلى ظاهرة مسلّحة في أي بيئة تتوافر فيها شروط تسييل الأفكار الطائفية إلى أفعال إرهابية. ومهما جرت محاولات طمس الآثار الأيديولوجية للعنف في العراق وباكستان وحديثاً في تونس ومصر وسوريا ولبنان واليمن، فإن نزعة نفي الآخر بيولوجياً أصيلة في الأدبيات الوهابية القديمة والحديثة (هل سمع أحد بظاهرة سحل الجثث والتمثيل بها قبل الدخول الوهابي المسلّح الى هذه البلدان؟!. وقد جاء في كتاب (السياسة الشرعية، ج1 ص 106 ومابعدها) لشيخ الاسلام ابن تيمية: "وأيما طائفة ممتنعة انتسبت إلى الإسلام وامتنعت من بعض شرائعه الظاهرة المتواترة فإنه يجب جهادها باتفاق المسلمين، حتى يكون الدين كله لله". يمكن قراءة الأدبيات الوهابية بوصفها تمظهرات أمينة عن الهوية الأيديولوجية الأصلية للتنظيمات "القاعدية"، فالحرب في سورية التي يشارك فيها عناصر جبهة النصرة المرتبطة بالقاعدة تعتمد أيديولوجية وهابية، ولا صلة للنظام السوري بالدين بل وصف قبل فترة بأنه النظام العلماني الوحيد في الشرق الأوسط بعد سقوط نظامي حسني مبارك وزين العابدين بن علي، ولكن لا يمكن تعبئة الشارع وتجنيد المقاتلين لمجرد كون النظام السوري علمانياً، وليس هناك من إمكانية لتعبئة المناخ الدولي ضده، ولذلك لجأت الوهابية الى العنوان الطائفي، فأصبح التحريض سهلاً وببساطة متناهية: إنه نظام "علوي" يقوم بقتل المسلمين "السنة". وكانت عبارة من هذا القبيل كفيلة بأن تلبّد العالم العربي والاسلامي بغيوم سوداء وتمطر دماً غزيراً، لأن ما هو مطلوب قد تحقق فتنة طائفية، تخرج الوهابية من أقليتها وتضعها في معسكر الاغلبية، خصم الأمس حليف اليوم. شيخ الأزهر أحمد الطيب له تصريح مشهور بأن :"السلفيين الجدد هم خوارج العصر". وقال بأن جمهور المسلمين لم يكونوا على مذهب السلفية، وأن من يرى الصلاة في مساجد فيها أضرحة باطلة، أو يجب هدم القبور، وتقصير الثياب، هم ليسوا من السلف بل هم من "غلاة الحنابلة"، ووصفهم بالتساهل بالتكفير، والتجسيم، وهما "أهم صفتين في هذا المذهب"، ويقصد به من عهد الشيخ إبن تيمية وحتى عصرنا الحاضر. تعميق الخلافات المذهبية لسيادة الوهابية : الجهاد الوهابي هو ارهاب للأخراعتقدت الوهابية بأنها سوف تحقق حلماً مستحيلاً، من خلال ثالوث التكفير والهجرة والجهاد، وسوف ترغم بقية المسلمين على اعتناق أفكارها، ولكّنها واجهت مأزق العزلة، حتى في المجتمع الذي ضمته بعدما أصبحت مملكة بحكم آل سعود، إذ إنها لم تتمكن من توهيب كل مسلمي المملكة، وما حماهم من القتل رضوخهم لأمر السلطة، فكانت بحاجة إلى تعميق الاختلافات المذهبية لتبقى مفاهيم التكفير حاضرة بقوة ولا يجرؤ أحد على مواجهتها. ورغم ذلك هي أصبحت بحاجة الى التماهي مع الأغلبية، للإحتماء بها، ولتوظيفها في معركتها مع خصوم آخرين، ولذلك فهي تؤكّد على نزوعين: التأكيد على مفهوم أهل" السنة" والجماعة وأنها جزء من هذا الفضاء الكبير، وتعميق الإنقسام المذهبي عبر تغذية الخطاب الطائفي للحيلولة دون وقوعها خارج المساحة المشتركة بين المسلمين من كل الأطياف، ولذلك حاربت فكرة التقريب بين المذاهب لأنها تستثنيها وتتجاوزها، لأن وجودها قائم على أساس تعمّق الانقسام المذهبي، تماماً كما هو النظام السعودي الذي يحقق وحدة السلطة من خلال انقسام المجتمع، وبقاء التناقضات الاجتماعية والعقدية حاضرة بقوة في ثقافة أفراده وعلاقاتهم. ونسوق تساؤلا أخر لا يقل أهمية عن الأول : لماذا إلى اليوم لم نرَ أن المملكة العربية السعودية تمثل اجتهادا إسلاميا، أو وطنيا مقبولا على الصعيد السياسي؟!..سؤال مشروع يطرحه كبار علماء الأمة اليوم، ويقول الشيخ ماهر حمود في مقال له في جريدة الأخبار منذ أسبوعين تقريباً، إن سياسة المملكة دائما مبنية على التنسيق الكامل ـــ إلى حد التبعية ـــ مع الولايات المتحدة الأميركية. ومثّل «اجتهادها» السياسي تكريساً للفصل بين الدين والسياسة، إذ إنها تقدم نفسها دائما كحامية للدين بحسب المذهب الوهابي، وحامية للحرمين، وتُزايد على الجميع بأنها لا تملك دستورا مكتوبا لأن دستورها القرآن، وبأن علمها هو الوحيد الذي لا ينكس لأنه علم التوحيد (لا اله إلا الله محمد رسول الله)... التعامل والتطبيع مع الاحتلال البريطاني كان السلاح الأول الذي اعتمده بنو سعود في تثبيت مملكتهم ويؤكد الشيخ حمود أننا "لم نشعر يوما بأن الموقف السياسي السعودي يعتمد على معايير إسلامية أو وطنية – إسلامية. ومع ذلك كان الطابع العام للسياسة السعودية هو «الواقعية»، بمعنى أن مواقفها تتجنب المغامرة ومواجهة المجتمع الدولي، وتتركز على تأمين الاستقرار والرخاء الاقتصادي وتطوير الاستثمارات المالية... الخ. ولم تأخذ قضية فلسطين أو أي قضية من قضايا الأمة الكبرى حيزا واضحا، ولم تمثل يوما المملكة رافعةً لقضايا الأمة، أو حافزا للتقدم نحو الأهداف الكبرى المرجوة، التي تتمناها وتسعى إليها الشعوب العربية كافة". لقد تقدمت بكل هذا السياق لنتمكن من الغور عميقاً في فصول الكتاب، لأهميته المركزية، في تبيان التعقيدات المركبة بين "مذهب الوهابية"، وآليات تحجره الفكري والثقافي وبين جموح أل سعود للسلطة في حجز مملكة على أنقاض الإمبراطورية العثمانية وكيف آلت إليه المسارات التاريخية لهذا الإنشاء، لتصبح العقيدة والسياسة ركنين أساسين في تدعيم بقاء المملكة في تجربة مغايرة لكل دول العالم، بعيدا عن توسل الحداثة العلمية وابتكاراتها المعرفية في صنع الدساتير وتطوير حركة المجتمع. انتظر هذا المحور في الجزء الثاني للمقال ..  

المصدر : المنار/زينب الطحان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة