ثمة مبدأ معروف في عالم القضاء الجزائي، يستعمله المحامون لتخليص وظيفتهم، في حالة العجز عن أداء رسالتهم، مفاده التوجه إلى القاضي بالقول: «لا أطلب الحقيقة، بل حق موكلي». أي أن المحامي يجد نفسه أحياناً أمام اتهام يعتبره باطلاً بحق موكله. فيحاول حصر جهده في السعي إلى تفنيد بطلانه. ولو لم يتمكن من إعادة بناء الاتهام الصحيح في القضية التي بين يديه. هكذا يصير هدفه إثبات أن الاتهام خاطئ، ولو لم يتوصل إلى استقراء الاتهام الصحيح. تصير كل غايته أن يظهر حق موكله في البراءة من اتهام مغلوط، ولو لم تتوصل المحاكمة إلى الحقيقة في الجناية المرتكبة.

ثمة شيء من هذا السلوك المجتزأ في أداء الفريقين المعنيين بمحكمة لاهاي التي بدأت قبل يومين. كأن كلاً من طرفيها، المدعي الحاضر كما المدعى عليه الغائب، يحاول إثبات بعض حقه، ولو لم يكتشف كل الحقيقة. علماً أن الجريمة هنا ليست عادية. ولا فردية ولا طبعاً شخصية. إنها جريمة سياسية جماعية ووطنية، خصوصاً إذا ما ربطناها بمسلسل الجرائم الذي سبقها وتلاها، من محاولة اغتيال مروان حماده إلى اغتيال محمد شطح. الجريمة هنا ليست مسألة جزائية سقط ضحيتها شخص أو عشرات. إنها جريمة ضد شعب ووطن، غيّرت مساره السياسي وحفرت في وجدان وتاريخ، وتركت آثاراً في النفوس والسلوك لا تزال متمادية وستظل كذلك إلى أمد طويل. وبالتالي لا يمكن للطرفين التعامل مع القضية على قاعدة أن هاجس كل منهما إظهار حقه وحسب. بل ثمة واجب على الطرفين في معرفة الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء إلا الحقيقة كما تقول أدبيات قسم الشهادة.

لماذا هذا الكلام؟ لأنه من جهة المدعى عليهم بداية، ومنذ اللحظة التي بدأت فيها تلاوة القرار الاتهامي، حُصرت ردود فعل المدافعين ــــ في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والنقاشات الخاصة ــــ في التشكيك بما يتلى ويكشف. وقد تعطى لهؤلاء المشككين كل الفرص والثغر والوقائع لتأكيد تشكيكهم. لكن هؤلاء أنفسهم سيظلون معنيين بجلاء بعض الحقائق حول ما تكشفه أوراق المحكمة: ماذا عن صحة شبكة الاتصالات الخلوية المذكورة مثلاً؟ ماذا عن صحة أصحابها، أو صحة أماكن وجودهم وتحركهم وهدفهم منها؟ خصوصاً، وهنا حساسية المسألة الكبرى، أنه منذ بدء الكلام عن تلك الشبكة من الاتصالات، قيل في البلد أن سعد الحريري فاتح حزب الله بأمرها. وإنه تلقى يومها اعترافاً بوجودها وبحصولها. وإنه أعطي تبريراً بأنها كانت مرتبطة بشبكة رصد ومتابعة لهدف إسرائيلي عدو كان في بيروت آنذاك. وهو ما يلقي على المشككين في أوراق لاهاي واجب أن يقولوا أكثر وأن يظهروا حقائق أكثر، وألا يكتفوا بإظهار حقهم، بل أيضاً بكشف الحقيقة المرتبطة بتلك الشبكة التي ربطتها لاهاي بما سمته «جنوب بيروت». وصولاً إلى الحق في التساؤل الآن، بعد ظهور ما يظهر: ما الذي يمنع ظهور مشتبه واحد على الأقل، ومثوله أمام المحكمة، ورده على كل ما يقال وقيامه بواجب فضح كل هذه التلفيقة المعادية؟

في المقابل، ورغم كلام سعد الحريري عن أن ما يريده هو العدالة لا الانتقام ولا الثأر، فهو يعرف ويدرك أن ردود فعل فريقه تخطت ذلك الموقف الأدبي منذ زمن بعيد وقبل مطرقة لاهاي بأعوام. فهي راحت تدين وتجزم وتطلق الأحكام المبرمة. كأن جلّ هدف فريقه هو انتزاع حق والده المغدور، في الحكم على قاتل ما. غير أن الحقيقة التي يجب على الحريري الابن أن يتنكّب واجب معرفتها ورسالة كشفها تتعدى ذلك. خصوصاً بعدما أظهرت أوراق لاهاي ما أظهرته من قدرة على رصد كل اتصال، لجهة موقعه وحركته وصاحبه. وهو ما يفرض على الحريري أن يحمل في ضميره ووجدانه، إلى جانب حقيقة من قتل والده وحاول قتل وطن وشعب، واجب أن يكتشف من حاول التمادي في الجريمة واستكمال ضحاياها، حين قال تقرير سابق للتحقيق الدولي أن شاحنة الميتسوبيشي جاءت من الزبداني إلى بيروت عبر حمانا (فقرة 98 من تقرير ميليس)، فيما تبين الآن أنها اشتريت من طرابلس. وكيف تم تصديق كلام أحد الشهود عن أنه «قبل 15 دقيقة من الاغتيال، كان في مكان قريب من منطقة سان جورج، وتلقى اتصالاً هاتفياً من مسؤول المخابرات السورية، سأل فيه أين أنت الآن، فقال له: في مكان كذا.. فأمره بترك الموقع مباشرة» (فقرة 102 منه). فيما كانت داتا الاتصالات في حوزة من كتب تلك الكذبة، وكان بالتالي قادراً على التأكد من كذبها. والأمر نفسه يصح على كل الكلام المغلوط في تلك التقارير، عن اجتماعات حضرها أناس اتهموا زوراً، وبنيت على اتهامهم جرائم سياسية استمرت أربعة أعوام في البلد، ولا تزال رواسبها والتداعيات. فيما كانت حقيقة كذبها وزورها مسجلة بالأرقام الجامدة أمامهم على سجلات الداتا... وعليه واجب أن يعرف حقيقة الغرض من تلك الأكاذيب، وكيف «انطلت» على من كانوا يملكون داتا الاتصالات معه وحوله وفي فريقه ومن أركانه، وكانوا قادرين بالتالي منذ اللحظة الأولى للاتهام الملفق، على أن يكتشفوا زوره وعلى أن يقولوا له: إنها كذبة! بدل أن يقنعوه ــــ كما سمعنا بأصواتهم ــــ بإكمال المغامرة والمقامرة والاستمرار في التزوير واستثماره...

وعليه خصوصاً، وهنا الحساسية المقابلة، أن يكتشف ويكشف حقيقة العلاقة بين ذلك الاتهام الباطل الكاذب، وبين الاتهام اللاحق الأكثر متانة وقدرة على مواجهة تزويرات المحاولة الأولى. وصولاً إلى الحقيقة حول قول التقرير الدولي نفسه، لا قول مشكك من هنا أو محرض من هناك، أنه «كان من الصعب على الأفراد خارج الدائرة الضيقة حول الحريري أن يتوقعوا الطريق التي سيسلكها موكبه» ( فقرة 143).

ذات يوم كتب التحقيق الدولي اتهاماً جائراً ضد الإعلام اللبناني، قائلاً انه «في لبنان (...) بعض وسائل الإعلام اللبنانية كان لديها ميل دائم ولسوء الحظ نحو نشر الإشاعات، وإذكاء التكهنات، وتقديم معلومات على أنها حقائق من دون تفحصها مسبقاً، وفي بعض الأحيان استخدام مواد تم الحصول عليها في ظروف مشكوك بها، من مصادر أطلعتها اللجنة على إيجازات، ومن ثم خلق حالة قلق بين الناس وإعاقة عمل اللجنة» (فقرة 16 من تقرير ميليس). اليوم يظهر أن من كتب تلك الأسطر هو أكثر من أعاق العدالة والحقيقة واخطأ وضلّ وضلّل. لكن الفرصة لا تزال قائمة أمام سعد الحريري، كما أمام المعنيين بالاتهام، للسعي، لا من أجل حقين متقابلين متناقضين، بل من أجل حقيقة واحدة جامعة.

  • فريق ماسة
  • 2014-01-17
  • 10255
  • من الأرشيف

آخر فرصة للمتهمين..وللحريري../بقلم جان عزيز

ثمة مبدأ معروف في عالم القضاء الجزائي، يستعمله المحامون لتخليص وظيفتهم، في حالة العجز عن أداء رسالتهم، مفاده التوجه إلى القاضي بالقول: «لا أطلب الحقيقة، بل حق موكلي». أي أن المحامي يجد نفسه أحياناً أمام اتهام يعتبره باطلاً بحق موكله. فيحاول حصر جهده في السعي إلى تفنيد بطلانه. ولو لم يتمكن من إعادة بناء الاتهام الصحيح في القضية التي بين يديه. هكذا يصير هدفه إثبات أن الاتهام خاطئ، ولو لم يتوصل إلى استقراء الاتهام الصحيح. تصير كل غايته أن يظهر حق موكله في البراءة من اتهام مغلوط، ولو لم تتوصل المحاكمة إلى الحقيقة في الجناية المرتكبة. ثمة شيء من هذا السلوك المجتزأ في أداء الفريقين المعنيين بمحكمة لاهاي التي بدأت قبل يومين. كأن كلاً من طرفيها، المدعي الحاضر كما المدعى عليه الغائب، يحاول إثبات بعض حقه، ولو لم يكتشف كل الحقيقة. علماً أن الجريمة هنا ليست عادية. ولا فردية ولا طبعاً شخصية. إنها جريمة سياسية جماعية ووطنية، خصوصاً إذا ما ربطناها بمسلسل الجرائم الذي سبقها وتلاها، من محاولة اغتيال مروان حماده إلى اغتيال محمد شطح. الجريمة هنا ليست مسألة جزائية سقط ضحيتها شخص أو عشرات. إنها جريمة ضد شعب ووطن، غيّرت مساره السياسي وحفرت في وجدان وتاريخ، وتركت آثاراً في النفوس والسلوك لا تزال متمادية وستظل كذلك إلى أمد طويل. وبالتالي لا يمكن للطرفين التعامل مع القضية على قاعدة أن هاجس كل منهما إظهار حقه وحسب. بل ثمة واجب على الطرفين في معرفة الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء إلا الحقيقة كما تقول أدبيات قسم الشهادة. لماذا هذا الكلام؟ لأنه من جهة المدعى عليهم بداية، ومنذ اللحظة التي بدأت فيها تلاوة القرار الاتهامي، حُصرت ردود فعل المدافعين ــــ في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي والنقاشات الخاصة ــــ في التشكيك بما يتلى ويكشف. وقد تعطى لهؤلاء المشككين كل الفرص والثغر والوقائع لتأكيد تشكيكهم. لكن هؤلاء أنفسهم سيظلون معنيين بجلاء بعض الحقائق حول ما تكشفه أوراق المحكمة: ماذا عن صحة شبكة الاتصالات الخلوية المذكورة مثلاً؟ ماذا عن صحة أصحابها، أو صحة أماكن وجودهم وتحركهم وهدفهم منها؟ خصوصاً، وهنا حساسية المسألة الكبرى، أنه منذ بدء الكلام عن تلك الشبكة من الاتصالات، قيل في البلد أن سعد الحريري فاتح حزب الله بأمرها. وإنه تلقى يومها اعترافاً بوجودها وبحصولها. وإنه أعطي تبريراً بأنها كانت مرتبطة بشبكة رصد ومتابعة لهدف إسرائيلي عدو كان في بيروت آنذاك. وهو ما يلقي على المشككين في أوراق لاهاي واجب أن يقولوا أكثر وأن يظهروا حقائق أكثر، وألا يكتفوا بإظهار حقهم، بل أيضاً بكشف الحقيقة المرتبطة بتلك الشبكة التي ربطتها لاهاي بما سمته «جنوب بيروت». وصولاً إلى الحق في التساؤل الآن، بعد ظهور ما يظهر: ما الذي يمنع ظهور مشتبه واحد على الأقل، ومثوله أمام المحكمة، ورده على كل ما يقال وقيامه بواجب فضح كل هذه التلفيقة المعادية؟ في المقابل، ورغم كلام سعد الحريري عن أن ما يريده هو العدالة لا الانتقام ولا الثأر، فهو يعرف ويدرك أن ردود فعل فريقه تخطت ذلك الموقف الأدبي منذ زمن بعيد وقبل مطرقة لاهاي بأعوام. فهي راحت تدين وتجزم وتطلق الأحكام المبرمة. كأن جلّ هدف فريقه هو انتزاع حق والده المغدور، في الحكم على قاتل ما. غير أن الحقيقة التي يجب على الحريري الابن أن يتنكّب واجب معرفتها ورسالة كشفها تتعدى ذلك. خصوصاً بعدما أظهرت أوراق لاهاي ما أظهرته من قدرة على رصد كل اتصال، لجهة موقعه وحركته وصاحبه. وهو ما يفرض على الحريري أن يحمل في ضميره ووجدانه، إلى جانب حقيقة من قتل والده وحاول قتل وطن وشعب، واجب أن يكتشف من حاول التمادي في الجريمة واستكمال ضحاياها، حين قال تقرير سابق للتحقيق الدولي أن شاحنة الميتسوبيشي جاءت من الزبداني إلى بيروت عبر حمانا (فقرة 98 من تقرير ميليس)، فيما تبين الآن أنها اشتريت من طرابلس. وكيف تم تصديق كلام أحد الشهود عن أنه «قبل 15 دقيقة من الاغتيال، كان في مكان قريب من منطقة سان جورج، وتلقى اتصالاً هاتفياً من مسؤول المخابرات السورية، سأل فيه أين أنت الآن، فقال له: في مكان كذا.. فأمره بترك الموقع مباشرة» (فقرة 102 منه). فيما كانت داتا الاتصالات في حوزة من كتب تلك الكذبة، وكان بالتالي قادراً على التأكد من كذبها. والأمر نفسه يصح على كل الكلام المغلوط في تلك التقارير، عن اجتماعات حضرها أناس اتهموا زوراً، وبنيت على اتهامهم جرائم سياسية استمرت أربعة أعوام في البلد، ولا تزال رواسبها والتداعيات. فيما كانت حقيقة كذبها وزورها مسجلة بالأرقام الجامدة أمامهم على سجلات الداتا... وعليه واجب أن يعرف حقيقة الغرض من تلك الأكاذيب، وكيف «انطلت» على من كانوا يملكون داتا الاتصالات معه وحوله وفي فريقه ومن أركانه، وكانوا قادرين بالتالي منذ اللحظة الأولى للاتهام الملفق، على أن يكتشفوا زوره وعلى أن يقولوا له: إنها كذبة! بدل أن يقنعوه ــــ كما سمعنا بأصواتهم ــــ بإكمال المغامرة والمقامرة والاستمرار في التزوير واستثماره... وعليه خصوصاً، وهنا الحساسية المقابلة، أن يكتشف ويكشف حقيقة العلاقة بين ذلك الاتهام الباطل الكاذب، وبين الاتهام اللاحق الأكثر متانة وقدرة على مواجهة تزويرات المحاولة الأولى. وصولاً إلى الحقيقة حول قول التقرير الدولي نفسه، لا قول مشكك من هنا أو محرض من هناك، أنه «كان من الصعب على الأفراد خارج الدائرة الضيقة حول الحريري أن يتوقعوا الطريق التي سيسلكها موكبه» ( فقرة 143). ذات يوم كتب التحقيق الدولي اتهاماً جائراً ضد الإعلام اللبناني، قائلاً انه «في لبنان (...) بعض وسائل الإعلام اللبنانية كان لديها ميل دائم ولسوء الحظ نحو نشر الإشاعات، وإذكاء التكهنات، وتقديم معلومات على أنها حقائق من دون تفحصها مسبقاً، وفي بعض الأحيان استخدام مواد تم الحصول عليها في ظروف مشكوك بها، من مصادر أطلعتها اللجنة على إيجازات، ومن ثم خلق حالة قلق بين الناس وإعاقة عمل اللجنة» (فقرة 16 من تقرير ميليس). اليوم يظهر أن من كتب تلك الأسطر هو أكثر من أعاق العدالة والحقيقة واخطأ وضلّ وضلّل. لكن الفرصة لا تزال قائمة أمام سعد الحريري، كما أمام المعنيين بالاتهام، للسعي، لا من أجل حقين متقابلين متناقضين، بل من أجل حقيقة واحدة جامعة.

المصدر : الأخبار/ جان عزيز


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة