قدِم «الجهاديون» إلى سورية من شتى بقاع الأرض بتمويل وفتاوى من الخليج وتسهيلات لوجستية تركية وعبر حدود مفتوحة من لبنان والعراق وأحياناً الأردن.

لم يكن الأمر خفياً على أي من ممثلي المعارضة السورية في الخارج. اختصر رئيس «الائتلاف الوطني» السابق معاذ الخطيب الأمر متأخراً بقوله إن «عروشاً قد تنهار»، وهي، نتيجة خوفها «من البعبع الإيراني»، تحمي نفسها عبر «تحويل الصراع إلى بلاد الشام للخلاص من الجماعات المؤرقة لها ومن حزب الله معاً».

لكن الجماعات التي تحدث عنها الخطيب لم تكن وليدة شهر حزيران الفائت (تاريخ إطلاقه الموقف المذكور)، بل سبق لها أن تمخضت ونمت على مدى عامين تقريباً، قبل أن تصل إلى طورٍ لم يعد فيه لمسلِّحيها ولا لحلفائها القدرة على احتوائها. وطوال هذه المدة، كان رموز المعارضة السورية المحسوبون على «الائتلاف الوطني» يتباهون بهذه الجماعات وبالدفاع عنها، فيما يتبرؤون منها «تكتيكياً» متى استدعت الحاجة ذلك.

يتقاتل «الجيش الحر» اليوم مع «الدولة الإسلامية في العراق والشام». والأخيرة، كما هو معلوم، ولدت نتيجة إعلان أميرها في العراق أبو بكر البغدادي في نيسان الفائت أن «جبهة النصرة» امتداد لجماعته. لكن اعتراض زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني على إعلان البغدادي أبقى التنظيمين منفصلين. وفي محاولة منه لتثبيت شرعيته، بادر الجولاني إلى مبايعة زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري. إلا أن ذلك لم يمنع السواد الأعظم من كوادر جماعته (خصوصاً غير السوريين منهم) من التسرب إلى التنظيم الذي بات اسمه المختصر، «داعش»، يتصدر أخبار اليوم.

غير أن «النصرة» التي أمدت «داعش» بالصف الأول من مقاتليها كانت «فصيلاً ثورياً» «محموداً»، بحسب معظم رموز «الائتلاف» ومن لف لفهم، وذلك على الرغم من اعتمادها ذات أساليب «داعش» التي يتأفف منها «الجيش الحر» راهناً. فهي نفذت تفجيرات انتحارية راح ضحيتها مئات المدنيين، فضلاً عن عمليات قتل وإعدام وتعذيب وتهجير لآلاف آخرين. ولمن يعود إلى الأرشيف أن يلحظ أن إعلان الجماعة عن نفسها في كانون الثاني 2012، أي قبل أقل من عامين بقليل، تم إثر عملية انتحارية في العاصمة دمشق أوقعت عشرات القتلى والجرحى من المدنيين، فضلاً عن عدد يسير من العسكريين.

 

أول تعليق لـ«المجلس الوطني» (السابق لـ«الائتلاف») على إعلان «النصرة» عن نفسها كان أنها صنيعة مخابرات النظام وأن عملياتها تهدف إلى «تشويه صورة الجيش الحر». غير أن إقرار «المجلس» بأن عمليات «الجبهة» مذمومة لم يمنع رموزه ومن بعدهم رموز «الائتلاف» و«الجيش الحر»، من الإسراف في مدحها لاحقاً. فاعتبر رئيس «المجلس الوطني» السابق برهان غليون أنها «لا تشكل خطراً على الثورة إذا استطاع الجيش الحر استيعابها». لكنه أضاف، فيما يشبه التحايل عليها وعلى كلامه، أن «لا مكان لها بعد انتصار الثورة» وأن المجتمع السوري «لا يقبل سلوكيات مغالية وعنفية وليس نموذجاً للأفغنة أو العرقنة».

إلا أن ملاحظات غليون حول «العنف» و«الغلو» فاتت جل قادة معارضة الخارج. فإثر وضع واشنطن الجماعة على «لائحة الإرهاب» في كانون الأول 2012 (أي بعد نحو عام من ظهورها)، أكد رئيس «المجلس الوطني» الذي تلاه، جورج صبرا، أن «الشعب السوري يعتبر النصرة جزءاً من الثورة ولا يفهم سبب إدراجها على لائحة الإرهاب». وأضاف في مقابلة مع السي إن إن (كانون الأول 2012) أن الجماعة «مجرد واحدة من المجموعات التي تشكل الجيش الحر». وفي حين زاد صبرا على ذلك بتأكيده أن «بنادق الثوار جميعاً مقدسة»، طالب رئيس «الائتلاف» معاذ الخطيب الأميركيين بـ«إعادة النظر في وضع الجبهة على لائحة الإرهاب»، مجرداً المسألة من كل أبعادها ومعيداً إياها إلى قضية إيمانية بسيطة بقوله، إن الدين، كدافع لتحرير البلاد، «ليس عيباً» (كانون الأول 2012).

وما أحجم السياسيون في معارضة الخارج عن قوله، ورد على ألسنة عسكرييها في الداخل. ففي آذار 2013، أكد رئيس المجلس العسكري التابع للجيش الحر في حلب (في حوار مع «الجزيرة»)، العقيد عبد الجبار الكعيدي، عدم وجود جماعات متطرفة في سوريا، مشدداً على أن «الجيش الحر» و«جبهة النصرة» يتقاسمان «يومياً غرفة العمليات» ونافياً الحاجة إلى حوار مع «النصرة» لأنهم، وفق تعبيره، لا يختلفون معها في شيء أصلاً.

كلام الكعيدي جاء متناقضاً مع ما أورده رئيس أركان «الجيش الحر» العميد سليم إدريس بعد أقل من شهر (نيسان 2013)، بنفيه وجود تنسيق أو تعاون مع «النصرة» (في حوار مع «سكاي نيوز عربية»). لكن إدريس، رغم ذلك، آثر التغزل بها بعد التبرؤ منها، فنفى عنها حتى الغلو والتهور، مؤكداً أنها «تعتمد على الشباب السوري المثقف ولا تعرف التطرف، وهي حريصة كل الحرص على حماية الوطن».

في الأشهر التالية لنيسان، تحديداً بعد إعلان «النصرة» انضمامها إلى «القاعدة»، خفت صوت المعارضين المتباهين بها من دون أن يتوقف التعاون على الأرض. غير أن هذا التعاون امتاز بحذر مستجد، وراح يتراجع بحدة بعدما أخذ تنظيم «داعش» يحل مكانها، منهياً بوضوحه إمكانية حفاظ المعارضين على العلاقة الميدانية التي كانت قد وظفت غموض «النصرة» لمصلحتها.

 

بدءاً من أيار الماضي، أخذ «الجيش الحر» يعلن عن مخاوفه من نزوح مقاتليه في اتجاه «النصرة» (ومن خلفها الأخ الأكبر «داعش»). نقلت صحيفة «الغارديان عن بعض قادته اعترافهم بفقدان وحدات كاملة لمصلحتها في شمال البلاد. أطلق معاذ الخطيب موقفه في هذا التوقيت بالذات، غير أنه كان قد خرج من دائرة التأثير. ومع مرور الوقت، تحولت الهجرة إلى «النصرة» ومن بعدها إلى «داعش» إلى نسق عام. في هذا السياق أعلن مئات المقاتلين قبل أيام (أكثر من ألف بحسب «رويترز») التحاقهم بـ«النصرة» في مدينة الرقة، علماً أن عنوان الفصيل أصبح ملتبساً اليوم نتيجة ذوبان الفوارق بين «النصرة» و«داعش» وتأكيد المعطيات تضخم الثانية على حساب الأولى بأشواط.

ومع إعلان حلفاء الأمس هويتهم المتشددة بوضوح ومباشرتهم ممارسات عقيدية، لم يعرها المعارضون في السابق أهمية على اعتبار أنها كانت بعيدة عنهم، أخذ هؤلاء الحلفاء يأكلون الثورة من الكتف.

وبعدما ترعرعت «القاعدة» في كنف ممثلي الثورة أو، أقله، الذين أوكلوا تمثيلها من الخارج، اكتملت قدرتها على التهامهم وعلى فرض مسار خاص بها على حساب سائر المسارات.

كبر الحليف ولم يعد بإمكان أحد «الضحك عليه» أو وضعه في جيبه، وها هو اليوم يعلن بلوغه لحظة الاستقلال.

هكذا كان الحال في أفغانستان والعراق قبلاً، حيال الداعمين و«الحلفاء»، المحليين منهم والدوليين. أما سوريا، فليست استثناءً على «القاعدة».

  • فريق ماسة
  • 2013-09-23
  • 7454
  • من الأرشيف

سورية ليست استثناء على «القاعدة»

قدِم «الجهاديون» إلى سورية من شتى بقاع الأرض بتمويل وفتاوى من الخليج وتسهيلات لوجستية تركية وعبر حدود مفتوحة من لبنان والعراق وأحياناً الأردن. لم يكن الأمر خفياً على أي من ممثلي المعارضة السورية في الخارج. اختصر رئيس «الائتلاف الوطني» السابق معاذ الخطيب الأمر متأخراً بقوله إن «عروشاً قد تنهار»، وهي، نتيجة خوفها «من البعبع الإيراني»، تحمي نفسها عبر «تحويل الصراع إلى بلاد الشام للخلاص من الجماعات المؤرقة لها ومن حزب الله معاً». لكن الجماعات التي تحدث عنها الخطيب لم تكن وليدة شهر حزيران الفائت (تاريخ إطلاقه الموقف المذكور)، بل سبق لها أن تمخضت ونمت على مدى عامين تقريباً، قبل أن تصل إلى طورٍ لم يعد فيه لمسلِّحيها ولا لحلفائها القدرة على احتوائها. وطوال هذه المدة، كان رموز المعارضة السورية المحسوبون على «الائتلاف الوطني» يتباهون بهذه الجماعات وبالدفاع عنها، فيما يتبرؤون منها «تكتيكياً» متى استدعت الحاجة ذلك. يتقاتل «الجيش الحر» اليوم مع «الدولة الإسلامية في العراق والشام». والأخيرة، كما هو معلوم، ولدت نتيجة إعلان أميرها في العراق أبو بكر البغدادي في نيسان الفائت أن «جبهة النصرة» امتداد لجماعته. لكن اعتراض زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني على إعلان البغدادي أبقى التنظيمين منفصلين. وفي محاولة منه لتثبيت شرعيته، بادر الجولاني إلى مبايعة زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري. إلا أن ذلك لم يمنع السواد الأعظم من كوادر جماعته (خصوصاً غير السوريين منهم) من التسرب إلى التنظيم الذي بات اسمه المختصر، «داعش»، يتصدر أخبار اليوم. غير أن «النصرة» التي أمدت «داعش» بالصف الأول من مقاتليها كانت «فصيلاً ثورياً» «محموداً»، بحسب معظم رموز «الائتلاف» ومن لف لفهم، وذلك على الرغم من اعتمادها ذات أساليب «داعش» التي يتأفف منها «الجيش الحر» راهناً. فهي نفذت تفجيرات انتحارية راح ضحيتها مئات المدنيين، فضلاً عن عمليات قتل وإعدام وتعذيب وتهجير لآلاف آخرين. ولمن يعود إلى الأرشيف أن يلحظ أن إعلان الجماعة عن نفسها في كانون الثاني 2012، أي قبل أقل من عامين بقليل، تم إثر عملية انتحارية في العاصمة دمشق أوقعت عشرات القتلى والجرحى من المدنيين، فضلاً عن عدد يسير من العسكريين.   أول تعليق لـ«المجلس الوطني» (السابق لـ«الائتلاف») على إعلان «النصرة» عن نفسها كان أنها صنيعة مخابرات النظام وأن عملياتها تهدف إلى «تشويه صورة الجيش الحر». غير أن إقرار «المجلس» بأن عمليات «الجبهة» مذمومة لم يمنع رموزه ومن بعدهم رموز «الائتلاف» و«الجيش الحر»، من الإسراف في مدحها لاحقاً. فاعتبر رئيس «المجلس الوطني» السابق برهان غليون أنها «لا تشكل خطراً على الثورة إذا استطاع الجيش الحر استيعابها». لكنه أضاف، فيما يشبه التحايل عليها وعلى كلامه، أن «لا مكان لها بعد انتصار الثورة» وأن المجتمع السوري «لا يقبل سلوكيات مغالية وعنفية وليس نموذجاً للأفغنة أو العرقنة». إلا أن ملاحظات غليون حول «العنف» و«الغلو» فاتت جل قادة معارضة الخارج. فإثر وضع واشنطن الجماعة على «لائحة الإرهاب» في كانون الأول 2012 (أي بعد نحو عام من ظهورها)، أكد رئيس «المجلس الوطني» الذي تلاه، جورج صبرا، أن «الشعب السوري يعتبر النصرة جزءاً من الثورة ولا يفهم سبب إدراجها على لائحة الإرهاب». وأضاف في مقابلة مع السي إن إن (كانون الأول 2012) أن الجماعة «مجرد واحدة من المجموعات التي تشكل الجيش الحر». وفي حين زاد صبرا على ذلك بتأكيده أن «بنادق الثوار جميعاً مقدسة»، طالب رئيس «الائتلاف» معاذ الخطيب الأميركيين بـ«إعادة النظر في وضع الجبهة على لائحة الإرهاب»، مجرداً المسألة من كل أبعادها ومعيداً إياها إلى قضية إيمانية بسيطة بقوله، إن الدين، كدافع لتحرير البلاد، «ليس عيباً» (كانون الأول 2012). وما أحجم السياسيون في معارضة الخارج عن قوله، ورد على ألسنة عسكرييها في الداخل. ففي آذار 2013، أكد رئيس المجلس العسكري التابع للجيش الحر في حلب (في حوار مع «الجزيرة»)، العقيد عبد الجبار الكعيدي، عدم وجود جماعات متطرفة في سوريا، مشدداً على أن «الجيش الحر» و«جبهة النصرة» يتقاسمان «يومياً غرفة العمليات» ونافياً الحاجة إلى حوار مع «النصرة» لأنهم، وفق تعبيره، لا يختلفون معها في شيء أصلاً. كلام الكعيدي جاء متناقضاً مع ما أورده رئيس أركان «الجيش الحر» العميد سليم إدريس بعد أقل من شهر (نيسان 2013)، بنفيه وجود تنسيق أو تعاون مع «النصرة» (في حوار مع «سكاي نيوز عربية»). لكن إدريس، رغم ذلك، آثر التغزل بها بعد التبرؤ منها، فنفى عنها حتى الغلو والتهور، مؤكداً أنها «تعتمد على الشباب السوري المثقف ولا تعرف التطرف، وهي حريصة كل الحرص على حماية الوطن». في الأشهر التالية لنيسان، تحديداً بعد إعلان «النصرة» انضمامها إلى «القاعدة»، خفت صوت المعارضين المتباهين بها من دون أن يتوقف التعاون على الأرض. غير أن هذا التعاون امتاز بحذر مستجد، وراح يتراجع بحدة بعدما أخذ تنظيم «داعش» يحل مكانها، منهياً بوضوحه إمكانية حفاظ المعارضين على العلاقة الميدانية التي كانت قد وظفت غموض «النصرة» لمصلحتها.   بدءاً من أيار الماضي، أخذ «الجيش الحر» يعلن عن مخاوفه من نزوح مقاتليه في اتجاه «النصرة» (ومن خلفها الأخ الأكبر «داعش»). نقلت صحيفة «الغارديان عن بعض قادته اعترافهم بفقدان وحدات كاملة لمصلحتها في شمال البلاد. أطلق معاذ الخطيب موقفه في هذا التوقيت بالذات، غير أنه كان قد خرج من دائرة التأثير. ومع مرور الوقت، تحولت الهجرة إلى «النصرة» ومن بعدها إلى «داعش» إلى نسق عام. في هذا السياق أعلن مئات المقاتلين قبل أيام (أكثر من ألف بحسب «رويترز») التحاقهم بـ«النصرة» في مدينة الرقة، علماً أن عنوان الفصيل أصبح ملتبساً اليوم نتيجة ذوبان الفوارق بين «النصرة» و«داعش» وتأكيد المعطيات تضخم الثانية على حساب الأولى بأشواط. ومع إعلان حلفاء الأمس هويتهم المتشددة بوضوح ومباشرتهم ممارسات عقيدية، لم يعرها المعارضون في السابق أهمية على اعتبار أنها كانت بعيدة عنهم، أخذ هؤلاء الحلفاء يأكلون الثورة من الكتف. وبعدما ترعرعت «القاعدة» في كنف ممثلي الثورة أو، أقله، الذين أوكلوا تمثيلها من الخارج، اكتملت قدرتها على التهامهم وعلى فرض مسار خاص بها على حساب سائر المسارات. كبر الحليف ولم يعد بإمكان أحد «الضحك عليه» أو وضعه في جيبه، وها هو اليوم يعلن بلوغه لحظة الاستقلال. هكذا كان الحال في أفغانستان والعراق قبلاً، حيال الداعمين و«الحلفاء»، المحليين منهم والدوليين. أما سوريا، فليست استثناءً على «القاعدة».

المصدر : السفير /ربيع بركات


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة