فيما يجهد كثيرون لصبّ نيران الموت على عاصمة الشمال السوري، حلب، تضافرت جهودُ كثيرٍ من أبنائها في إقامة مهرجانٍ مسرحي امتدّ على مدار ثمانية أيام. مهرجان يحتفي بالحياة، في زمنِ الحرب، وقطع الرؤوس، ومحاولات التكفيريين المستميتة لصبغ البلاد باللون الأسود

لا يمكن النظر إلى إقامة مهرجان مسرحيٍّ إلا بوصفها خطوةً تستحقّ التقدير في أي زمانٍ ومكان. أمّا أن يُقام مهرجانٌ مسرحيّ للهواة في مدينة يُعسكر الموت في كلِّ أحيائها فذلك يعني بكل تأكيد أنك في مدينةٍ قاهرةٍ للموت، اسمها حلب. ظهر الثلاثاء الأخير من عام 2013، وفي حي الجميلية في حلب، بدا المشهدُ للوهلة الأولى سورياليّاً بكلِّ ما في الكلمة من معنى. كانت مجموعات مسلّحة قد أعلنت الحيّ، قبل يومٍ واحدٍ، «منطقةً عسكرية»، معتبرةً إيّاه، إلى جانب أحياء أخرى، «هدفاً مشروعاً»، لتتزايد بذلك وتيرة استهداف الحي بقذائف الهاون.

لكنّ ذلكَ لم يشكّل عائقاً أمام توافد الجمهور إلى مسرح نقابة الفنانين الذي كان يستعدُّ لاحتضان حفل ختام مهرجان حلب المسرحي للهواة. «واكبتُ المهرجانَ منذ يومه الأوّل، وكانت أصوات القذائف تتردّد خارجاً، لكنّ إحساساً غريباً بالأمان كان يهيمنُ عليّ داخل صالة المسرح»، يقول أحمد لـ «الأخبار»، ويضيف: «كان أسبوعاً رائعاً، يحيا المسرح».

سبعة عروض مسرحيّة قُدّمت خلال المهرجان، الذي تضافرت لإقامته جهود مديريّة الثقافة ومجلس المدينة وفرع نقابة الفنانين. وتجاوز عدد المساهمين في إنجاز العروض مئة مشارك، ما بين ممثلٍ وفنّي. وإلى هؤلاء يرجع الفضل الأوّل في تحقيق هذا الإنجاز، وفقاً لما يؤكده عبد الحليم حريري رئيس فرع نقابة الفنانين في حلب. ويقول حريري لـ «الأخبار»: «عندما يتتالى ثمانون شاباً وشابةً على خشبة المسرح خلال أسبوع، وسط كل هذا الدمار، ورغم كلّ ما تمر به المدينة، فهذا يؤكد أن حلب قادرة على قهر كل الظروف.

لقد أصروا على مقاومة الموت بطريقتهم، وقمنا بواجبنا في احتضانهم بالتعاون مع مديرية الثقافة، ومجلس المدينة». تتسع صالة المسرح لقرابة ألف متفرّج، وقد دأبت على الامتلاء في العروض السبعة، وفي حفل الختام الذي حضرته «الأخبار»، يقول حريري: «فوجئنا بحجم التوافد الجماهيري. في بعض الأيام حضر العشرات واقفين، وبقي العشرات خارج الصالة».

حكاية المهرجان

قبل شهور وجّه المخرج المسرحي معتز سيجري دعوةً إلى زملائه المسرحيين في حلب لحضور لقاء تحضيري بغية إنجاز مهرجانٍ مسرحي للهواة. قابل البعض الدعوة بالسخرية، وقابلها آخرون باستهجان. لكنّ معظم من تبلغوا الدعوة سارعوا إلى تلبيتها، ومن بينهم الفنان حازم حداد الذي عُيّن منسقاً عاماً للمهرجان.

ويقول حدّاد لـ «الأخبار»: «كان هاجسنا الأساسي العمل على إضاءة المسرح في وقت يخيم الظلام على حلب بالكامل. نحن نحب الحياة، والمسرح هو الشيء الذي يشعرنا أننا ما زلنا على قيد الحياة». ويؤكد حداد أن الجهات الرسمية التي احتضنت المهرجان تعاملت معه من زاوية فنية ـــ ثقافية بحتة، فلم تتدخل في فحوى العروض، ولا في هوية المشاركين، ويقول: «المعيارية الوحيدة التي فرضت نفسها هي المستوى الفني للعروض. ولم يتدخل أحد في عمل لجان القراءة والانتقاء، والتحكيم».

بدورها؛ تقول الممثلة عبير بيطار، التي حازت جائزة أفضل ممثلة في المهرجان: «كان استحداث مهرجانٍ مسرحي للهواة حلماً لم يتحقق أيّام الرخاء، لكنّه تحقّق أخيراً رغم كلِّ ما نمرّ به. لم يُعقنا الموت المتربّص بنا عن إطلاق صرختنا: نحبّ المسرح، ونستحقّ الحياة».

حين بكى غسان مكانسي

واختارت اللجنة الفنية للمهرجان أن تختتمه بعرض مسرحي بسيط، يلخّص شعاره «تحية من الهواة إلى المحترفين». هكذا؛ تمّت كتابة نصّ يستعرض مسيرة المسرح في حلب، منذ العرض المسرحي الأول الذي قدّم على خشباتها قبل أكثر من مائة عام. وقد احتفى العرض بعدد من أبرز روّاد المسرح الحلبي، من بينهم المخرج الراحل أحمد سيف، والفنان الراحل أحمد حداد، والفنان عمر حجو، والفنان غسان مكانسي الذي شارك مع حازم حدّاد في تقديم عرض الختام.

في نهاية العرض، وفي لحظة يمكن عبرها اختزال حكاية الصراع الأزلي بين الموت وصنّاعه من جهة، والحياة وصنّاعها من جهة أخرى، غصّ مكانسي بدموعه وهو يخاطب الجمهور قائلاً: «ما بقدر أوصف فرحتي وأنا شايف مسرح حلب منوّر، رغم إنو حلب غرقانة بالعتم». دموع مكانسي العفوية والمفاجئة تردّدت أصداؤها بين الجمهور، تصفيقاً وبكاءً، ودفعت حدّاد للانكباب على يده مقبّلاً إيّاها.

بعد انتهاء حفل الختام، كانت دقائق معدودة، وخطواتٌ قليلة قطعناها خارج صالة المسرح كافيةً لتضعنا من جديد أمام مشهد يتكرّر في حلب بشكل يومي: قذيفةٌ تسقط في شارع قريب، ليتراكض البعض، ويواصل البعض سيره بعد التفاتةٍ قصيرة غير آبه.

التاريخ يعيد نفسه

يذكر الشيخ محمد راغب الطباخ الحلبي في «اعلام النبلاء» (أحداث سنة 1066 ج3 ص 215 وما بعدها) أن «أهل حلب رفضوا أن يقدموا الطاعة للوالي سيدي أحمد باشا الذي نُقل إليها من قونية بعد أن اشتهر بظلمه حتى ثار عليه أهلها، وتمسكوا بواليهم مصطفى باشا وأمدّوه بالمال والرجال وتحصنوا في المدينة وقلعتها». ويروي الطباخ أن «الوالي الجديد حاصر حلب ودمّر محيطها وأحرقه وقطع عنها المياه وثابر على قصفها». ويقول الباحث تميم قاسمو إنه عثر في مجلة القربان الحلبية العدد العاشر شباط عام 1929 المحفوظة في جمعية العاديات على قصيدة بالعامية لشاعر حلبي مجهول اسمه «عسكر»، تصف بالتفصيل ما حل بحلب خلال ذلك الحصار. وكان الشاعر يكرر يأسه من أن تعود حلب عامرة كما كانت. فيقول: «حلب مابقت ترجع ولا في النوم». ومرة أخرى يقول: «سعد بلدة حلب عن أهلها أدبر... ماعاد يرتدّ ذاك السعد للمنشر» أي يوم النشور (القيامة). حدث ذلك عام 1066، ومازالت حلب حيّة حتى اليوم.

  • فريق ماسة
  • 2014-01-02
  • 14667
  • من الأرشيف

حلب تقهر الموت بالمسرح

فيما يجهد كثيرون لصبّ نيران الموت على عاصمة الشمال السوري، حلب، تضافرت جهودُ كثيرٍ من أبنائها في إقامة مهرجانٍ مسرحي امتدّ على مدار ثمانية أيام. مهرجان يحتفي بالحياة، في زمنِ الحرب، وقطع الرؤوس، ومحاولات التكفيريين المستميتة لصبغ البلاد باللون الأسود لا يمكن النظر إلى إقامة مهرجان مسرحيٍّ إلا بوصفها خطوةً تستحقّ التقدير في أي زمانٍ ومكان. أمّا أن يُقام مهرجانٌ مسرحيّ للهواة في مدينة يُعسكر الموت في كلِّ أحيائها فذلك يعني بكل تأكيد أنك في مدينةٍ قاهرةٍ للموت، اسمها حلب. ظهر الثلاثاء الأخير من عام 2013، وفي حي الجميلية في حلب، بدا المشهدُ للوهلة الأولى سورياليّاً بكلِّ ما في الكلمة من معنى. كانت مجموعات مسلّحة قد أعلنت الحيّ، قبل يومٍ واحدٍ، «منطقةً عسكرية»، معتبرةً إيّاه، إلى جانب أحياء أخرى، «هدفاً مشروعاً»، لتتزايد بذلك وتيرة استهداف الحي بقذائف الهاون. لكنّ ذلكَ لم يشكّل عائقاً أمام توافد الجمهور إلى مسرح نقابة الفنانين الذي كان يستعدُّ لاحتضان حفل ختام مهرجان حلب المسرحي للهواة. «واكبتُ المهرجانَ منذ يومه الأوّل، وكانت أصوات القذائف تتردّد خارجاً، لكنّ إحساساً غريباً بالأمان كان يهيمنُ عليّ داخل صالة المسرح»، يقول أحمد لـ «الأخبار»، ويضيف: «كان أسبوعاً رائعاً، يحيا المسرح». سبعة عروض مسرحيّة قُدّمت خلال المهرجان، الذي تضافرت لإقامته جهود مديريّة الثقافة ومجلس المدينة وفرع نقابة الفنانين. وتجاوز عدد المساهمين في إنجاز العروض مئة مشارك، ما بين ممثلٍ وفنّي. وإلى هؤلاء يرجع الفضل الأوّل في تحقيق هذا الإنجاز، وفقاً لما يؤكده عبد الحليم حريري رئيس فرع نقابة الفنانين في حلب. ويقول حريري لـ «الأخبار»: «عندما يتتالى ثمانون شاباً وشابةً على خشبة المسرح خلال أسبوع، وسط كل هذا الدمار، ورغم كلّ ما تمر به المدينة، فهذا يؤكد أن حلب قادرة على قهر كل الظروف. لقد أصروا على مقاومة الموت بطريقتهم، وقمنا بواجبنا في احتضانهم بالتعاون مع مديرية الثقافة، ومجلس المدينة». تتسع صالة المسرح لقرابة ألف متفرّج، وقد دأبت على الامتلاء في العروض السبعة، وفي حفل الختام الذي حضرته «الأخبار»، يقول حريري: «فوجئنا بحجم التوافد الجماهيري. في بعض الأيام حضر العشرات واقفين، وبقي العشرات خارج الصالة». حكاية المهرجان قبل شهور وجّه المخرج المسرحي معتز سيجري دعوةً إلى زملائه المسرحيين في حلب لحضور لقاء تحضيري بغية إنجاز مهرجانٍ مسرحي للهواة. قابل البعض الدعوة بالسخرية، وقابلها آخرون باستهجان. لكنّ معظم من تبلغوا الدعوة سارعوا إلى تلبيتها، ومن بينهم الفنان حازم حداد الذي عُيّن منسقاً عاماً للمهرجان. ويقول حدّاد لـ «الأخبار»: «كان هاجسنا الأساسي العمل على إضاءة المسرح في وقت يخيم الظلام على حلب بالكامل. نحن نحب الحياة، والمسرح هو الشيء الذي يشعرنا أننا ما زلنا على قيد الحياة». ويؤكد حداد أن الجهات الرسمية التي احتضنت المهرجان تعاملت معه من زاوية فنية ـــ ثقافية بحتة، فلم تتدخل في فحوى العروض، ولا في هوية المشاركين، ويقول: «المعيارية الوحيدة التي فرضت نفسها هي المستوى الفني للعروض. ولم يتدخل أحد في عمل لجان القراءة والانتقاء، والتحكيم». بدورها؛ تقول الممثلة عبير بيطار، التي حازت جائزة أفضل ممثلة في المهرجان: «كان استحداث مهرجانٍ مسرحي للهواة حلماً لم يتحقق أيّام الرخاء، لكنّه تحقّق أخيراً رغم كلِّ ما نمرّ به. لم يُعقنا الموت المتربّص بنا عن إطلاق صرختنا: نحبّ المسرح، ونستحقّ الحياة». حين بكى غسان مكانسي واختارت اللجنة الفنية للمهرجان أن تختتمه بعرض مسرحي بسيط، يلخّص شعاره «تحية من الهواة إلى المحترفين». هكذا؛ تمّت كتابة نصّ يستعرض مسيرة المسرح في حلب، منذ العرض المسرحي الأول الذي قدّم على خشباتها قبل أكثر من مائة عام. وقد احتفى العرض بعدد من أبرز روّاد المسرح الحلبي، من بينهم المخرج الراحل أحمد سيف، والفنان الراحل أحمد حداد، والفنان عمر حجو، والفنان غسان مكانسي الذي شارك مع حازم حدّاد في تقديم عرض الختام. في نهاية العرض، وفي لحظة يمكن عبرها اختزال حكاية الصراع الأزلي بين الموت وصنّاعه من جهة، والحياة وصنّاعها من جهة أخرى، غصّ مكانسي بدموعه وهو يخاطب الجمهور قائلاً: «ما بقدر أوصف فرحتي وأنا شايف مسرح حلب منوّر، رغم إنو حلب غرقانة بالعتم». دموع مكانسي العفوية والمفاجئة تردّدت أصداؤها بين الجمهور، تصفيقاً وبكاءً، ودفعت حدّاد للانكباب على يده مقبّلاً إيّاها. بعد انتهاء حفل الختام، كانت دقائق معدودة، وخطواتٌ قليلة قطعناها خارج صالة المسرح كافيةً لتضعنا من جديد أمام مشهد يتكرّر في حلب بشكل يومي: قذيفةٌ تسقط في شارع قريب، ليتراكض البعض، ويواصل البعض سيره بعد التفاتةٍ قصيرة غير آبه. التاريخ يعيد نفسه يذكر الشيخ محمد راغب الطباخ الحلبي في «اعلام النبلاء» (أحداث سنة 1066 ج3 ص 215 وما بعدها) أن «أهل حلب رفضوا أن يقدموا الطاعة للوالي سيدي أحمد باشا الذي نُقل إليها من قونية بعد أن اشتهر بظلمه حتى ثار عليه أهلها، وتمسكوا بواليهم مصطفى باشا وأمدّوه بالمال والرجال وتحصنوا في المدينة وقلعتها». ويروي الطباخ أن «الوالي الجديد حاصر حلب ودمّر محيطها وأحرقه وقطع عنها المياه وثابر على قصفها». ويقول الباحث تميم قاسمو إنه عثر في مجلة القربان الحلبية العدد العاشر شباط عام 1929 المحفوظة في جمعية العاديات على قصيدة بالعامية لشاعر حلبي مجهول اسمه «عسكر»، تصف بالتفصيل ما حل بحلب خلال ذلك الحصار. وكان الشاعر يكرر يأسه من أن تعود حلب عامرة كما كانت. فيقول: «حلب مابقت ترجع ولا في النوم». ومرة أخرى يقول: «سعد بلدة حلب عن أهلها أدبر... ماعاد يرتدّ ذاك السعد للمنشر» أي يوم النشور (القيامة). حدث ذلك عام 1066، ومازالت حلب حيّة حتى اليوم.

المصدر : الأخبار/صهيب عنجريني


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة