دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
ببساطة كلماته ووضوح أفكاره ودقة إصابتها للهدف، يتحدث المخرج المخضرم غسان جبري ليقيّم بجرأة الكثير من الأعمال والمسلسلات، وليعلن انحيازه الموضوعي والشخصي لرؤى وأفكار أصيلة طالما رأى فيها عنوان الدراما التلفزيونية وجوهر تأثيرها.. قبل أن ينقلب كل شيء رأساً على عقب، فتغرق الكثير من الموضوعات في الارتجال، ويغدو التشابه سمة عمل المخرجين الشباب الذين يوقعون معظم أعمال الموسم الرمضاني الحالي.
لكن قبل أن ندخل في التفاصيل، يتوقف غسان جبري عند مشكلة الموسم الرمضاني ذاته، ويقدم لنا مقاربة سريعة في تاريخ تحوله من محطة لعرض بعض الأعمال، إلى موسم لعرض كل الأعمال، مهما غابت القدرة على استيعابها... يقول
قبل أن أتحدث عن رأيي في بعض ما شهدت، أود أن أتحدث عن مشكلة العرض الرمضاني... فرغم كل الاستغاثات والنداءات التي نطلقها منذ سنوات، من أجل ألا يعرضونا لهذا الزخم الدرامي المرهق واللاإنساني في مشاهدة هذا الكم من الأعمال في وقت واحد، وقعنا في نفس الفخ... وأعتقد أن العامل الأساسي هو تجاري بحت، بسبب أن معظم المحطات تسدد ما عليها بمجرد عرض العمل، والعرض في رمضان له مردود إعلاني لا يفوت، ولا يعوض في باقي شهور السنة.
وقد نتج عن التفكير بالعرض الرمضاني بهذه الكثافة، زيادة عدد حلقات المسلسلات واللجوء إلى ما يسمى (المطمطة) في سبيل الحصول على الثلاثين حلقة، وربما على ما يزيد من أجل الاستحواذ على اهتمام المشاهد خلال الشهر، ورضا المعلن في اجتذاب المشاهدين لمتابعة إعلاناته على هذه الشاشة أو تلك، أثناء عرض مسلسله أو مسلسلاته المفضلة.
ظاهرة تفصيل المسلسل في ثلاثين حلقة بدأت على استحياء أواخر السبعينيات من القرن الماضي في الدراما المصرية، لكنها تأخرت في سورية حتى نهاية الثمانينيات... إذ لم تكن لدينا الخبرة الكافية لصناعة مسلسلات الثلاثينات، ولم تكن لدينا كوادر فنية كافية لتغطية هذا الكم الكبير للإنتاج الدرامي... إلا أن الأمر اختلف مع تحول رمضان إلى موسم أساسي للعرض، وهنا يمكن القول ان (ثورة العرض الرمضاني) بدأت في أوائل تسعينيات القرن العشرين وكان التفوق فيها للدراما المصرية... ثم أصبحت الدراما السورية منافساً قوياً وشرساً على الساحة العربية منذ موسم عام 2000.
بعيداً عن مشكلة كثافة الأعمال في موسم رمضان، ما الذي يزعجك أيضاً في مسلسلات هذا العام؟
هناك أكثر من ظاهرة... أولها طغيان الإنتاج التجاري... الذي يضع هم التسويق في رأس أولوياته، ومن دون التفكير بما يريد أن يقوله العمل بالضرورة... وهذا يجعل صناع العمل يفكرون في التنازلات قبل أن يفكروا فيما يريدون قوله وكيف.... ويسعون بالتالي لإنتاج وإخراج أعمال على الموضة
كيف؟
يعني للعام الثالث على التوالي، ومنذ النجاح المدوي للجزء الثاني من مسلسل (باب الحارة) ونحن نرى أعمالاً تسعى لركوب موضة باب الحارة...كل هذا يؤدي إلى الملل وإلى فقدان العمل الناجح لبريقه، والمفارقة أن (باب الحارة) نفسه بسبب هاجس تقليد الأعمال الأخرى له، وقع ضحية هذه الموضة، وصار يكتب من أجل المنافسة وليس من أجل قول شيء جديد ومهم
الظاهرة الأخرى المزعجة أيضاً هي استهلاك الفنان السوري لنفسه من خلال المشاركة في أكثر من عمل أو عملين في كل موسم. كنا نقول دائماً أن الفن الدرامي التلفزيوني القائم على حلقات تعرض يومياً يحرق الممثل... فكيف إذا كان الممثل يشترك في أربعة أو خمسة مسلسلات في وقت واحد
من أكثر الممثلين الذين تعتقد أنه استهلك نفسه هذا العام؟
السيدة منى واصف نراها على سبيل المثال في (باب الحارة- وراء الشمس- الصندوق الأسود- أسعد الوراق) في وقت واحد... الفنان خالد تاجا أيضاً يظهر في كم كبير من الأدوار... وغيره أيضاً هذا يدفع إلى عدم القناعة الدرامية بالممثل... وهذه المشكلة لا أجد لها سبباً، وخصوصاً في الوقت الذي أصبحت فيه الأجور معقولة نوعاً ما، ولا يوجد سبب لهرولة الفنانين من موقع تصوير إلى آخر، من أجل حصد أكبر كم ممكن من الأعمال
الشيء الآخر الذي أريد الإشارة إليه قبل إبداء رأيي بالتفصيل في بعض الأعمال هي مسألة عدم احترام الجهات الإنتاجية للحقوق المعنوية والأدبية للفنان. فالعملية الإخراجية الحقيقية تتمتع ببصمة وتحمل توقيعاً... وعندما يقوم علاء الدين كوكش بتحقيق بصمته في صناعة الجزء الأول من مسلسل (أهل الراية) بدءا من طريقته الخاصة في قراءة النص، واختيار الممثلين وتوزيع الأدوار، والموسيقى وأغنية الشارة ويحقق نجاحاً، فكل هذه العناصر الفنية هي ملك له ولا يجوز التعدي عليها في الجزء الثاني، ومنحها لمخرج آخر كي يتكئ عليها... والأمر الأفظع حدث في مسلسل (صبايا) مع تحفظي الأكيد على التوجه العام للمسلسل سابقاً ولاحقاً، فقد أقصيت كاتبته، واستبدل مخرجه، ولم يبق منه في الجزء الثاني سوى اسمه وممثلاته... هناك حقوق أدبية ومعنوية، لا تهتم الدراما السورية اليوم بوضع تقاليد لحمايتها واحترامها، وهذا أمر خطير ومقلق، ويمس التزام بعض المبدعين الجدد تجاه زملائهم.
في التوجه العام... إلى أين تسير الدراما السورية على صعيد معالجة الموضوعات؟
أنا أرى أن هناك هجوما سينمائيا شرسا على الشاشة الصغيرة... فالأعمال الضخمة الإنتاج بطريقة استعراضية، والدراما البطولية المشحونة بالمعارك والحشود الصاخبة... صدقني هذا كله لن يبقى في ذاكرة المتفرج حين تغيب الدراما الإنسانية التي تنصت لآلام وعذابات الناس بطريقة مرهفة.... وشخصياً ما زلت أرى أن الدراما التلفزيونية يجب أن تلتصق بقضايا الإنسان المعاصر... يجب أن تهمس له لا أن تصرخ في وجهه دائماً، ويجب أن يوظف الإنتاج الضخم والتاريخ والخيال من أجل إبراز واقع الحال
ما هي المسلسلات التي وضعتها في قائمة مشاهداتك اليومية؟
تابعت العديد من المسلسلات، أنا بطبيعتي مهتم بصورة دمشق في الدراما، لذلك شاهدت بعض حلقات (باب الحارة) وما زلت أقول ان هذا العمل ظهر في الجزءين الأول والثاني بأسلوبية مميزة، ولكنني وجدت أن (باب الحارة) يجب ألا يقلد، لأن كثرة تقليده أفقدتني حنيني للماضي، وصار أي منتج يريد ركوب الموجة يقول: أريد مثل باب الحارة
وما رأيك بأداء مخرجه بسام الملا؟
*بسام فنان دؤوب، لكنه في هذا الجزء ظهر ملولاً... وبصراحة أكثر ما يعجبني فيه أن لديه جرأة على تكسير رؤوس بعض الممثلين عندما يحتدم الصراع حول من يقود العمل... وهو شيء لم نكن نجرؤ عليه، لأن بعض الممثلين وللأسف يعتقدون أنهم متى بدأوا التصوير سيمسكون المخرج من يده التي تؤلمه كما يقول المثل... وبصراحة أنا لا أقول إن الحق دائماً هو مع المخرج أو مع بسام تحديداً، لكن السؤال الذي أحب أن أطرحه بتجرد: متى ينتهي هامش الممثل في أداء ورسم الشخصية والتحكم في مسارها، ليبدأ دور المخرج وهامشه؟ سؤال كنت أظن نفسي أعرف إجابته بعد ما يقارب من أربعين عاماً من العمل الإخراجي... لكنني أكتشف أنني عاجز عن الإجابة عليه في ظل تقاليد الإنتاج الجديدة
بعيداً عن المقارنة... كيف ترى الجزء الثاني من (أهل الراية) في سياق أعمال البيئة الشامية؟
بأسف شديد لم تدرس الوثيقة التاريخية بشكل جيد. إن مشاهد سوق الناس إلى (الأخد عسكر) لم تكن بهذه (الديمقراطية) و(اللطافة) التي ظهرت عليها في البداية. كانت الأمة كلها تعتبر من عبيد السلطان، وقد ذكر لي والدي وجدي كيف كانت تساق الناس إلى حروب في أماكن بعيدة كحرب الروملي وشبه جزيرة القرم، ليموتوا في أرض لا ناقة لهم فيها ولا جمل... وعلى العموم يمكننا أن نرجع إلى مصادرنا التاريخية الموثوقة ككتاب (سقى الله حي الوردات) ورواية (بيت جدي) لألفة إدلبي، و(دمشق في مطلع القرن العشرين) لأحمد حلمي العلاف، لنجد أن بعض مشاهد المسلسل في هذا السياق غير مطابقة للحقيقة بأي شكل من الأشكال... ثم من المضحك عدم دراسة الإكسسوار والسلاح في ذلك العصر مما يجعل هناك بعداً حقيقياً بين المشاهد والكثير من تفاصيل العمل، وخصوصاً لمن عايشوا أو اطلعوا على وثائق تلك الفترة... ورغم بعض المشاهد العاطفية الجميلة فإن هذا الجزء يغلب عليه طابع الثرثرة واجترار بعض الحالات والمفاهيم السوقية
وكيف وجدت الرؤية الإخراجية بين مخرج الجزء الأول ومخرج الجزء الثاني؟
الأستاذ علاء عنده بصمة وتوقيع ونفس لم أجده عند مخرج الجزء الثاني سيف الدين السبيعي... ربما بسبب ضغط العمل السريع، وبسبب استخدام الكاميرا الواحدة بأسلوبية متشابهة جداً بين معظم المخرجين الشباب الذين يعملون اليوم
من الأعمال الاجتماعية المعاصرة... أي الأعمال استوقفتك؟
تابعت بعض حلقات مسلسل (وراء الشمس) فوجدت أن المسلسل وجبة ثقيلة الهضم
لماذا؟
دعنا نتحدث بصراحة، تحتاج هذه الأعمال إلى متذوق حساس ومثقف وذكي... فلا يتقبل كل الناس أن ترى المعاقين طويلاً على الشاشة... مع تسجيل احترامي وتقديري الكبيرين للشاب (علاء) الذي أدى دوراً يعيشه في الحياة. ولكني أرى أن هذه الأعمال يجب أن لا تكون طويلة، بل يمكن أن تأتي مكثفة وقصيرة ومليئة بالمعنى النبيل، لأن زيادة الحلقات يمكن أن يعطي مفعولاً عكسياً... ناهيك عن أن العمل يعاني من التشتت في عرض نماذجه، ومن ضعف الحبكة في إيجاد روابط بينهم
ما رأيك بأداء بسام كوسا في (ما وراء الشمس)؟
أداؤه يذكرني في بعض اللحظات ببطل فيلم (اسمي خان) لكن يبقى بسام كوسا من الممثلين الذين يتعبون على أنفسهم ويحترمون مهنتهم... وهو ممثل درجة أولى في أداء هذه الشخصية الصعبة والمقعدة
وكيف رأيت النسخة الجديدة من مسلسل (أسعد الوراق)؟
لم أستطع في أي مشهد شاهدته، أن أحذف من ذاكرتي (أسعد الوراق) القديم، كان الأستاذ علاء الدين كوكش ممسكاً بدراما العمل بحنكة أكبر، وقدم بطله ضمن مزيج فريد من البساطة والسذاجة والتألق والصوفية معاً، واستطاع أن يصطادني بذكاء منذ أول لقطة من الشارة حين تظهر بعض الوجوه لتقول لنا: (الله يرحمو أسعد الوراق... كانوا يقولوا عنه وليّ)... أيضاً لم أستطع أن أحذف هاني الروماني من مخيلتي أو أصم أذني عن خلجات روحه وهي تتجلى في تأتأته وأسلوب نطقه، أو أنسى الاختناق الأبكم لدى منى واصف وكيف يتراكم حتى يغدو صرخة مدوية في النهاية... وسأقول لك باختصار: هناك شيء ينفرني من العمل الجديد، لا أدري ما هو!
هل لفتك مسلسل (ذاكرة الجسد) المأخوذ عن رواية أحلام مستغانمي؟
إنه عمل غريب حقاً... فقد تحول مسلسل (ذاكرة الجسد) إلى عمل تسيطر فيه الكلمة الأدبية على الصورة... ورأيت الكثير من المشاهد التي تحولت فيها حوارات الشخصيات إلى ثرثرة على الهاتف وبحلول فنية كسولة. لقد تحول العمل إلى رواية مقروءة يستظهرها الفنانون على الشاشة، ولولا بعض مشاهد التصوير الخارجي لأمكن القول إن هذا العمل قد أعادنا إلى بدايات التلفزيون
دعنا ننتقل للحديث عن الأعمال الكوميدية... كيف رأيتها هذا الموسم؟
السؤال يبقى: (هل تأتي السمكة إلى الطعم مرتين)؟ وأقصد بذلك المسلسل الكوميدي (ضيعة ضايعة) إنه عمل تلفزيوني مميز فيه خصائص الدراما التلفزيونية، فهو يقدم أولاً قصصاُ بسيطة قابلة للإسقاط، ثم بيئة محددة واضحة الملامح، ويجسد هذا كله عبر عدد قليل من الأشخاص مما يجعل حتى الحجر بطلاً. وعلى الرغم من أن دهشة اللقاء حسمت في الجزء الأول، إلا أنني أقبل على مشاهدته بمتعة. وتبقى روح دريد ونهاد مسيطرة على العمل، وخصوصاً علاقة الثنائي الكوميدي أسعد وجودة، مع ملاحظة فارق العلاقات الريفية المحدودة الاهتمامات هنا، والمبالغة في التمثيل والجنوح نحو التهريج... وان يكون تهريجاً مستساغاً، بحيث يبقى (ضيعة ضايعة) درجة أولى في كوميديا البيئة.
العمل الكوميدي الآخر (أبو جانتي) ولم يأت عمل الأستاذ سامر المصري بالمستوى المطلوب. الشخصية تحتمل الكثير من عوالم الفروسية المعاصرة التي رأيناها في بعض الحلقات (حلقة إسعاف المرأة التي توشك على الولادة إلى المستشفى) لكن هذه الفروسية كانت تغيب ليحل محلها نوع من التظارف... وعلى صعيد الإخراج، يحتاج إخراج (أبو جانتي) إلى تقنيات، ليست متوفرة في العمل، فهناك تقنيات متطورة مجهزة خصيصاً لتصوير هذا النوع من الأعمال التي تعتمد التصوير في الشارع بشكل أساسي، فلا تظهر صورة البطل بهذه الكثافة والامتلاء طيلة المشهد... أو الحلقة إن شئت.
ما هي ملاحظاتك على العناصر الفنية في مسلسلات هذا العام من ديكور وموسيقى وتصوير؟
يزعجني جداً استخدام الموسيقى التصويرية بسبب ومن دون سبب. في كثير من المشاهد يكون الصمت أبلغ من الكلام والموسيقى المستعملة، ومن المؤسف جداً أن يحشر هذا الكم الهائل من الموسيقى سواء أكانت مناسبة للحدث أم لم تناسب.
هناك أخطاء كبيرة في الإضاءة والتصوير في بعض الأعمال... فبعض المخرجين الشباب يعتبر أن وظيفة الإضاءة هي إنارة الفراغ المظلم بشكل واضح وجلي، في حين أن للإضاءة جماليات تعبيرية لم أرها في كل الأعمال... لكنني أوجه تحية من القلب إلى بعض مهندسي الديكور، وفي هذا المجال فالإبداع يظهر في (باب الحارة) وفي (ضيعة ضايعة) نشعر أن هناك بصمة فنية.
كلمة أخيرة توجهها للدراما السورية على ضوء ما قدمته في موسم رمضان 2010؟
في هذا العام كانت المنافسة قوية مع الدراما المصرية التي تحاول أن تنهض بقوة... وأعتقد أنه يجب على الدراما السورية ألا تنسى أن الدراما رسالة... فنحن لدينا خطوط واضحة في صناعة الدراما يجب أن نطورها بدل أن ننسفها... وهنا دعني أسألك أين الرسالة في مسلسل (صبايا) أو شابه.
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة