دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
في موازاة التفاؤل الدولي بالاتفاق على نزع الأسلحة الكيميائية السورية، يسير القلق من انهيار الاتفاق. مباعث ذلك تنتظم في بعدين. الأول، هو لعبة السياسة الدولية، باعتبار أن الاتفاق هو ابنها الشرعي، ومن هنا التلويح الأميركي باستخدام القوة في حال عدم الامتثال، والمحاججات الروسية التي تواجه مواصلة تلميع هذا الخيار. أمّا المبعث الثاني فواقعي وعملي: الوضع الأمني وتعذّر التنفيذ في ظل حرب مستمرة.
حول هذه القضية، حاورت «السفير» دانيال فيكس، مستشار الإستراتيجيا والسياسات في منظمة حظر انتشار الأسلحة الكيميائية. الرجل حضر مؤتمراً دولياً لنزع الأسلحة وحظر انتشارها، أقامه في بروكسل المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية. المعهد المرموق، ومقره لندن، وقد جمع على مدار يومين نخبة من كبار الباحثين والخبراء في مجال أسلحة الدمار الشامل، وأقام مؤتمره تحت مظلة الاتحاد الأوروبي وبحضور مسؤولين فيه.
في الجلسة التي تحدث فيها فيكس، كان المستشار الكيميائي يتحفظ طوال الوقت على تقديرات زملائه. كان كلامهم يذهب ليقلّب النتائج السياسية للاتفاق الدولي، فيما هو يركز على الناحية العملية.
خلال حديثنا معه يقرّ بالوضع الاستثنائي الذي تواجهه منظمته حيال الملف السوري. في شكل ما، طُلب من المنظمة أن تصدر قراراً حول سوريا على وجه السرعة، بالرغم من أنها ليست مؤهلة، ولا معتادة، على العمل كقسم للبريد العاجل. المجلس التنفيذي ارتبك، وتأجلت اجتماعاته مراراً. تم إصدار وثائق وضعت عليها تواريخ اجتماعات أُلغيت لاحقاً. التأم المجلس أخيرا حول التفاهم الروسي ـ الأميركي، وأصدر قراره للمضي بنزع الكيميائي السوري بحلول منتصف العام 2014. حتى طريقة إصدار القرار لم تخلُ من المفارقة، إذ رأى النور بعد اجتماع استمر حتى منتصف الليل. لم يكن هناك مفر من هذا الظرف. كان الأعضاء الدائمون في مجلس الأمن الدولي في نيويورك يجلسون وعيونهم على ساعاتهم، بينما الاتصالات مستمرة على مدار اللحظة مع لاهاي، حيث مقر المنظمة، وكذلك التواصل عبر الرسائل النصية: نريد قرار المنظمة لنصدر قرار مجلس الأمن بناء عليه.
يضحك المستشار فيكس من هذه التفاصيل وهو يرويها. يقول إنهم يعملون الآن على «لائحة اللوازم»، التي ستضعها المنظمة أمام المجتمع الدولي لكي يؤمنها.
يقول: «يفترض أن تنتهي القائمة خلال أيام، وكنا نعمل على هذا الإعلان منذ الأسبوع الماضي. ستغطي القائمة ثلاثة مجالات: الناحية الأمنية، المتطلبات اللوجستية، والدعم في الميدان. سيكون لدينا في سوريا مهمة متواصلة. أرسلنا بعثة هذا الأسبوع، والذي بعده، وخلال الأشهر المقبلة سنواصل إرسال الفرق، وهذا يحتاج نقلا جويا».
ويشدد مستشار المنظمة على أن عملها سيكون أشبه بفريق خبراء تفتيش وجرد، يعاين ويقارن ويشطب على الورق، لكن التنفيذ ليس مجال اختصاصها: «كمنظمة، نحن لا نملك المعدات والمرافق، ولا التكنولوجيا اللازمة للتدمير (إتلاف الأسلحة والمخزون الكيميائي)، هذا ما سيوفره الدول الأعضاء أو يوفرون المعلومات لبناء المرافق اللازمة للتدمير داخل سوريا مثلا. محققونا لا ينفذون التدمير، لكننا نراقب ونتحقق من أن الأسلحة أُتلفت». بهذا المعنى، ستحتاج المنظمة، من الدول المتبرعة، ليس فقط للمال، بل لفرق التعامل مع الأسلحة الكيميائية، وهؤلاء، في العادة، يتبعون لجيوش الدول ومؤسساتها العسكرية. بعض الدول، روسيا وإيطاليا وألمانيا وإيران وغيرها، توالت على إعلان استعدادها للمساعدة. الاتحاد الأوروبي قال سابقا إن الدول التي لديها خبرة معتبرة في مجال التعامل مع الكيميائي هي ألمانيا والسويد، ومن خارجه الولايات المتحدة واليابان.
لإعطاء صور أقل ضبابية عما ستحتاجه المهمة، يطلب مستشار المنظمة من الجميع التوقف عن التكهن، وانتظار الفريق الموجود الآن في سوريا، والذي يعمل مثل فرقة استطلاع متقدمة. حول هذا الجانب يوضح فيكس «سيكون صعبا إصدار حكم حول ماذا سنفعل بالضبط، قبل أن يرى الخبراء هناك كيف تم التخزين، بالنسبة للأسلحة والمعدات. الآن يستطلعون أوضاع المخزونات والمرافق الكيميائية، وعندما يعودون ستكون لديهم فكرة أفضل، إذا كان في الإمكان نقل المخزونات وإخراجها، أم يجب إبقاؤها في مكانها».
اكتفى فيكس بالصمت، وهو يستمع إلى خبراء وباحثين، يشاركونه الجلوس على منبر المؤتمر. كانوا يعلقون في السياسة، عاطفين أوضاعها على صعوبة مهمة المنظمة في سوريا وصولا إلى التشكيك بإمكانية إتمامها.
أحد خبراء الشرق الأوسط في معهد الدراسات الإستراتيجية قال إنه يرصد الوضع السوري على مدار اللحظة، ولا يمكنه فهم كيف يتحدث المجتمع الدولي عن مهلة منتصف العام 2014 كموعد واقعي. التهديد برأي هذا الخبير يأتي من تعقيد الوضع الأمني، وتحديدا من جانب المعارضة المسلحة، إذ قال بلهجة ساخرة «أتحدى أي شخص، أي قائد عسكري، أن يقول لي إنه يملك السيطرة على الوضع، فما البال بالمعارضة السياسية!»، قبل أن يضيف «كل مجموعة مقاتلة لها توجهها، ورأيها، وعموما، وجهة نظرهم أن الغرب لم يتدخل عسكريا لذلك فهم لن يستمعوا إلى ما يريده، وبالنتيجة هم من بيدهم أمر القتال وإدارته».
لكن هذا الخبير لم يخف عدم ارتياحه لنتائج الاتفاق الدولي، إذ قال إن من نتائجه أن «خروج (الرئيس بشار) الأسد لم يعد محط نقاش، فقد وجد طريقه للعودة. لقد خرج رابحا من الاتفاق... بهذا المعنى، لا أعتقد أن الاتفاق سهّل عمل السياسة بل بالعكس جعلها أصعب».
لا يعلق مستشار منظمة حظر انتشار الأسلحة على كل هذه التقديرات، عمله تقني وكلامه أيضا. لكنه كان مضطرا للتوضيح، وهو يستمع للمستشار الدولي حول نزع الأسلحة البروفسور رالف تراب، وهو يستصعب مهمة المنظمة، لدرجة السخرية من واقعية موعد إنجازها.
سأل تراب مجالسيه إن كانوا يتذكرون القطار الأميركي الذي توجه لنزع الأسلحة الكيميائية في ألمانيا. ذكّرهم بالإجراءات الكثيرة، والاحتياطات الأمنية المشددة، التي رافقت تلك المهمة، معلقا على سخرية المقارنة «وهذا كان في بلد آمن ومستقر».
عندما سألت «السفير» البروفسور تراب إن كان يقصد أن المهمة لن تنجح، قال إنه «متفائل بالاتفاق الدولي»، لكنه شدد على أنها «ستكون عملية صعبة للغاية، فنحن نتعامل مع إطار زمني قصير جدا، ومع أسلحة جدّ خطيرة يجب تدميرها». وأضاف «كما سيمثل الوضع الأمني مشكلة، ويتطلب من كل أطراف الحرب الأهلية في سوريا دعم العملية وهذه واحدة من المشاكل». هناك كلام عملي صدر من دمشق يعزز هذه المخاوف، بعد إعلانها أن سبعة مواقع لمخزونات الكيميائي وأسلحته، من أصل 19 موقعا، تقع في مناطق قتال.
هنا ينطلق المستشار فيكس للإجابة، بعدما أثرنا هذا الموضوع أمامه، فعلى الأقل هناك أمن فرق المنظمة على المحك، ويقول «في قرار المجلس التنفيذي للمنظمة، طلبنا الدعم من الدول الأعضاء، وبالتأكيد نريد فرقاً مؤهلة (للتعامل مع الكيميائي)، بسبب معايير السرعة والعجالة المطلوبة»، ويضيف «قرار مجلس الأمن أوضح أن أمن الفرق مسؤولية الحكومة السورية، لكننا نعمل أيضا عن قرب مع الأمم المتحدة، والأمن هو المسألة الأولى التي نحتاج دعمهم فيها. الأمم المتحدة ليس لديها قوات في سوريا، لكنّ لديهم خبراء أمنيين، هم في البلد الآن، وتعداد كادرهم يصل لقرابة ألف شخص، بمن فيهم الأمنيون الذين يقيّمون المخاطر، ويقررون في مسألة السلامة. لهذا، أي مكان يتفقده خبراء المنظمة سيحصل ذلك بالتنسيق مع مسؤولي أمن الأمم المتحدة الذين يعرفون البلد والبيئة والصراع. إذا قالوا لنا إن الفريق لا يمكنه الذهاب إلى مكان معين فلن نذهب».
لكن الواضح أن دمشق وضعت نفسها، سلفا، خارج نطاق المسؤولية عن الصعوبات، وأخلت مسؤوليتها بالتالي عن تعذّر تنفيذ الاتفاق ربطا بذلك، سواء بالإعلان عن مواقع كيميائية داخل مناطق قتال، أو عن القدرات التي يمكنها توفيرها لتنفيذ القرار الدولي. يقول فيكس حول هذه المسألة «وفقا لاتفاقية حظر الأسلحة الكيميائية، تقع المسؤولية الأكبر في تدميرها على البلد المعني. إذاً، هي بالدرجة الأولى مسؤولية الحكومة السورية. لكن في هذه الحالة، مثلا، قال الرئيس (بشار) الأسد سلفا أنه لا يوجد المال الكافي لتمويل المهمة، ولذلك أعتقد أن دولا أخرى ستشارك بتوفير التمويل».
المصدر :
السفير / وسيم ابراهيم
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة