تقولُ الأسطورة اليونانية الشهيرة «كعب أخيل»، إن «أخيل» كان محارِباً قوياً لا يمكن لأي ضربةٍ أن تقتله، ذلك لأن والدته كانت تغسّله بماءِ نهرٍ اسمه «ماء الحياة». لكنها ومن حرصها عليه كانت تمسكه من كعب قدمه مخافةَ أن يجرفه ماء النهر، أي إن «ماء الحياة» لم يلامس هذه المنطقة من جسده. وعندما كبر وبدأ يخوض المعارك وينتصِر، سمعَ أعداؤه بنقطةِ ضعفهِ تلك، فقام غريمه بإرسال سهمٍ قاتلٍ له. منذ توالي الانتصاراتِ المتلاحقة للجيش العربي السوري، وتأكُّد الغرب أن إسقاط سورية بثالوثها المقدّس بات أبعَد مما يتصورون، بدأت ملامحُ سياسةٍ جديدة ومتجدِّدة تظهرُ في الأفق، وهي فكرة الإسقاط السياسي لهذا الثالوث السوري. لأجل ذلك انطلقت وبشكلٍ متسارعٍ عملية ما يسمى «توحيدَ المعارضةِ السوريّة». مصطلحٌ بِتنا نسمعهُ يوميَّاً، حتى تخالَ أن الصعوبةَ في توحيدِ المعارضة السورية تكمنُ في كيفيةِ إقناع كلّ فصيلٍ معارضٍ للملايين التي تسانده، بالتحالف مع الفصيل الآخر.

مع انطلاقِ ما يسمى «مجلس اسطنبول» منذ ما يقارب العامين، تم نشر شريط فديو مسرَّب لأحد اجتماعاتِ تنظيم «الإخوان المسلمين»، حيث يظهَر فيه المدعو «علي صدر الدين البيانوني» وهو يتحدث عن أسباب القبول «ببرهان غليون» زعيماً للمجلس إذ قال:

(نحن تركنا الرئاسةَ له كواجهة كي لا يقال إننا كإسلاميين نسيطر على المعارضة السورية).

من هنا نستطيع أن نفهم وببساطة ماذا يعني استحالةَ جمع المعارضة السورية في الخارج، فهم بالمطلق إن لم يكونوا هاربين من العدالة، فهم مجموعة شخصياتٍ ربما لم يسمع بهم المواطن السوري قبل إدمانه على نشرات الأخبار، فإن تُُركوا فرادى فهذا يعني تلاشيهم حتى إعلامياً، لذلك استبسل الجميع بالدفاعِ عن فكرةِ توحيدهم على الأقل من أجل إكمال الحرب الإعلامية من خلالِهم.

لكن في المقابل كان هناك سبب آخر لهذا التجاذب ناتجٌ عن قيام الداعمين لهذا المجلس كل على حدة بمحاولةِ السيطرة عليه. بالتأكيد ليسَ الموضوع قطر و«آل سعود» كما يحاول البعض أن يوحي بذلك، لكن المشكلة تكمن بوجود تيارين لكلٍّ منهما وجهة نظره في طريقة تدمير سورية وقتل الشعب السوري.

التيار الأول: يعتبر نفسه هو القائد والمحرك الفعلي لفكرة إسقاط سورية، وهو يعتبر نفسهُ المتضرِّر الأكبر من أي تفكيرٍ في بقاءِ القيادةِ السورية على حالها. يمثِّل هذا الاتجاه قطر وتركيا ومن خلفهم الدول الفاعلة في الاتحاد الأوروبي، باستثناء ألمانيا.

التيار الثاني: يمثله «إسرائيل» والإدارة الأميركية و«آل سعود».

هم أكثر واقعية في آلية التعاطي، بالطبع إن الإدارة الأميركية تشعر أن توحيد المعارضة السورية لا يمكن أن يتم دون توحيد الجهة التي ستكون مسؤولة وراعية لها، كي لا تتشتت الآراء والطروحات. جرى في البداية التخلص من أمير قطر، ووزير خارجيته السيئ الذكر، هي لم تكتفِ بذلك بل حاولت إظهار قطر مجرَّدة من جميع أسلحتها، حتى شيخ الفتنة «يوسف القرضاوي» أصبح أشبه بمسدسٍ مُجدِب لا قيمةَ له، أما الأمير الجديد فهو لم يستطع حتى أن يمرّ مرور الكرام على الحدَث السوري في كلمته «للشعب القطري». بعد ذلك جرى تصفية الأدوات القطرية في المنطقة من «أحمد الأسير» إلى إخوان مصر وصولاً إلى استيلاء «آل سعود» على زعامة مجلس اسطنبول. إذاً ما الأهداف الحقيقية لتعويم «آل سعود» وحدهم كرعاةٍ للديمقراطية في المنطقة؟ لماذا هلّلوا لسقوط الإخوان في مصر، في الوقت الذي يدعمونهم في سورية؟ إذا ما أخذنا بالحسبان «عالمية» تنظيم الإخوان المسلمين؟

حريري سوري بدعمٍ «سعودي» لِمَ لا؟

من البديهيات أن نقول إن إخفاق إسقاط «النظام» عسكرياً و«إرهابياً»، سيعني المحاولة لإسقاطه اقتصادياً وسياسياً، ربما يبدو حديث الاقتصاد حالياً سابق لأوانه، رغم الصعوبات المعيشية للمواطن السوري، لكن يبقى الموضوع السياسي هو الأهم.

شكلت التجربة الحريرية في لبنان أساساً صلباً لكيفية ولوج «آل سعود» في الحياة السياسية للدول، حتى لو كانت هذه الدول تسبقهم ببنيتها الأساسية المكوِّنة لمفهوم الدولة «أرض وشعب وسلطة» بآلاف السنين. الأمر بكل بساطة يعتمِد على خلق طبقةٍ سياسية تتولى استثمارات «آل سعود» في هذا البلد إن كان لجهة الاستثمار الاقتصادي كما حدث في «وسط بيروت» أو لجهةِ الاستثمار السياسي، لدرجة يصل فيها هذا السياسي أو المسؤول اللبناني إن خيَّرتهُ بين جنسيته السعودية أو اللبنانية إلى أن يتجاهل سؤالك.

يبدو وكأنه أمرٌ قيد التنفيذ، وبطريقةٍ تم التمهيد لها بدهاءٍ لا يبدو أن المدعو «جيفري فيلتمان» بعيدٌ عنها أبداً. هي عملية خلقِ طبقةٍ سياسية سوريِّة تحاكي الرابع عشر من آذار في لبنان، يمكن من خلالها الولوج في تكوين النظام السياسي في سورية بحججٍ واهية، كالمشاركة السياسية، وسورية تتّسع للجميع، ومن هذا القبيل، لتصبح هذه المعارضة بعد أداةً لتعطيل البلد تارة أو لتمرير ما يمكن تمريره، علماً أن هذا الأمر قد يبدأ من اللحظةِ التي تلي أي انتخاباتٍ قادمة بحجة رفض النتائج. (كنا طرحنا في السابق هذا الهدف منذ آذار 2012 بمقالة بعنوان «بين المعارضة السورية و«إسرائيل»: هل تصبح الوطنية.... وجهة نظر؟»).

كذلك الأمر لم يكن من باب المصادفة أن يجري الحديث في إعلام البترودولار عن مصطلح «طائف سوري»، وإن كنّا نلوم بعضَ من يستخدم هذا المصطلح عن حسن نية. إن تكرار هذا المصطلح يحاول أن يرسِّخ في الذهن أن «آل سعود» جاهزون دائماً ليرِثوا البلدان التي تدخل في نزاعات داخلية، بشرط أن تكون حصَّتهم السياسية تراعي دائماً ما تمثله المملكة من ثقل «ديمقرطي» تجسد على سبيل المثال في انتخابات مجلس اسطنبول (تحدث مصدر إعلامي مواكب للعملية أن «آل سعود» رصدوا لكل صوت، عُمرة مجانية).

 

ماذا عن مصر؟

في المفارقة العجيبة لسقوط الإخوان في مصر، أن هناك حرباً إعلامية اشتعلت بين حلفاء الأمس. فمشيخات النفط باستثناء قطر هلَّلت للحدث واعتبرته استثنائياً. أما تركيا العدالة والتنمية فكما كان متوقعاً وفي ظل تواصل الاحتجاجات لسياسات العدالة والتنمية في تركيا، حاول «أردوغان» أن يواسي نفسه بالحديثِ عن انقلابٍ وما شابه، علماً أنه المرشح الأقوى لملاقاة مصير مرسي وسط تصاعد الحديث عن رفع الغطاء عن حكم الإخوان المسلمين في تركيا وقطر ومصر.

لم يستطع أحد أن يفسِّر سر هذا الكره أو «الاستكراه» الخليجي المزيَّف للإخوان المسلمين في مصر (مع مواصلة دعمهم للإخوان المسلمين في سورية). يتحدث البعض عن خوف مشيخات النفط من استمرار تولي الإخوان للحكم في مصر خوفاً على عروشهم، كما نُقلَ عن اللقاء الذي جرى بين «سعود الفيصل» و«جون كيري»، عندما أبلغ الفيصل كيري بأنهم ليسوا راضين عن حكم الإخوان منعاً لتمدّد حكمهم. يبدو هذا الأمر مبالغة كبيرة وبعيدة عن الواقع إن لم يكن الهدف منها تجريمَ أي معارضٍ يتحدث عن الحرية وما شابه بتهم الانتماء للجماعات المحظورة (فتاة كويتية حُكم عليها بالسجن 9 سنوات وشاب إماراتي 8 سنوات لمجرد مطالبتهما بإصلاح الأنظمة السياسية عبر التويتر). لكن من أكثر التحليلات المثيرة للسخرية في صحف البترودولار بأن العداء بين الإخوان و«آل سعود» قديم، وهنا نسأل المروجين لهذه الفكرة أليست قيادات الإخوان في مصر من تحالفت مع مشيخات النفط لمواجهة عبد الناصر؟ ثم أين كانت تقيم معظم قيادات تنظيم الإخوان بعد هربها من سورية؟ فما الذي استجدَّ ليحدث هذا الانقلاب؟ بالتأكيد لا يمكن لـ«آل سعود» أن يهلِّلوا لسقوط الإخوان لأنهم كما زعموا «حريصين على استكمال التنفيذ التدريجي للعملية الديمقراطية»، فالأقرب للواقع أن يكون «آل سعود» قد هللَّوا للسقوط لأنهم ضمنوا حصة لهم، وهم السلفيون الذين بدؤوا منذ الآن يعدُّون العدّة لمرحلة «الخلافة» في مصر. هو تجسيد كامل لما نقلته «النيويورك تايمز» أن حزب النور المتشدِّد ظهر مؤخراً كقوةٍ سياسية غير متوقعة بعد إطاحة الجيش بالرئيس مرسي، مشبّهة إياه بـ«صانع الملوك» في مصر مؤكدةً أنه سيكون له نفوذ كبير في تشكيل الحكومة المؤقتة.

«حزب النور السلفي» الذي حسب تعبير صحيفة «الغارديان» وعلى نحوٍ مفاجئ غامر بقواعده وبشعبيته ودعم انتفاضة على الإخوان (قبل أن ينسحب منها على خلفيات تتعلق بالتشكيلة الحكومية)، مع العلم أنه كان من المتوقع ألا يفعل ذلك، لكنه فاجأ الجميع بردَّة فعله المؤيدة لما يجري.

يبدو أنها ستكون ذات الطبقة السياسية التي يجري الإعداد لها في سورية لتكون ذراعاً سعودية في مصر، بالتالي إحراج الجيش المصري بطريقةٍ واضحة، إذ ماذا يمكن أن يفعل الجيش المصري في حال أن الانتخابات القادمة لعب فيها المال الخليجي وأوصل رئيساً سلفيَّاً للحكم؟ أو لنقل كتلة برلمانية وازِنة تأتَمر بأمر «آل سعود»؟

من سيواجه إيران «الشيعية»؟

الخوف من إيران هو الكابوس الدائم الذي يؤرِّق الولايات المتحدة وأدواتها في المنطقة. هذا الخوف بالتأكيد يحمل في طيَّاته نوعاً من الحذر لأن الصمود السوري علَّم الجميع أن التقديرات الخاطِئة قد يكون ضررها أكبر من التصور، لذلك في إطار إعادة التموضع السياسي في المنطقة يحاول الأميركيون إعادة بث الروح في ما يسمى «الصراع السني الشيعي»، تحديداً أن هذا المشروع أخفق إخفاقاً ذريعاً على الرغم من مسرحيات «الأسير» واستعراضاته التي لم يكتب لها النجاح، لذلك وإن لم ينجحوا بجرِّهم للتصادم عسكرياً فما المانع من محاولة ترسيخ الصدام سياسياً؟

القيادة الإيرانية كانت تعلم تماماً أن هناك محاولات حثيثة لتعميق «الصراع السني الشيعي» في المنطقة، وهذا الأمر يتطلَّب تسليمَ «آل سعود» زعامة كل شيء ليتمكنوا من السيطرة على القرار السياسي من جنوب تركيا حتى جنوب السودان مروراً بشريان الأمة سورية ومصر، كممثلين «للسنة» حسبما تتناقل الصحف الغربية. حاولت إيران أن تلعب لعبة ذكية تخفّفُ فيها قدر الإمكان من نار التسعير الطائفي الذي وصل أوجه في الشهرين الماضيين في المنطقة وبشكلٍ غير مسبوق، ذلك من خلال دعمها للرئيس المصري المخلوع «محمد مرسي»، وحديثها عن «الصحوة الإسلامية» في تفنيدها لوصول الإخوان للحكم، والأهم اعتبارها الانقلاب على مرسي أمراً غير مقبولٍ أبداً. كسبت إيران في ذلك عدة نقاط:

أولها: أثبتت للعدو قبل الصديق صدقَ نواياها بأنها لا تسعى لحربٍ مذهبية كما يتهمها إعلام البترودولار، وإلا فكيف دعمت رئيساً إخوانياً يحكم مصر؟

ثانيها: أنها بتسمية ما يجري «صحوة إسلامية» أعطت الانطباع تماماً بأن إيران لا تنطلق من تكفير أحدٍ، أو نزعَ صفة الإسلام عنه، انطلاقاً من عقيدته.

ختاماً حاولت أن تعطي للبعض رسالة بأن صناديق الاقتراع عندما تتكلم، يجب على من لا يعرفها إلا لوضع الخضار والفواكه أن يصمت!

بالتأكيد إن كان الإخوان المسلمون قبلوا الانفتاح على إيران فإن السلفيين سيرفضون ذلك رفضاً قاطعاً. عندها سيزداد الشرخ الحاصل في المنطقة بغية الوصول لهذا الصدَام الذي سيكون أشبهَ بحربٍ باردة جديدة وقودها في حال تطورت المتطرفون من كل أصقاع الأرض. ما يدعم تماماً هذه الفرضية أن أمراً كهذا يحتاج إلى خبرة استخباراتية لقيادة العمل، ومَن أبرعَ من «بندر بن سلطان» في ملفات كهذه؟ تحديداً إنه الحاكم الفعلي الآن فيما يبدو للمملكة، هذا إن لم نقل إنه أحد المرشحين بقوة للجلوس على العرش في ظل الارتفاع الكبير في أعمار الباقين.

كيف يمكننا الوقوف في وجه ما يجري؟

يمكننا القول من خلال ما يجري في العالم العربي:

ليس المهم كيف نُسقط الديكتاتورية، المهم أن نتعلم كيف نبني الديمقراطية. وهذه الحال تنطبق على ما يحدث في مصر تماماً. أما سورية وفي ظل نجاحات جيشها وشعبها وقيادتها في الحفاظ على وحدة شعبها وأراضيها في ظل هذه الحرب العالمية عليها، فيبدو الآن أنها ستسلِّم الراية لمصر، تحديداً بعد بدء الإعلام المستعرب ببثِّ سمومِه، تماماً كما حدث في السيناريو السوري، أي بإظهارِ المجرم كمتظاهرٍ سلمي لا يحمل إلا أغصان الزيتون، واستبدال اسم الجيش المصري بعبارة «كتائب السيسي»، ونحمد اللـه أنهم لم يبدؤوا بعد تمثيليات الانشقاقات.

بين هذا وذاك هناك من يسعى لمصادرةِ القرار في كلا البلدين عبر النفوذ إلى الطبقة السياسية، هي تماماً كأسطورة طروادة «كعب أخيل»، فإن لم تنتبهوا لنقاط ضعفِكم عليكم أن تتيقنوا أن من يضمر لكم شراً سيصوِّب سهامه تماماً على نقاط الضعف تلك، فماذا لو كانت نقطة الضعف تلك ذريعة تتردّد على لسانِ «سعود الفيصل» ليل نهار وهو يطالب «بالتحول الديمقراطي»، متمثلاً بالأحزاب السلفية. عندها أليس قطع الكعب أفضل من بقائه نقطة ضعف تقتلنا متى تمكنت؟ الحل يبدو واضحاً وصريحاً وإن كان تطبيقه في سورية أسهل وأسلس، فإن لم تنتبهوا لهذا الأمر فأنتم ملزمون في المستقبل أن تواجهوا في صناديق الاقتراع مال النفط الخليجي وليس إرادة الشعوب.

  • فريق ماسة
  • 2013-07-27
  • 9476
  • من الأرشيف

عندما يحمل «آل سعود» راية الديمقراطية في العالم العربي

تقولُ الأسطورة اليونانية الشهيرة «كعب أخيل»، إن «أخيل» كان محارِباً قوياً لا يمكن لأي ضربةٍ أن تقتله، ذلك لأن والدته كانت تغسّله بماءِ نهرٍ اسمه «ماء الحياة». لكنها ومن حرصها عليه كانت تمسكه من كعب قدمه مخافةَ أن يجرفه ماء النهر، أي إن «ماء الحياة» لم يلامس هذه المنطقة من جسده. وعندما كبر وبدأ يخوض المعارك وينتصِر، سمعَ أعداؤه بنقطةِ ضعفهِ تلك، فقام غريمه بإرسال سهمٍ قاتلٍ له. منذ توالي الانتصاراتِ المتلاحقة للجيش العربي السوري، وتأكُّد الغرب أن إسقاط سورية بثالوثها المقدّس بات أبعَد مما يتصورون، بدأت ملامحُ سياسةٍ جديدة ومتجدِّدة تظهرُ في الأفق، وهي فكرة الإسقاط السياسي لهذا الثالوث السوري. لأجل ذلك انطلقت وبشكلٍ متسارعٍ عملية ما يسمى «توحيدَ المعارضةِ السوريّة». مصطلحٌ بِتنا نسمعهُ يوميَّاً، حتى تخالَ أن الصعوبةَ في توحيدِ المعارضة السورية تكمنُ في كيفيةِ إقناع كلّ فصيلٍ معارضٍ للملايين التي تسانده، بالتحالف مع الفصيل الآخر. مع انطلاقِ ما يسمى «مجلس اسطنبول» منذ ما يقارب العامين، تم نشر شريط فديو مسرَّب لأحد اجتماعاتِ تنظيم «الإخوان المسلمين»، حيث يظهَر فيه المدعو «علي صدر الدين البيانوني» وهو يتحدث عن أسباب القبول «ببرهان غليون» زعيماً للمجلس إذ قال: (نحن تركنا الرئاسةَ له كواجهة كي لا يقال إننا كإسلاميين نسيطر على المعارضة السورية). من هنا نستطيع أن نفهم وببساطة ماذا يعني استحالةَ جمع المعارضة السورية في الخارج، فهم بالمطلق إن لم يكونوا هاربين من العدالة، فهم مجموعة شخصياتٍ ربما لم يسمع بهم المواطن السوري قبل إدمانه على نشرات الأخبار، فإن تُُركوا فرادى فهذا يعني تلاشيهم حتى إعلامياً، لذلك استبسل الجميع بالدفاعِ عن فكرةِ توحيدهم على الأقل من أجل إكمال الحرب الإعلامية من خلالِهم. لكن في المقابل كان هناك سبب آخر لهذا التجاذب ناتجٌ عن قيام الداعمين لهذا المجلس كل على حدة بمحاولةِ السيطرة عليه. بالتأكيد ليسَ الموضوع قطر و«آل سعود» كما يحاول البعض أن يوحي بذلك، لكن المشكلة تكمن بوجود تيارين لكلٍّ منهما وجهة نظره في طريقة تدمير سورية وقتل الشعب السوري. التيار الأول: يعتبر نفسه هو القائد والمحرك الفعلي لفكرة إسقاط سورية، وهو يعتبر نفسهُ المتضرِّر الأكبر من أي تفكيرٍ في بقاءِ القيادةِ السورية على حالها. يمثِّل هذا الاتجاه قطر وتركيا ومن خلفهم الدول الفاعلة في الاتحاد الأوروبي، باستثناء ألمانيا. التيار الثاني: يمثله «إسرائيل» والإدارة الأميركية و«آل سعود». هم أكثر واقعية في آلية التعاطي، بالطبع إن الإدارة الأميركية تشعر أن توحيد المعارضة السورية لا يمكن أن يتم دون توحيد الجهة التي ستكون مسؤولة وراعية لها، كي لا تتشتت الآراء والطروحات. جرى في البداية التخلص من أمير قطر، ووزير خارجيته السيئ الذكر، هي لم تكتفِ بذلك بل حاولت إظهار قطر مجرَّدة من جميع أسلحتها، حتى شيخ الفتنة «يوسف القرضاوي» أصبح أشبه بمسدسٍ مُجدِب لا قيمةَ له، أما الأمير الجديد فهو لم يستطع حتى أن يمرّ مرور الكرام على الحدَث السوري في كلمته «للشعب القطري». بعد ذلك جرى تصفية الأدوات القطرية في المنطقة من «أحمد الأسير» إلى إخوان مصر وصولاً إلى استيلاء «آل سعود» على زعامة مجلس اسطنبول. إذاً ما الأهداف الحقيقية لتعويم «آل سعود» وحدهم كرعاةٍ للديمقراطية في المنطقة؟ لماذا هلّلوا لسقوط الإخوان في مصر، في الوقت الذي يدعمونهم في سورية؟ إذا ما أخذنا بالحسبان «عالمية» تنظيم الإخوان المسلمين؟ حريري سوري بدعمٍ «سعودي» لِمَ لا؟ من البديهيات أن نقول إن إخفاق إسقاط «النظام» عسكرياً و«إرهابياً»، سيعني المحاولة لإسقاطه اقتصادياً وسياسياً، ربما يبدو حديث الاقتصاد حالياً سابق لأوانه، رغم الصعوبات المعيشية للمواطن السوري، لكن يبقى الموضوع السياسي هو الأهم. شكلت التجربة الحريرية في لبنان أساساً صلباً لكيفية ولوج «آل سعود» في الحياة السياسية للدول، حتى لو كانت هذه الدول تسبقهم ببنيتها الأساسية المكوِّنة لمفهوم الدولة «أرض وشعب وسلطة» بآلاف السنين. الأمر بكل بساطة يعتمِد على خلق طبقةٍ سياسية تتولى استثمارات «آل سعود» في هذا البلد إن كان لجهة الاستثمار الاقتصادي كما حدث في «وسط بيروت» أو لجهةِ الاستثمار السياسي، لدرجة يصل فيها هذا السياسي أو المسؤول اللبناني إن خيَّرتهُ بين جنسيته السعودية أو اللبنانية إلى أن يتجاهل سؤالك. يبدو وكأنه أمرٌ قيد التنفيذ، وبطريقةٍ تم التمهيد لها بدهاءٍ لا يبدو أن المدعو «جيفري فيلتمان» بعيدٌ عنها أبداً. هي عملية خلقِ طبقةٍ سياسية سوريِّة تحاكي الرابع عشر من آذار في لبنان، يمكن من خلالها الولوج في تكوين النظام السياسي في سورية بحججٍ واهية، كالمشاركة السياسية، وسورية تتّسع للجميع، ومن هذا القبيل، لتصبح هذه المعارضة بعد أداةً لتعطيل البلد تارة أو لتمرير ما يمكن تمريره، علماً أن هذا الأمر قد يبدأ من اللحظةِ التي تلي أي انتخاباتٍ قادمة بحجة رفض النتائج. (كنا طرحنا في السابق هذا الهدف منذ آذار 2012 بمقالة بعنوان «بين المعارضة السورية و«إسرائيل»: هل تصبح الوطنية.... وجهة نظر؟»). كذلك الأمر لم يكن من باب المصادفة أن يجري الحديث في إعلام البترودولار عن مصطلح «طائف سوري»، وإن كنّا نلوم بعضَ من يستخدم هذا المصطلح عن حسن نية. إن تكرار هذا المصطلح يحاول أن يرسِّخ في الذهن أن «آل سعود» جاهزون دائماً ليرِثوا البلدان التي تدخل في نزاعات داخلية، بشرط أن تكون حصَّتهم السياسية تراعي دائماً ما تمثله المملكة من ثقل «ديمقرطي» تجسد على سبيل المثال في انتخابات مجلس اسطنبول (تحدث مصدر إعلامي مواكب للعملية أن «آل سعود» رصدوا لكل صوت، عُمرة مجانية).   ماذا عن مصر؟ في المفارقة العجيبة لسقوط الإخوان في مصر، أن هناك حرباً إعلامية اشتعلت بين حلفاء الأمس. فمشيخات النفط باستثناء قطر هلَّلت للحدث واعتبرته استثنائياً. أما تركيا العدالة والتنمية فكما كان متوقعاً وفي ظل تواصل الاحتجاجات لسياسات العدالة والتنمية في تركيا، حاول «أردوغان» أن يواسي نفسه بالحديثِ عن انقلابٍ وما شابه، علماً أنه المرشح الأقوى لملاقاة مصير مرسي وسط تصاعد الحديث عن رفع الغطاء عن حكم الإخوان المسلمين في تركيا وقطر ومصر. لم يستطع أحد أن يفسِّر سر هذا الكره أو «الاستكراه» الخليجي المزيَّف للإخوان المسلمين في مصر (مع مواصلة دعمهم للإخوان المسلمين في سورية). يتحدث البعض عن خوف مشيخات النفط من استمرار تولي الإخوان للحكم في مصر خوفاً على عروشهم، كما نُقلَ عن اللقاء الذي جرى بين «سعود الفيصل» و«جون كيري»، عندما أبلغ الفيصل كيري بأنهم ليسوا راضين عن حكم الإخوان منعاً لتمدّد حكمهم. يبدو هذا الأمر مبالغة كبيرة وبعيدة عن الواقع إن لم يكن الهدف منها تجريمَ أي معارضٍ يتحدث عن الحرية وما شابه بتهم الانتماء للجماعات المحظورة (فتاة كويتية حُكم عليها بالسجن 9 سنوات وشاب إماراتي 8 سنوات لمجرد مطالبتهما بإصلاح الأنظمة السياسية عبر التويتر). لكن من أكثر التحليلات المثيرة للسخرية في صحف البترودولار بأن العداء بين الإخوان و«آل سعود» قديم، وهنا نسأل المروجين لهذه الفكرة أليست قيادات الإخوان في مصر من تحالفت مع مشيخات النفط لمواجهة عبد الناصر؟ ثم أين كانت تقيم معظم قيادات تنظيم الإخوان بعد هربها من سورية؟ فما الذي استجدَّ ليحدث هذا الانقلاب؟ بالتأكيد لا يمكن لـ«آل سعود» أن يهلِّلوا لسقوط الإخوان لأنهم كما زعموا «حريصين على استكمال التنفيذ التدريجي للعملية الديمقراطية»، فالأقرب للواقع أن يكون «آل سعود» قد هللَّوا للسقوط لأنهم ضمنوا حصة لهم، وهم السلفيون الذين بدؤوا منذ الآن يعدُّون العدّة لمرحلة «الخلافة» في مصر. هو تجسيد كامل لما نقلته «النيويورك تايمز» أن حزب النور المتشدِّد ظهر مؤخراً كقوةٍ سياسية غير متوقعة بعد إطاحة الجيش بالرئيس مرسي، مشبّهة إياه بـ«صانع الملوك» في مصر مؤكدةً أنه سيكون له نفوذ كبير في تشكيل الحكومة المؤقتة. «حزب النور السلفي» الذي حسب تعبير صحيفة «الغارديان» وعلى نحوٍ مفاجئ غامر بقواعده وبشعبيته ودعم انتفاضة على الإخوان (قبل أن ينسحب منها على خلفيات تتعلق بالتشكيلة الحكومية)، مع العلم أنه كان من المتوقع ألا يفعل ذلك، لكنه فاجأ الجميع بردَّة فعله المؤيدة لما يجري. يبدو أنها ستكون ذات الطبقة السياسية التي يجري الإعداد لها في سورية لتكون ذراعاً سعودية في مصر، بالتالي إحراج الجيش المصري بطريقةٍ واضحة، إذ ماذا يمكن أن يفعل الجيش المصري في حال أن الانتخابات القادمة لعب فيها المال الخليجي وأوصل رئيساً سلفيَّاً للحكم؟ أو لنقل كتلة برلمانية وازِنة تأتَمر بأمر «آل سعود»؟ من سيواجه إيران «الشيعية»؟ الخوف من إيران هو الكابوس الدائم الذي يؤرِّق الولايات المتحدة وأدواتها في المنطقة. هذا الخوف بالتأكيد يحمل في طيَّاته نوعاً من الحذر لأن الصمود السوري علَّم الجميع أن التقديرات الخاطِئة قد يكون ضررها أكبر من التصور، لذلك في إطار إعادة التموضع السياسي في المنطقة يحاول الأميركيون إعادة بث الروح في ما يسمى «الصراع السني الشيعي»، تحديداً أن هذا المشروع أخفق إخفاقاً ذريعاً على الرغم من مسرحيات «الأسير» واستعراضاته التي لم يكتب لها النجاح، لذلك وإن لم ينجحوا بجرِّهم للتصادم عسكرياً فما المانع من محاولة ترسيخ الصدام سياسياً؟ القيادة الإيرانية كانت تعلم تماماً أن هناك محاولات حثيثة لتعميق «الصراع السني الشيعي» في المنطقة، وهذا الأمر يتطلَّب تسليمَ «آل سعود» زعامة كل شيء ليتمكنوا من السيطرة على القرار السياسي من جنوب تركيا حتى جنوب السودان مروراً بشريان الأمة سورية ومصر، كممثلين «للسنة» حسبما تتناقل الصحف الغربية. حاولت إيران أن تلعب لعبة ذكية تخفّفُ فيها قدر الإمكان من نار التسعير الطائفي الذي وصل أوجه في الشهرين الماضيين في المنطقة وبشكلٍ غير مسبوق، ذلك من خلال دعمها للرئيس المصري المخلوع «محمد مرسي»، وحديثها عن «الصحوة الإسلامية» في تفنيدها لوصول الإخوان للحكم، والأهم اعتبارها الانقلاب على مرسي أمراً غير مقبولٍ أبداً. كسبت إيران في ذلك عدة نقاط: أولها: أثبتت للعدو قبل الصديق صدقَ نواياها بأنها لا تسعى لحربٍ مذهبية كما يتهمها إعلام البترودولار، وإلا فكيف دعمت رئيساً إخوانياً يحكم مصر؟ ثانيها: أنها بتسمية ما يجري «صحوة إسلامية» أعطت الانطباع تماماً بأن إيران لا تنطلق من تكفير أحدٍ، أو نزعَ صفة الإسلام عنه، انطلاقاً من عقيدته. ختاماً حاولت أن تعطي للبعض رسالة بأن صناديق الاقتراع عندما تتكلم، يجب على من لا يعرفها إلا لوضع الخضار والفواكه أن يصمت! بالتأكيد إن كان الإخوان المسلمون قبلوا الانفتاح على إيران فإن السلفيين سيرفضون ذلك رفضاً قاطعاً. عندها سيزداد الشرخ الحاصل في المنطقة بغية الوصول لهذا الصدَام الذي سيكون أشبهَ بحربٍ باردة جديدة وقودها في حال تطورت المتطرفون من كل أصقاع الأرض. ما يدعم تماماً هذه الفرضية أن أمراً كهذا يحتاج إلى خبرة استخباراتية لقيادة العمل، ومَن أبرعَ من «بندر بن سلطان» في ملفات كهذه؟ تحديداً إنه الحاكم الفعلي الآن فيما يبدو للمملكة، هذا إن لم نقل إنه أحد المرشحين بقوة للجلوس على العرش في ظل الارتفاع الكبير في أعمار الباقين. كيف يمكننا الوقوف في وجه ما يجري؟ يمكننا القول من خلال ما يجري في العالم العربي: ليس المهم كيف نُسقط الديكتاتورية، المهم أن نتعلم كيف نبني الديمقراطية. وهذه الحال تنطبق على ما يحدث في مصر تماماً. أما سورية وفي ظل نجاحات جيشها وشعبها وقيادتها في الحفاظ على وحدة شعبها وأراضيها في ظل هذه الحرب العالمية عليها، فيبدو الآن أنها ستسلِّم الراية لمصر، تحديداً بعد بدء الإعلام المستعرب ببثِّ سمومِه، تماماً كما حدث في السيناريو السوري، أي بإظهارِ المجرم كمتظاهرٍ سلمي لا يحمل إلا أغصان الزيتون، واستبدال اسم الجيش المصري بعبارة «كتائب السيسي»، ونحمد اللـه أنهم لم يبدؤوا بعد تمثيليات الانشقاقات. بين هذا وذاك هناك من يسعى لمصادرةِ القرار في كلا البلدين عبر النفوذ إلى الطبقة السياسية، هي تماماً كأسطورة طروادة «كعب أخيل»، فإن لم تنتبهوا لنقاط ضعفِكم عليكم أن تتيقنوا أن من يضمر لكم شراً سيصوِّب سهامه تماماً على نقاط الضعف تلك، فماذا لو كانت نقطة الضعف تلك ذريعة تتردّد على لسانِ «سعود الفيصل» ليل نهار وهو يطالب «بالتحول الديمقراطي»، متمثلاً بالأحزاب السلفية. عندها أليس قطع الكعب أفضل من بقائه نقطة ضعف تقتلنا متى تمكنت؟ الحل يبدو واضحاً وصريحاً وإن كان تطبيقه في سورية أسهل وأسلس، فإن لم تنتبهوا لهذا الأمر فأنتم ملزمون في المستقبل أن تواجهوا في صناديق الاقتراع مال النفط الخليجي وليس إرادة الشعوب.

المصدر : الوطن


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة