تعبر الحافلة اللبنانية الآتية من العتبات المقدسة في ايران الحدود التركية في اتجاه سوريا. عشرات الرجال والنساء حجزوا أماكن لهم في «حملة الامام الصدر» برغم التحذير الذي وجهه المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في مطلع نيسان 2012 وينصح فيه بتفادي الزيارات الدينية، عن طريق البر، نظرا للظروف الأمنية الاستثنائية على الأراضي السورية.

جاء التحذير بعد أيام قليلة من انفجار عبوة بحافلة زوار لبنانيين عند حدود القاع ـ الجوسية، ما أدى الى مقتل أحد الزوار وجرح خمسة آخرين.

هذه الحملة كانت واحدة من أصل اثنتي عشرة حملة لبنانية كانت تقوم بزيارة مقامات دينية أبرزها مقاما الإمام الرضا وفاطمة المعصومة في إيران.

وصل المشاركون في «حملة الصدر» إلى منطقة أورفا التركية فزاروا مقام النبي إبراهيم وقصر النمرود ثم انتقلوا إلى ولاية بيتلس حيث مقام أويس القرني (أحد صحابة الرسول).

تتهادى الحافلة وهي في طريقها نحو معبر باب السلامة على الحدود السورية ـ التركية. يترجل حسن أرزوني من الحافلة لختم جوازات السفر وتزويد الأمن العام السوري بلائحة الزوار. سأله أحد عناصر النقطة السورية عن اللبناني عباس شعيب، غير أن الأخير لم يكن في عداد «حملة الصدر».

طال غياب أرزوني فلحق به عوض إبراهيم، فبادره أحد ضباط الأمن العام السوري بسؤاله هو أيضا عن عباس شعيب أيضاً، وكان جوابه أنه في حافلة حملة بدر الكبرى.

ختم ركاب «حملة الصدر» جوازات السفر وسارت حافلتهم باتجاه حلب على الطريق الدولية بسرعة لم تتجاوز الثمانين كيلومترا في الساعة.

كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة صباحا. الطقس الربيعي لم يغر معظم المسافرين. أقفلوا نوافذهم وغرقوا في مقاعدهم يستمعون الى أدعية دينية وأناشيد حسينية. كانت عيونهم مشدودة الى البساتين الممتدة من حولهم وكلها تشي بالمجهول الذي صار سمة الأزمة السورية.

بعد أقل من خمسمئة متر، تعترض طريقهم أربع سيارات تعج بالمسلحين المدججين بأسلحتهم. يصعد مسلحان الى الحافلة ويسأل أحدهم سائقها: «قيل لنا انكم ايرانيون».. فيجيبه عوض إبراهيم (مسؤول الحملة) «نحن من لبنان».. يطلب المسلحان من ركاب الحافلة الهدوء وعدم التحرك من اماكنهم ويطلبان من السائق أن يتحرك وراء السيارتين اللتين سارتا أمام «الموكب» بينما كانت سيارتان تلحقان به من الخلف.

قاد الخاطفون هؤلاء الزوار، عبر طريق زراعية، إلى بساتين الزيتون القريبة من مكان الاختطاف. توقفت الحافلة، أمام بيت حجري قديم ولم يخل أمر الاستقبال من ترحيب وبعض شتائم طالت شخصيات وجهات سياسية لبنانية.

مكث المخطوفون نحو ساعتين ونصف ساعة قبل أن يصل عمار الداديخي، الملقب بـ«أبي إبراهيم»، قائد «لواء عاصفة الشمال»، كما عرف عنه المسلحون الذين رافقوا الحافلة.

حمل «أبو إبراهيم» لائحة الأسماء نفسها التي سلمها الزوار للأمن العام السوري على معبر باب السلامة الحدودي، وبينما كان يدقق فيها ويطرح أسئلة على المسلحين، بلغه اتصال يعلمه باعتراض حافلة ثانية لزوار لبنانيين هي «حملة بدر الكبرى».

لم يمض وقت طويل حتى وصلت الحافلة الثانية المخطوفة وعلى متنها 37 زائرا. هذه المرة أنزل الخاطفون الرجال فقط، وطلبوا من نساء «حملة الصدر» الصعود إلى الحافلة استعداداً للرحيل من دون الرجال في الحملتين، فصاروا 11 رجلاً: عوض ابراهيم، حسن أرزوني، علي ترمس، حسين علي عمر، علي حسن زغيب ومحمد منذر من «حملة الصدر»، عباس شعيب، عباس حمود، جميل صالح، علي حسن عباس وحسن حمود من «حملة بدر الكبرى».

غابت ثلاث نساء عن الوعي، بينما توسلت أخريات «أبا ابراهيم» للإفراج عن الرجال. كان بعض المخطوفين برفقة إما زوجاتهم أو بناتهم أو شقيقاتهم. قال لهم «أبو ابراهيم»، كما يروي مختار بلدة يونين علي زغيب، ومنظم «حملة الصدر» عوض ابراهيم، ان النساء «سيعدن عبر مطار حلب إلى لبنان»، وسمح للرجال المرضى بأخذ أدويتهم، فقط لا غير، من الحافلتين.

اعلان الاستنفار في بيروت

في بيروت، تبلغ كل من الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصر الله نبأ الاختطاف، ليتبين أن الأشخاص الأحد عشر يتوزعون مناصفة بين الحساسيتين الشيعيتين: «حزب الله» و«أمل».

في الاجتماع الذي عقده المكتب السياسي لـ«امل»، مساء الثالث والعشرين من أيار، قال الرئيس بري «لو استشهد هؤلاء الزوار لقلنا انهم شهداء، وأقمنا لهم مراسم تكريمية من السابع الى الأربعين، لكن القصة اليوم أصعب. هؤلاء قد يشكلون فتيل فتنة سنية شيعية وفتنة بين الشيعة والأخوة السوريين النازحين الى لبنان. علينا أن نتحرك سريعا لتحريرهم قبل أن يتعرضوا لأي أذى».

أبلغ بري الحاضرين أنه اتصل برئيسي الجمهورية ميشال سليمان والحكومة نجيب ميقاتي ووزير الخارجية عدنان منصور وطلب منهم التحرك سريعا لاطلاق سراح اللبنانيين بعدما تم تحديد الجهة الخاطفة، أي المعارضة السورية.

وفي الوقت نفسه، طلب السيد نصر الله من مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في «حزب الله» الحاج وفيق صفا و«كتلة الوفاء» ووزراء الحزب متابعة الملف، مع كل من يعنيهم الأمر سياسيا وأمنيا.

الوعد الحريري.. الناقص

وفي خضم الاتصالات التي كان يجريها كل من سليمان وبري وميقاتي ومنصور ووزير الداخلية مروان شربل، مع جهات اقليمية أبرزها تركيا وقطر، طيلة يومي الثالث والعشرين والرابع والعشرين، تلقى رئيس المجلس النيابي اتصالا مفاجئا من الرئيس سعد الحريري صبيحة الخامس والعشرين من ايار(عيد التحرير الثاني عشر)، تبلغ فيه أن الزوار اللبنانيين بصحة جيدة وسيصلون بعد قليل الى الأراضي التركية.

لم يصدق بري ما سمعت أذناه، وأعاد الاتصال أكثر من مرة بالحريري مدققا، قبل أن يزف الخبر الى «حزب الله» وعدد من معاونيه. كرت سبحة الاتصالات بين بري والحريري، قبل أن يستأذن رئيس «تيار المستقبل» رئيس حركة «امل» بأن يتولى نقل المفرج عنهم الـ11 بطائرته الخاصة من تركيا إلى مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، ورد عليه بري سريعا: «أبشر يا شيخ سعد»!

حرص رئيس المجلس على وضع قيادة «حزب الله» في أجواء كل ما يستجد لحظة بلحظة خاصة أن السيد نصر الله كان يفترض أن يطل عصر اليوم نفسه، عبر الشاشة من منبر «عيد التحرير»، في مدينة بنت جبيل.

وبالتزامن، تلقى الحاج وفيق صفا سلسلة اتصالات من رئيس «فرع المعلومات» اللواء الشهيد وسام الحسن، بتكليف من سعد الحريري، وطال النقاش هاتفيا بينهما أدق التفاصيل. موعد اقلاع الطائرة ووصولها. اجراءات الاستقبال في مطار بيروت الدولي. النقل المباشر.

في الوقت نفسه، يسأل أحد القيمين على «المنار»، الحاج وفيق، «ماذا إذا تزامن الوصول مع بث كلمة السيد نصر الله على الهواء مباشرة من بنت جبيل؟ هل نقطع البث المباشر ونكتفي بالمطار أم ننقل الاثنين معا»؟

انضم تلفزيون «المستقبل» الى الحشد الاعلامي في الضاحية الجنوبية وأرسل سيارة للنقل المباشر وقدمت للفريق التقني والإعلامي «كل التسهيلات». أطل عدد من قياديي «حزب الله» عبر الشاشة الزرقاء الصغيرة. كان وسام الحسن مهتما فوق العادة بهذه القضية الإنسانية من زاوية التعويل عليها لإعادة فتح الأبواب المقفلة سياسيا بين «الضاحية» و«بيت الوسط» من خلال هذا العنوان الإنساني الجامع.

قال الرئيس بري في جلسة مع أسرة «السفير» في اليوم نفسه ان الحريري صادق في نياته والرجل يريد استثمار هذا الملف الانساني سياسيا لتسليف الشيعة وبالتالي اعادة فتح الأبواب السياسية المغلقة مع الحركة والحزب منذ استقالة حكومته في مطلع العام 2011.

وحده ومن خارج السياق السياسي والديبلوماسي والاعلامي، اتصل رئيس جهاز المخابرات التركية الدكتور حقان فيدان بعدد من أصدقائه اللبنانيين مستغربا ما يجري، وانتهى الحديث بينه وبين أحدهم بالنصيحة الآتية: لا تعذبوا أنفسكم بالذهاب إلى مطار بيروت.. «اللبنانيون الأحد عشر لم يفرج عنهم»!

اتصالات مفتوحة.. ولكن

من عين التينة، كان بري ومن حوله معاونه السياسي الوزير علي حسن خليل والمسؤول «الحركي» أحمد بعلبكي ومستشاره الاعلامي الزميل علي حمدان يلمون بكل التفاصيل. طلب بري من علي حسن خليل وضع الحاج حسين خليل «بكل شاردة وواردة». ظلّ رئيس المجلس على تشاور مستمر مع الرئيس ميقاتي ووزير الخارجية عدنان منصور، وكانا يطلعانه على نتائج الاتصالات المفتوحة مع تركيا وخاصة مع أحمد داود أوغلو.

تأخر وصول الطائرة، فاتصل بري بالحريري مجددا وكان جواب الثاني أن طائرته لن تتمكن من التوجه مباشرة من قبرص الى أضنة لاعتبارات تركية «سيادية». على أساس هذا المعطى القسري، اتجهت الطائرة الحريرية من قبرص اليونانية إلى بيروت واتجهت منها، قرابة السادسة والنصف مساء، الى أضنة التركية.

في غضون ذلك، كان نصر الله قد أطل على المحتشدين في احتفال التحرير موجها التحية لكل من ساهم بعملية الافراج عن الزوار الـ11 وخص بالذكر رئيس «تيار المستقبل»، وأعاد التأكيد على أن أي عمل من نوع خطف الزوار لن يغير قناعات الحزب ووقوفه الى جانب النظام السوري.

في الاتصال المسائي الأول، والسابع على مدى ذلك النهار الطويل، سأل بري الحريري أين أصبحت طائرة الزوار، فأجابه بأنها وصلت الى أضنة وأن اجراءات لوجستية تتخذ من قبل الأتراك عند الحدود مع سورية وما ان تنجز حتى تتوجه قافلة الزوار الى مطار أضنة ومنها مباشرة الى بيروت.

وبرغم الهواجس التي بدأت تنتابه، حرص بري على توجيه الشكر مجددا للحريري وقال له «أتمنى عليك يا شيخ سعد أن تتصل بي عندما تقلع الطائرة من أضنة».

اتسع طابور المنتظرين في المطار من سياسيين وعائلات وأمنيين واعلاميين ومهتمين، لكن لم يأت الخبر اليقين. غاب سعد الحريري لفترة عن السمع وكذلك اللواء الحسن. عند الثانية عشرة ليلا أدرك الجميع أن أمرا ما أدى الى تعثر العملية، وكانت كلمات وزير الداخلية كافية لتفريق الحاضرين والتمني بأن يصبحوا على عائلاتهم وقد عادوا إلى لبنان «بألف خير».

التبريرات التركية..لا تقنع أحداً

في اليوم التالي، سعى كثر الى الحصول على جواب واضح.. لكن حتى الآن، لا جواب حاسما أو نهائيا عند أحد حول حقيقة ما جرى. طبعا كثرت التخمينات، وبينها أن خطاب نصر الله في احتفال بنت جبيل أعاد الأمور الى نقطة الصفر أو أن جهة إقليمية أو دولية ضغطت على الخاطفين، فقرروا التراجع عن وعدهم للحريري أو أن معطيات ميدانية وأمنية في منطقة أعزاز أدت الى تعديل ما كان مرسوما.

أما الأتراك، فكانوا على أكثر من موجة. أهل الأمن شيء وأهل السياسة شيء آخر. لاحقا قال أوغلو للمستفسرين انه حصل سوء فهم من جانب اللبنانيين. نحن لم نبلغهم أنه تم اطلاق سراح الزوار بل قلنا لهم انهم بخير ومن المتوقع أن يصلوا الى الأراضي التركية، لكن سرعان ما بدّل الخاطفون رأيهم.

لم تقنع تبريرات أوغلو وأردوغان أحدا ممن اتصل هو شخصيا بهم. بين هؤلاء نجيب ميقاتي الذي بدا مربكا، ذلك أنه كان مقررا أن يبدأ زيارة رسمية لتركيا في السادس والعشرين من ايار، تتضمن لقاءات مع رجب طيب أردوغان وأوغلو. تشاور رئيس الحكومة بالأمر مع حلقة ضيقة ثم اتصل ببري وسأله رأيه، فكانت النصيحة أنه ما دام لا شيء مضمونا من جانب الأتراك في موضوع الافراج عن الـ11، «فأنصحك بتأجيل الزيارة».

جُنّ جُنون سعد الحريري الذي شعر بأن هناك من أوقعه في كمين موجع.. وبدلا من أن تعطي القضية ثمارا ايجابية في العلاقات الداخلية، أدت الى تفاقم الموقف وبالتالي سرّب زعيم «تيار المستقبل» للاعلام في مرحلة ما أنه سحب يده من الملف.. خاصة ان الهمس كان قد بدأ يرتفع حول دور الأمن التركي وجهات خليجية في اعادة الأمور الى نقطة الصفر.

ووفق ديبلوماسي عربي مقيم في العاصمة التركية، فان «الفاول» الأساسي ارتكبه سعد الحريري عندما اعتقد أن بمقدوره أن «يمون»، حيث تبين أن قرار المجموعة الخاطفة عند القطريين وليس السعوديين، وهي النقطة التي أوقعت أيضا أحمد داود أوغلو في خطأ التقدير نفسه، بينما كان مدير المخابرات التركية يدرك أن من أقدم على الخطف لن يترك للحريري أن يستثمر سياسيا من خارج الوظيفة الأصلية للفعل نفسه!

الأهالي يتحركون ويهددون

وبالفعل، صدر في صبيحة السابع والعشرين من أيار (الأحد)، أول تهديد من جانب الأهالي ضد تركيا عبر تحميلها مسؤولية الخطف وبالتالي عودة المخطوفين الى لبنان سالمين.

لم تمض ساعات على صدور أول تهديد أهلي، حتى كان السفير التركي اونان اوزيلديز، يقطع اجازته التركية ويجول في بيروت على كل من بري وميقاتي ورئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد والمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم لابلاغهم رسالة تركية تتضمن تعهدا بالعمل من أجل عودة المخطوفين سالمين!

كثر الطباخون في ملف أعزاز. لم يبق مسؤول في الدولة الا ووضع يده فيه. معظم المشايخ السلفيين اللبنانيين عرضوا مساهماتهم ولعب الشيخ سالم الرافعي دورا بارزا في هذه القضية. جهات أمنية لبنانية وأجنبية أبرزها المخابرات الألمانية تبرعت بأدوار معينة وأثارت إشكاليات في مرحلة من مراحل التفاوض، حتى أن بعض الإعلاميين اللبنانيين تحولوا في بعض الأحيان الى وسطاء وناقلي رسائل، مع اتساع مسرح الخطف في أعزاز ليتحول الى «هايد بارك اعلامي» مفتوح.

شخصيات سورية عدة لمع نجمها وبينها الخاطفون أنفسهم ولا سيما «لواء عاصفة الشمال» بقيادة النقيب المنشق عن الجيش السوري عماد الداديخي الملق بـ«ابي ابراهيم» ومن ثم سمير العموري  والشيخ ابراهيم الزغبي رئيس «حزب أحرار سوريا» الذي كان لعب دور الوسيط بين الخاطفين والأتراك في اطار صفقة الافراج عن الحجاج الايرانيين الـ48.

كيف اتخذت قضية أعزاز بعدا أمنيا وسياسيا وتطورت أعمال خطف مضادة.. ولماذا أصر الأتراك على اعتماد القنوات السرية؟

  • فريق ماسة
  • 2013-11-10
  • 6973
  • من الأرشيف

صفقة أعزاز من ألفها الى يائها -1- الحريري «يتبرع» لبري ونصر الله.. وقطر ترد «الأمر لي»!

تعبر الحافلة اللبنانية الآتية من العتبات المقدسة في ايران الحدود التركية في اتجاه سوريا. عشرات الرجال والنساء حجزوا أماكن لهم في «حملة الامام الصدر» برغم التحذير الذي وجهه المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في مطلع نيسان 2012 وينصح فيه بتفادي الزيارات الدينية، عن طريق البر، نظرا للظروف الأمنية الاستثنائية على الأراضي السورية. جاء التحذير بعد أيام قليلة من انفجار عبوة بحافلة زوار لبنانيين عند حدود القاع ـ الجوسية، ما أدى الى مقتل أحد الزوار وجرح خمسة آخرين. هذه الحملة كانت واحدة من أصل اثنتي عشرة حملة لبنانية كانت تقوم بزيارة مقامات دينية أبرزها مقاما الإمام الرضا وفاطمة المعصومة في إيران. وصل المشاركون في «حملة الصدر» إلى منطقة أورفا التركية فزاروا مقام النبي إبراهيم وقصر النمرود ثم انتقلوا إلى ولاية بيتلس حيث مقام أويس القرني (أحد صحابة الرسول). تتهادى الحافلة وهي في طريقها نحو معبر باب السلامة على الحدود السورية ـ التركية. يترجل حسن أرزوني من الحافلة لختم جوازات السفر وتزويد الأمن العام السوري بلائحة الزوار. سأله أحد عناصر النقطة السورية عن اللبناني عباس شعيب، غير أن الأخير لم يكن في عداد «حملة الصدر». طال غياب أرزوني فلحق به عوض إبراهيم، فبادره أحد ضباط الأمن العام السوري بسؤاله هو أيضا عن عباس شعيب أيضاً، وكان جوابه أنه في حافلة حملة بدر الكبرى. ختم ركاب «حملة الصدر» جوازات السفر وسارت حافلتهم باتجاه حلب على الطريق الدولية بسرعة لم تتجاوز الثمانين كيلومترا في الساعة. كانت الساعة قد تجاوزت التاسعة صباحا. الطقس الربيعي لم يغر معظم المسافرين. أقفلوا نوافذهم وغرقوا في مقاعدهم يستمعون الى أدعية دينية وأناشيد حسينية. كانت عيونهم مشدودة الى البساتين الممتدة من حولهم وكلها تشي بالمجهول الذي صار سمة الأزمة السورية. بعد أقل من خمسمئة متر، تعترض طريقهم أربع سيارات تعج بالمسلحين المدججين بأسلحتهم. يصعد مسلحان الى الحافلة ويسأل أحدهم سائقها: «قيل لنا انكم ايرانيون».. فيجيبه عوض إبراهيم (مسؤول الحملة) «نحن من لبنان».. يطلب المسلحان من ركاب الحافلة الهدوء وعدم التحرك من اماكنهم ويطلبان من السائق أن يتحرك وراء السيارتين اللتين سارتا أمام «الموكب» بينما كانت سيارتان تلحقان به من الخلف. قاد الخاطفون هؤلاء الزوار، عبر طريق زراعية، إلى بساتين الزيتون القريبة من مكان الاختطاف. توقفت الحافلة، أمام بيت حجري قديم ولم يخل أمر الاستقبال من ترحيب وبعض شتائم طالت شخصيات وجهات سياسية لبنانية. مكث المخطوفون نحو ساعتين ونصف ساعة قبل أن يصل عمار الداديخي، الملقب بـ«أبي إبراهيم»، قائد «لواء عاصفة الشمال»، كما عرف عنه المسلحون الذين رافقوا الحافلة. حمل «أبو إبراهيم» لائحة الأسماء نفسها التي سلمها الزوار للأمن العام السوري على معبر باب السلامة الحدودي، وبينما كان يدقق فيها ويطرح أسئلة على المسلحين، بلغه اتصال يعلمه باعتراض حافلة ثانية لزوار لبنانيين هي «حملة بدر الكبرى». لم يمض وقت طويل حتى وصلت الحافلة الثانية المخطوفة وعلى متنها 37 زائرا. هذه المرة أنزل الخاطفون الرجال فقط، وطلبوا من نساء «حملة الصدر» الصعود إلى الحافلة استعداداً للرحيل من دون الرجال في الحملتين، فصاروا 11 رجلاً: عوض ابراهيم، حسن أرزوني، علي ترمس، حسين علي عمر، علي حسن زغيب ومحمد منذر من «حملة الصدر»، عباس شعيب، عباس حمود، جميل صالح، علي حسن عباس وحسن حمود من «حملة بدر الكبرى». غابت ثلاث نساء عن الوعي، بينما توسلت أخريات «أبا ابراهيم» للإفراج عن الرجال. كان بعض المخطوفين برفقة إما زوجاتهم أو بناتهم أو شقيقاتهم. قال لهم «أبو ابراهيم»، كما يروي مختار بلدة يونين علي زغيب، ومنظم «حملة الصدر» عوض ابراهيم، ان النساء «سيعدن عبر مطار حلب إلى لبنان»، وسمح للرجال المرضى بأخذ أدويتهم، فقط لا غير، من الحافلتين. اعلان الاستنفار في بيروت في بيروت، تبلغ كل من الرئيس نبيه بري والسيد حسن نصر الله نبأ الاختطاف، ليتبين أن الأشخاص الأحد عشر يتوزعون مناصفة بين الحساسيتين الشيعيتين: «حزب الله» و«أمل». في الاجتماع الذي عقده المكتب السياسي لـ«امل»، مساء الثالث والعشرين من أيار، قال الرئيس بري «لو استشهد هؤلاء الزوار لقلنا انهم شهداء، وأقمنا لهم مراسم تكريمية من السابع الى الأربعين، لكن القصة اليوم أصعب. هؤلاء قد يشكلون فتيل فتنة سنية شيعية وفتنة بين الشيعة والأخوة السوريين النازحين الى لبنان. علينا أن نتحرك سريعا لتحريرهم قبل أن يتعرضوا لأي أذى». أبلغ بري الحاضرين أنه اتصل برئيسي الجمهورية ميشال سليمان والحكومة نجيب ميقاتي ووزير الخارجية عدنان منصور وطلب منهم التحرك سريعا لاطلاق سراح اللبنانيين بعدما تم تحديد الجهة الخاطفة، أي المعارضة السورية. وفي الوقت نفسه، طلب السيد نصر الله من مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في «حزب الله» الحاج وفيق صفا و«كتلة الوفاء» ووزراء الحزب متابعة الملف، مع كل من يعنيهم الأمر سياسيا وأمنيا. الوعد الحريري.. الناقص وفي خضم الاتصالات التي كان يجريها كل من سليمان وبري وميقاتي ومنصور ووزير الداخلية مروان شربل، مع جهات اقليمية أبرزها تركيا وقطر، طيلة يومي الثالث والعشرين والرابع والعشرين، تلقى رئيس المجلس النيابي اتصالا مفاجئا من الرئيس سعد الحريري صبيحة الخامس والعشرين من ايار(عيد التحرير الثاني عشر)، تبلغ فيه أن الزوار اللبنانيين بصحة جيدة وسيصلون بعد قليل الى الأراضي التركية. لم يصدق بري ما سمعت أذناه، وأعاد الاتصال أكثر من مرة بالحريري مدققا، قبل أن يزف الخبر الى «حزب الله» وعدد من معاونيه. كرت سبحة الاتصالات بين بري والحريري، قبل أن يستأذن رئيس «تيار المستقبل» رئيس حركة «امل» بأن يتولى نقل المفرج عنهم الـ11 بطائرته الخاصة من تركيا إلى مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، ورد عليه بري سريعا: «أبشر يا شيخ سعد»! حرص رئيس المجلس على وضع قيادة «حزب الله» في أجواء كل ما يستجد لحظة بلحظة خاصة أن السيد نصر الله كان يفترض أن يطل عصر اليوم نفسه، عبر الشاشة من منبر «عيد التحرير»، في مدينة بنت جبيل. وبالتزامن، تلقى الحاج وفيق صفا سلسلة اتصالات من رئيس «فرع المعلومات» اللواء الشهيد وسام الحسن، بتكليف من سعد الحريري، وطال النقاش هاتفيا بينهما أدق التفاصيل. موعد اقلاع الطائرة ووصولها. اجراءات الاستقبال في مطار بيروت الدولي. النقل المباشر. في الوقت نفسه، يسأل أحد القيمين على «المنار»، الحاج وفيق، «ماذا إذا تزامن الوصول مع بث كلمة السيد نصر الله على الهواء مباشرة من بنت جبيل؟ هل نقطع البث المباشر ونكتفي بالمطار أم ننقل الاثنين معا»؟ انضم تلفزيون «المستقبل» الى الحشد الاعلامي في الضاحية الجنوبية وأرسل سيارة للنقل المباشر وقدمت للفريق التقني والإعلامي «كل التسهيلات». أطل عدد من قياديي «حزب الله» عبر الشاشة الزرقاء الصغيرة. كان وسام الحسن مهتما فوق العادة بهذه القضية الإنسانية من زاوية التعويل عليها لإعادة فتح الأبواب المقفلة سياسيا بين «الضاحية» و«بيت الوسط» من خلال هذا العنوان الإنساني الجامع. قال الرئيس بري في جلسة مع أسرة «السفير» في اليوم نفسه ان الحريري صادق في نياته والرجل يريد استثمار هذا الملف الانساني سياسيا لتسليف الشيعة وبالتالي اعادة فتح الأبواب السياسية المغلقة مع الحركة والحزب منذ استقالة حكومته في مطلع العام 2011. وحده ومن خارج السياق السياسي والديبلوماسي والاعلامي، اتصل رئيس جهاز المخابرات التركية الدكتور حقان فيدان بعدد من أصدقائه اللبنانيين مستغربا ما يجري، وانتهى الحديث بينه وبين أحدهم بالنصيحة الآتية: لا تعذبوا أنفسكم بالذهاب إلى مطار بيروت.. «اللبنانيون الأحد عشر لم يفرج عنهم»! اتصالات مفتوحة.. ولكن من عين التينة، كان بري ومن حوله معاونه السياسي الوزير علي حسن خليل والمسؤول «الحركي» أحمد بعلبكي ومستشاره الاعلامي الزميل علي حمدان يلمون بكل التفاصيل. طلب بري من علي حسن خليل وضع الحاج حسين خليل «بكل شاردة وواردة». ظلّ رئيس المجلس على تشاور مستمر مع الرئيس ميقاتي ووزير الخارجية عدنان منصور، وكانا يطلعانه على نتائج الاتصالات المفتوحة مع تركيا وخاصة مع أحمد داود أوغلو. تأخر وصول الطائرة، فاتصل بري بالحريري مجددا وكان جواب الثاني أن طائرته لن تتمكن من التوجه مباشرة من قبرص الى أضنة لاعتبارات تركية «سيادية». على أساس هذا المعطى القسري، اتجهت الطائرة الحريرية من قبرص اليونانية إلى بيروت واتجهت منها، قرابة السادسة والنصف مساء، الى أضنة التركية. في غضون ذلك، كان نصر الله قد أطل على المحتشدين في احتفال التحرير موجها التحية لكل من ساهم بعملية الافراج عن الزوار الـ11 وخص بالذكر رئيس «تيار المستقبل»، وأعاد التأكيد على أن أي عمل من نوع خطف الزوار لن يغير قناعات الحزب ووقوفه الى جانب النظام السوري. في الاتصال المسائي الأول، والسابع على مدى ذلك النهار الطويل، سأل بري الحريري أين أصبحت طائرة الزوار، فأجابه بأنها وصلت الى أضنة وأن اجراءات لوجستية تتخذ من قبل الأتراك عند الحدود مع سورية وما ان تنجز حتى تتوجه قافلة الزوار الى مطار أضنة ومنها مباشرة الى بيروت. وبرغم الهواجس التي بدأت تنتابه، حرص بري على توجيه الشكر مجددا للحريري وقال له «أتمنى عليك يا شيخ سعد أن تتصل بي عندما تقلع الطائرة من أضنة». اتسع طابور المنتظرين في المطار من سياسيين وعائلات وأمنيين واعلاميين ومهتمين، لكن لم يأت الخبر اليقين. غاب سعد الحريري لفترة عن السمع وكذلك اللواء الحسن. عند الثانية عشرة ليلا أدرك الجميع أن أمرا ما أدى الى تعثر العملية، وكانت كلمات وزير الداخلية كافية لتفريق الحاضرين والتمني بأن يصبحوا على عائلاتهم وقد عادوا إلى لبنان «بألف خير». التبريرات التركية..لا تقنع أحداً في اليوم التالي، سعى كثر الى الحصول على جواب واضح.. لكن حتى الآن، لا جواب حاسما أو نهائيا عند أحد حول حقيقة ما جرى. طبعا كثرت التخمينات، وبينها أن خطاب نصر الله في احتفال بنت جبيل أعاد الأمور الى نقطة الصفر أو أن جهة إقليمية أو دولية ضغطت على الخاطفين، فقرروا التراجع عن وعدهم للحريري أو أن معطيات ميدانية وأمنية في منطقة أعزاز أدت الى تعديل ما كان مرسوما. أما الأتراك، فكانوا على أكثر من موجة. أهل الأمن شيء وأهل السياسة شيء آخر. لاحقا قال أوغلو للمستفسرين انه حصل سوء فهم من جانب اللبنانيين. نحن لم نبلغهم أنه تم اطلاق سراح الزوار بل قلنا لهم انهم بخير ومن المتوقع أن يصلوا الى الأراضي التركية، لكن سرعان ما بدّل الخاطفون رأيهم. لم تقنع تبريرات أوغلو وأردوغان أحدا ممن اتصل هو شخصيا بهم. بين هؤلاء نجيب ميقاتي الذي بدا مربكا، ذلك أنه كان مقررا أن يبدأ زيارة رسمية لتركيا في السادس والعشرين من ايار، تتضمن لقاءات مع رجب طيب أردوغان وأوغلو. تشاور رئيس الحكومة بالأمر مع حلقة ضيقة ثم اتصل ببري وسأله رأيه، فكانت النصيحة أنه ما دام لا شيء مضمونا من جانب الأتراك في موضوع الافراج عن الـ11، «فأنصحك بتأجيل الزيارة». جُنّ جُنون سعد الحريري الذي شعر بأن هناك من أوقعه في كمين موجع.. وبدلا من أن تعطي القضية ثمارا ايجابية في العلاقات الداخلية، أدت الى تفاقم الموقف وبالتالي سرّب زعيم «تيار المستقبل» للاعلام في مرحلة ما أنه سحب يده من الملف.. خاصة ان الهمس كان قد بدأ يرتفع حول دور الأمن التركي وجهات خليجية في اعادة الأمور الى نقطة الصفر. ووفق ديبلوماسي عربي مقيم في العاصمة التركية، فان «الفاول» الأساسي ارتكبه سعد الحريري عندما اعتقد أن بمقدوره أن «يمون»، حيث تبين أن قرار المجموعة الخاطفة عند القطريين وليس السعوديين، وهي النقطة التي أوقعت أيضا أحمد داود أوغلو في خطأ التقدير نفسه، بينما كان مدير المخابرات التركية يدرك أن من أقدم على الخطف لن يترك للحريري أن يستثمر سياسيا من خارج الوظيفة الأصلية للفعل نفسه! الأهالي يتحركون ويهددون وبالفعل، صدر في صبيحة السابع والعشرين من أيار (الأحد)، أول تهديد من جانب الأهالي ضد تركيا عبر تحميلها مسؤولية الخطف وبالتالي عودة المخطوفين الى لبنان سالمين. لم تمض ساعات على صدور أول تهديد أهلي، حتى كان السفير التركي اونان اوزيلديز، يقطع اجازته التركية ويجول في بيروت على كل من بري وميقاتي ورئيس «كتلة الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد والمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم لابلاغهم رسالة تركية تتضمن تعهدا بالعمل من أجل عودة المخطوفين سالمين! كثر الطباخون في ملف أعزاز. لم يبق مسؤول في الدولة الا ووضع يده فيه. معظم المشايخ السلفيين اللبنانيين عرضوا مساهماتهم ولعب الشيخ سالم الرافعي دورا بارزا في هذه القضية. جهات أمنية لبنانية وأجنبية أبرزها المخابرات الألمانية تبرعت بأدوار معينة وأثارت إشكاليات في مرحلة من مراحل التفاوض، حتى أن بعض الإعلاميين اللبنانيين تحولوا في بعض الأحيان الى وسطاء وناقلي رسائل، مع اتساع مسرح الخطف في أعزاز ليتحول الى «هايد بارك اعلامي» مفتوح. شخصيات سورية عدة لمع نجمها وبينها الخاطفون أنفسهم ولا سيما «لواء عاصفة الشمال» بقيادة النقيب المنشق عن الجيش السوري عماد الداديخي الملق بـ«ابي ابراهيم» ومن ثم سمير العموري  والشيخ ابراهيم الزغبي رئيس «حزب أحرار سوريا» الذي كان لعب دور الوسيط بين الخاطفين والأتراك في اطار صفقة الافراج عن الحجاج الايرانيين الـ48. كيف اتخذت قضية أعزاز بعدا أمنيا وسياسيا وتطورت أعمال خطف مضادة.. ولماذا أصر الأتراك على اعتماد القنوات السرية؟

المصدر : السفير/ لينا فخر الدين


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة