بعد عقد كامل على غزو العراق، ها هو العالم يستعيد سيناريو الرعب نفسه في سورية: التقارير والمبررات المغشوشة، أو المطعون في صحّتها، الخطاب الأميركي (الغربي) الخبيث نفسه باسم القيم السامية والدفاع عن الحق والعدالة والحريّة وحقوق الإنسان،

الجدل المستعاد بين «الأطلسيين» كما يُنعت مؤيّدو العدوان من قبل معارضيهم، و«الميونيخيين» حسب التهمة الموجّهة إلى رافضي الحرب (إحالة على موقّعي اتفاق ميونيخ ١٩٣٨ الذي اعتبر إطلاقاً ليد هتلر في طموحاته القاتلة).

لكن الذي تغيّر في هذا الجزء الثاني في الفيلم الهوليودي الذي يمكن أن يكون عنوانه «الأخيار ضدّ الأشرار»، هو الإطار الدرامي أوّلاً: فالعالم بمن فيه الرأي العام الأميركي والغربي، شرب الكابوس العراقي حتّى الثمالة، ويفترض أنّه بات يعرف المقلب الآخر من الحقيقة. والذي تغيّر على وجه الخصوص هو الكاستينغ: «الرجل الأبيض» جورج بوش، كاوبوي المحافظين الجدد في العراق، حل محلّه «الخلاسي المائع» باراك حسين أوباما، الديموقراطي المتردد الذي جاء ليخلّص أميركا من حروبها كما عنونت «التايم»، إذا به يجد نفسه في قلب حرب جديدة لا طاقة له على خوضها. وإذا كان تابع بوش الابن حينذاك، وشريكه في الرسالة النبيلة من أجل «تحضير» (من حضارة) العرب والمسلمين، هو الثعلب العمّالي ــ النيوتاتشري طوني بلير، فإن السنّيد هذه المرّة، أو بالأحرى كومبارس «البطل الأميركي»، ليس إلا الاشتراكي الفرنسي المائع فرانسوا هولاند، الذي يذكّر ـــ ومعه كل فرنسا الرسميّة اليوم للأسف ـــ بالشخصيّات الكوميديّة الشهيرة في السينما الفرنسيّة التي كان يؤديها الممثل المعروف لوي دو فوناس، وتحديداً شخصيّة الدركي العبيط الذي يتعثّر طوال الوقت، ولا ينجح في تحقيق أي من مهمّاته.

لا يمكن المراقب إلا أن يسأل: ما سرّ هذه الحماسة الفرنسيّة الغريبة العجيبة لخوض الحرب على سورية، من دون غطاء أممي، وفي ظل تردد أوروبي، ومعارضة دول كبرى ثلاث على الأقل، فضلاً عن اليابان وكندا ومصر والجزائر…؟ هل استذوقت مثلاً «بطولاتها» العسكريّة في مالي وأفريقيا قبل أشهر، حيث زادت البؤس بؤساً، وغرقت في الرمال المتحرّكة، فيما هي تفاوض الجماعات الإرهابيّة سرّاً على رهائنها؟ أمن أجل الهروب من الأزمة الداخليّة المستشرية على شتّى الصعد، وهي تهدد بوصول اليمين المتطرّف إلى الحكم؟ هل تبحث فرنسا عن تدعيم (استعادة؟) نفوذها في الشرق الأوسط الذي كان ملعبها الأثير؟ هل نصدّق النيات الطيّبة للرئيس الفرنسي ورئيس حكومته ووزير خارجيّته، وتطلّعاتهم الديمقراطيّة للمنطقة، واقتناعهم بضرورة «تأديب» الطاغية على هذه الجريمة، بعد أن غضوّا النظر عن موت مئة ألف سوري، وساهموا في صعود أصوليّات ونشوب حرب بشعة… وجريمة «كيميائية» شبيهة بالغوطة الشرقيّة قبل أسابيع في خان العسل… لم تجرح مشاعر الديمقراطيين؟ هل شرح الرئيس هولاند لشعبه كيف قرّر أن يحارب إلى جانب المتطرّفين الاسلامويّين في سوريا، بعد أن أرسل جيشه إلى مالي لـ«يطهّر» منهم الساحل الأفريقي؟

فرنسا استلّت سيفها ولا تنتظر سوى إشارة الحرب، في حين تقف شريكتها الأوروبيّة ألمانيا ضدّ الحملة الصليبيّة. وفيما انسحبت بريطانيا بلباقة «ديمقراطيّة» من الورطة، لكي لا نذكر إلا هذين المثلين، وفي حين يكاد أوباما نفسه يغيّر رأيه، فيؤجّل ويربط أنفاس العالم بإجازة الكونغرس، ويناور على أبواب اجتماع «مجموعة العشرين» في سان بطرسبورغ يومي الخميس والجمعة… يتمسّك رئيس فرنسا بالخيار العسكري، بعناد تراجيكوميدي، مستنداً إلى تقرير واه وعام، كشفت عنه الاستخبارات الفرنسيّة مساء أمس. قبل عقد، استندت حرب بوش وبلير على العراق إلى تقارير الاستخبارات أيضاً حول السلاح الكيميائي العراقي. فرنسوا هولاند يقف الآن وحده كالملك العاري، معزولاً على المستوى الخارجي، فيما يواجه حملة حقيقيّة في الداخل من قبل اليمين الفرنسي والشيوعيين والخضر واليسار الراديكالي.

«أطالبه بأن يشرك جميع القوى السياسية في قراره، وألا يكون مجرّد تابع مطيع ينفذ تعليمات الرئيس الأميركي»، صرّح جان ـــ فرنسوا كوبيه رئيس «الاتحاد من أجل حركة شعبيّة» اليميني، في حين استعمل جان ــ لوك ميلانشون رئيس «حزب اليسار» عبارة مشابهة لوصف تبعيّة هولاند للولايات المتحدة. تطالب المعارضة بطرح المشاركة العسكريّة الفرنسيّة على التصويت في مجلس النواب غداً، وعدم الاكتفاء بمناقشة عامة للقضيّة. لكن أصوات الاشتراكيين تتعالى بالرفض، وتختبئ خلف «الجمهوريّة الخامسة» وقوانينها ومؤسساتها. طبعاً القانون يعطي الرئيس الفرنسي صلاحيّة اتخاذ القرار، على أن تتولّى الحكومة إطلاع البرلمان عليه فقط، حسب تعديل دستوري يعود إلى عام ٢٠٠٨. لكن بعض الفرنسيين لم ينسَ أن أحد وعود حملة هولاند الرئاسيّة كان إشراك السلطة التشريعيّة بنحو أكثر فعّاليّة في القرارات المتعلّقة بأي تدخّل عسكري لدولتهم. وعود المرشّح الاشتراكي ذهبت مع الريح. تركة الاشتراكيين هي الأخرى ذهبت إلى المتحف، وها هو خليفة بيار منديس ـــ فرانس يدافع عن دور استعماري لفرنسا، تاركاً لليمين المعروف بعواطفه وميوله الاستعماريّة أن يطلق صفّارة الإنذار ويتحفّظ ويحذّر.

لو أن فرنسا صديقة السوريين فعلاً، وحريصة على التغيير الديمقراطي فيها، لدعمت المعارضة السلميّة العلمانيّة المستقلّة بدلاً من أن تحاصرها وتتجاهلها، وتفضّل عليها «الأممية المتأسلمة» التي جاء بعض مقاتليها من الجمهوريّة الفرنسيّة تحديداً. مضى زمن كانت فيه فرنسا صديقة العرب، يمكنها في الأزمات الكبرى أن تحاور الجميع وتدخل في الوساطة من أجل مزيد من العدالة والاستقرار في المنطقة. مضى هذا الزمن، وتزامنت القطيعة (المكلفة في الداخل والخارج كما غاب عن هولاند حتّى الآن على الأرجح) مع خفوت الهالة الفرنسيّة في العالم، وكان لا بد أن يحدث ذلك على أيدي الاشتراكيين الذين لم يفهموا دروس التاريخ، والذين أعمتهم «صداقتهم» غير المشروطة لإسرائيل (يكفي أن نتذكّر رثاء هولاند لصديق العرب وفلسطين، المفكّر ستيفان هيسيل، كي ترتعد منّا الفرائص). وإذا بالاشتراكيين «أطلسيون» اليوم، يشعرون بالحرج في مواجهة «ميونيخيّة» اليمين الاستعماري القادر على «إنجازات» في هذا الحقل، كما أثبتت مغامرة ساركوزي ـــ برنار هنري ليفي الليبيّة. (على فكرة، ما هذا الغياب المشبوه لـ BHL الصهيوني الهوى عن دعم «الثورة» السوريّة؟ من «ضبّه» موقتاً في الخزانة في انتظار يوم النصر؟). نعم، لقد انتهت عظمة فرنسا، ومضى زمن كان يمكن وزير دفاع من طينة جان ـــ بيار شوفينمان الجمهوري (بالمعنى الفرنسي للكلمة) والاشتراكي آنذاك، أن يقدّم استقالته من وزارة الدفاع كما فعل في عام ١٩٩١، رافضاً قصف بغداد، باسم «فكرة معيّنة عن الجمهوريّة…».

 

  • فريق ماسة
  • 2013-09-02
  • 11943
  • من الأرشيف

فرنسوا هولاند … تبقى وحيداً وتندم

بعد عقد كامل على غزو العراق، ها هو العالم يستعيد سيناريو الرعب نفسه في سورية: التقارير والمبررات المغشوشة، أو المطعون في صحّتها، الخطاب الأميركي (الغربي) الخبيث نفسه باسم القيم السامية والدفاع عن الحق والعدالة والحريّة وحقوق الإنسان، الجدل المستعاد بين «الأطلسيين» كما يُنعت مؤيّدو العدوان من قبل معارضيهم، و«الميونيخيين» حسب التهمة الموجّهة إلى رافضي الحرب (إحالة على موقّعي اتفاق ميونيخ ١٩٣٨ الذي اعتبر إطلاقاً ليد هتلر في طموحاته القاتلة). لكن الذي تغيّر في هذا الجزء الثاني في الفيلم الهوليودي الذي يمكن أن يكون عنوانه «الأخيار ضدّ الأشرار»، هو الإطار الدرامي أوّلاً: فالعالم بمن فيه الرأي العام الأميركي والغربي، شرب الكابوس العراقي حتّى الثمالة، ويفترض أنّه بات يعرف المقلب الآخر من الحقيقة. والذي تغيّر على وجه الخصوص هو الكاستينغ: «الرجل الأبيض» جورج بوش، كاوبوي المحافظين الجدد في العراق، حل محلّه «الخلاسي المائع» باراك حسين أوباما، الديموقراطي المتردد الذي جاء ليخلّص أميركا من حروبها كما عنونت «التايم»، إذا به يجد نفسه في قلب حرب جديدة لا طاقة له على خوضها. وإذا كان تابع بوش الابن حينذاك، وشريكه في الرسالة النبيلة من أجل «تحضير» (من حضارة) العرب والمسلمين، هو الثعلب العمّالي ــ النيوتاتشري طوني بلير، فإن السنّيد هذه المرّة، أو بالأحرى كومبارس «البطل الأميركي»، ليس إلا الاشتراكي الفرنسي المائع فرانسوا هولاند، الذي يذكّر ـــ ومعه كل فرنسا الرسميّة اليوم للأسف ـــ بالشخصيّات الكوميديّة الشهيرة في السينما الفرنسيّة التي كان يؤديها الممثل المعروف لوي دو فوناس، وتحديداً شخصيّة الدركي العبيط الذي يتعثّر طوال الوقت، ولا ينجح في تحقيق أي من مهمّاته. لا يمكن المراقب إلا أن يسأل: ما سرّ هذه الحماسة الفرنسيّة الغريبة العجيبة لخوض الحرب على سورية، من دون غطاء أممي، وفي ظل تردد أوروبي، ومعارضة دول كبرى ثلاث على الأقل، فضلاً عن اليابان وكندا ومصر والجزائر…؟ هل استذوقت مثلاً «بطولاتها» العسكريّة في مالي وأفريقيا قبل أشهر، حيث زادت البؤس بؤساً، وغرقت في الرمال المتحرّكة، فيما هي تفاوض الجماعات الإرهابيّة سرّاً على رهائنها؟ أمن أجل الهروب من الأزمة الداخليّة المستشرية على شتّى الصعد، وهي تهدد بوصول اليمين المتطرّف إلى الحكم؟ هل تبحث فرنسا عن تدعيم (استعادة؟) نفوذها في الشرق الأوسط الذي كان ملعبها الأثير؟ هل نصدّق النيات الطيّبة للرئيس الفرنسي ورئيس حكومته ووزير خارجيّته، وتطلّعاتهم الديمقراطيّة للمنطقة، واقتناعهم بضرورة «تأديب» الطاغية على هذه الجريمة، بعد أن غضوّا النظر عن موت مئة ألف سوري، وساهموا في صعود أصوليّات ونشوب حرب بشعة… وجريمة «كيميائية» شبيهة بالغوطة الشرقيّة قبل أسابيع في خان العسل… لم تجرح مشاعر الديمقراطيين؟ هل شرح الرئيس هولاند لشعبه كيف قرّر أن يحارب إلى جانب المتطرّفين الاسلامويّين في سوريا، بعد أن أرسل جيشه إلى مالي لـ«يطهّر» منهم الساحل الأفريقي؟ فرنسا استلّت سيفها ولا تنتظر سوى إشارة الحرب، في حين تقف شريكتها الأوروبيّة ألمانيا ضدّ الحملة الصليبيّة. وفيما انسحبت بريطانيا بلباقة «ديمقراطيّة» من الورطة، لكي لا نذكر إلا هذين المثلين، وفي حين يكاد أوباما نفسه يغيّر رأيه، فيؤجّل ويربط أنفاس العالم بإجازة الكونغرس، ويناور على أبواب اجتماع «مجموعة العشرين» في سان بطرسبورغ يومي الخميس والجمعة… يتمسّك رئيس فرنسا بالخيار العسكري، بعناد تراجيكوميدي، مستنداً إلى تقرير واه وعام، كشفت عنه الاستخبارات الفرنسيّة مساء أمس. قبل عقد، استندت حرب بوش وبلير على العراق إلى تقارير الاستخبارات أيضاً حول السلاح الكيميائي العراقي. فرنسوا هولاند يقف الآن وحده كالملك العاري، معزولاً على المستوى الخارجي، فيما يواجه حملة حقيقيّة في الداخل من قبل اليمين الفرنسي والشيوعيين والخضر واليسار الراديكالي. «أطالبه بأن يشرك جميع القوى السياسية في قراره، وألا يكون مجرّد تابع مطيع ينفذ تعليمات الرئيس الأميركي»، صرّح جان ـــ فرنسوا كوبيه رئيس «الاتحاد من أجل حركة شعبيّة» اليميني، في حين استعمل جان ــ لوك ميلانشون رئيس «حزب اليسار» عبارة مشابهة لوصف تبعيّة هولاند للولايات المتحدة. تطالب المعارضة بطرح المشاركة العسكريّة الفرنسيّة على التصويت في مجلس النواب غداً، وعدم الاكتفاء بمناقشة عامة للقضيّة. لكن أصوات الاشتراكيين تتعالى بالرفض، وتختبئ خلف «الجمهوريّة الخامسة» وقوانينها ومؤسساتها. طبعاً القانون يعطي الرئيس الفرنسي صلاحيّة اتخاذ القرار، على أن تتولّى الحكومة إطلاع البرلمان عليه فقط، حسب تعديل دستوري يعود إلى عام ٢٠٠٨. لكن بعض الفرنسيين لم ينسَ أن أحد وعود حملة هولاند الرئاسيّة كان إشراك السلطة التشريعيّة بنحو أكثر فعّاليّة في القرارات المتعلّقة بأي تدخّل عسكري لدولتهم. وعود المرشّح الاشتراكي ذهبت مع الريح. تركة الاشتراكيين هي الأخرى ذهبت إلى المتحف، وها هو خليفة بيار منديس ـــ فرانس يدافع عن دور استعماري لفرنسا، تاركاً لليمين المعروف بعواطفه وميوله الاستعماريّة أن يطلق صفّارة الإنذار ويتحفّظ ويحذّر. لو أن فرنسا صديقة السوريين فعلاً، وحريصة على التغيير الديمقراطي فيها، لدعمت المعارضة السلميّة العلمانيّة المستقلّة بدلاً من أن تحاصرها وتتجاهلها، وتفضّل عليها «الأممية المتأسلمة» التي جاء بعض مقاتليها من الجمهوريّة الفرنسيّة تحديداً. مضى زمن كانت فيه فرنسا صديقة العرب، يمكنها في الأزمات الكبرى أن تحاور الجميع وتدخل في الوساطة من أجل مزيد من العدالة والاستقرار في المنطقة. مضى هذا الزمن، وتزامنت القطيعة (المكلفة في الداخل والخارج كما غاب عن هولاند حتّى الآن على الأرجح) مع خفوت الهالة الفرنسيّة في العالم، وكان لا بد أن يحدث ذلك على أيدي الاشتراكيين الذين لم يفهموا دروس التاريخ، والذين أعمتهم «صداقتهم» غير المشروطة لإسرائيل (يكفي أن نتذكّر رثاء هولاند لصديق العرب وفلسطين، المفكّر ستيفان هيسيل، كي ترتعد منّا الفرائص). وإذا بالاشتراكيين «أطلسيون» اليوم، يشعرون بالحرج في مواجهة «ميونيخيّة» اليمين الاستعماري القادر على «إنجازات» في هذا الحقل، كما أثبتت مغامرة ساركوزي ـــ برنار هنري ليفي الليبيّة. (على فكرة، ما هذا الغياب المشبوه لـ BHL الصهيوني الهوى عن دعم «الثورة» السوريّة؟ من «ضبّه» موقتاً في الخزانة في انتظار يوم النصر؟). نعم، لقد انتهت عظمة فرنسا، ومضى زمن كان يمكن وزير دفاع من طينة جان ـــ بيار شوفينمان الجمهوري (بالمعنى الفرنسي للكلمة) والاشتراكي آنذاك، أن يقدّم استقالته من وزارة الدفاع كما فعل في عام ١٩٩١، رافضاً قصف بغداد، باسم «فكرة معيّنة عن الجمهوريّة…».  

المصدر : الاخبار / بيار أبي صعب


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة