تنطبق كلمات أغنية الفنان الكبير جوزيف صقر على الحال السورية، اقتصاديا على وجه التحديد. «خسّة اللي موصلها بإيدي وسعرا مقيّد بالجريدة، حطّولا أسعار جديدة، كل لحظة في سعر جديد، عجّل كلها يا رضا!».

لا يتعجل السوريون بالأكل فقط، بل الشراء، لأن كل دقيقة تلتهم من مدخراتهم، وترفع سعر الرز الذي تغرف منه ملاعق الصائمين، وغيره من المواد الغذائية وغير الغذائية.

صاحب متجر متواضع لا يشكو من أمواج المد والجزر لسعر صرف العملة فقط، بل من كثرة الألاعيب التي كثرت ملاعبها مؤخرا. «أمس جاءتني زبونة أعرفها، وسألت كم كيلو ارز عندي. أجبتها سبعة. فطلبت الكمية كلها. وحين سألت عن السبب، قالت أنها ستوزع على النازحين وأن لديها عزيمة (دعوة)».

يسكت ليضيف بتذمر «علمت لاحقا أن سعر الرز قد زاد 70 ليرة من ساعة. وأنها قامت ببيعها في محل مجاور بسعر أعلى من سعري، وأقل من سعر السوق». شطارة بلغة التجار، تبناها «ناشطون» من الطبقة الوسطى، يواجهون منذ اشهر بشراسة الارتفاع اليومي في الأسعار، المتزامن مع انخفاض مستوى ليراتهم.

«تدوير العملة هو أفضل سبل مواجهة انخفاضها» يقول تاجر سيارات. في المناطق الآمنة، تنتشر تجارة السيارات بكثافة تثير الحيرة. سيارات كبيرة بنصف سعرها، بسبب أعبائها الاقتصادية والأمنية. وسيارات صغيرة ومتوسطة بأسعار مضاعفة بسبب رواجها. «السيارة تباع اليوم بسعر، ويبيعها الشاري غداً بسعر يزيد بنصف مليون ليرة تقريبا. وأحيانا نعود لشرائها، لأن سعرها يكون ارتفع وبالتالي ارتفع هامش الربح».

لكن ليس الجميع قادر على تدوير عملته. غالبية المتضررين من الأزمة الحالية هم من موظفي الدولة الذين يزيد عددهم عن المليون، بأرقام ما قبل الأزمة. يواجه هؤلاء سؤالا يومياً مثل «بالنسبة لبكرا شو؟». فلوائح الاسعار تتجدد كل يوم، فيما لا يتغير عدد الأصفار في نهاية كل رقم من الرواتب.

«وبلا اللحمة» تقول موظفة بلهجة متهكمة لا تخلو من ألم. «لازم الفاصوليا تكون بلحمة» موجهة حديثها لزميلاتها في غرفة إدارية في إحدى المديريات الحكومية. «الفاصوليا بتنعمل حمس (أي مع بصل). أطيب واكثر فائدة» تومئ رؤوس الزميلات من دون اقتناع بالموافقة.

لكن اللحوم ليست المعيار الوحيد لارتفاع الأسعار، خصوصا لكونها لا ترتبط بالدولار بشكل مباشر. ثمة مواد غذائية أكثر أهمية، تتمثل في أغذية الأطفال وأدويتهم، في الحليب ومشتقاته، والذي يرتفع بشكل أسبوعي نتيجة ارتفاع سعر الأعلاف، تضاف إليه الخضروات والفواكه التي تتبع في ارتقائها سلم الأسعار، وبينها أسعار الوقود الذي يمثل عصب قطاع النقل.

لذا أفضل ما توصفه حال السوق السورية هو بـ«الفلتان»، وذلك باعتراف الصحافة الرسمية أيضا، التي تتحدث عن حالة الفلتان الذي تعيشه أسواق دمشق والارتفاع الكبير للأسعار الذي فاق التوقعات. كما أظهرت الغياب شبه التام لقوائم الأسعار وعدم تداول الفواتيـر وعدم التقيّد بالنشرة التموينية، ووجود الكثير من السلع مجهولة المصدر، وحالات الغش لا سيما لمواد الحليب والجبنة واللبنة وقلة عرضهما وارتفاع سعرها، حيث وصل سعر كيلو اللبنة إلى 500 ليرة، ولجوء الباعة والمنتجين لها إلى خلطها بمادة المبيضات والسمنة المؤذية للصحة. وتبيّن أيضاً أن بعض ماركات مواد التنظيف مغشوشة بمادة الملح، إضافة إلى ضبط محل يبيع لحمة وكباب منتهية الصلاحية.

وتنشر «البعث» قصة الغش هذه مكررة ومعتادة. مغاسل السيارات في مناطق كثيرة بدأت بتصنيع مواد التنظيف وتعليبها بعبوات مغلفة لماركات عالمية معروفة. بعض التجار يعترف لزبائنه بأنها مغشوشة، لكنه يبيعها بسعر اقل من الأصلي.

ما الذي يمكن فعله؟ يطرح اقتصاديون، ابرزهم رئيس اتحادات الصناعة في سوريا فارس الشهابي فكرة تبديل العملة كاقتراح للنقاش. ويقول، لموقع «الاقتصادي» المتخصص، «انّه طرح الفكرة بهدف الحد من المضاربة على الليرة السورية من قبل دول خارجية، تمتلك كميات كبيره من العملة السورية»، موضحا انّه «قدم الفكرة فقط، في ما يفترض ان تتم مناقشة الموضوع بشكل معمق من ناحية إيجابياته وسلبياته من قبل الحكومة».

وهي فكرة يتداولها العامة باعتبارها «حلا». يرغب سوريون كثر في رؤية العملة المتآكلة يوما بعد يوم تختفي بأوراقها العريضة والطويلة، لتحل محلها عملة جديدة تناطح الدولار بقوة. لكن المصرف المركزي الذي يخوض تلك المعركة اليومية سبق ورفض الفكرة جملة وتفصيلا.

«لا يوجد نية لدى مصرف سوريا المركزي لاستبدال العملة حاليا، حيث لم يصدر أي قرار بهذا الشأن، وأن كل ما تناقلته وسائل الإعلام إنما يندرج ضمن إطار الشائعات المضللة والحملة الإعلامية الشعواء على القطاع المصرفي في سوريا. ولا بد من الإشارة إلى أن المخزون من الأوراق النقدية للعملة السورية كاف، ولا يوجد أية حاجة لتبديل العملة، أما الكميات التي ستتم طباعتها، فيتم طرحها في السوق، بدلا من الأوراق النقدية المهترئة». البيان القديم ربما لا زال يصف حالا واقعا، حتى يتبين نهاية أو أفق لهذه المواجهة اليومية. معركة حققت نجاحا محدودا أمس الأول، حين تمكن المصرف عبر مضاربة صباحية، من تخفيض سعر صرف الدولار من 300 ليرة سورية إلى 265 ليرة.

المضاربة التي تمثلت بطرح مبالغ محددة من الدولار في السوق المصرفي، تزامنت مع قرار يذكر بحقبة الثمانينيات في سوريا، تمثل في «حظر تداول الدولار» إلا للمصرح لهم، عبر التهديد بعقوبات تصل إلى السجن لمدة ثلاث سنوات. وهو ما احتفى به سوريون كثر، إذ دفع بأسعار بعض المواد الغذائية للانخفاض بنسبة 30 في المئة، كما ترافق مع انخفاض في سعر الذهب أيضا، وإن كان ما زال يشكل عشرة أضعاف سعره في السابق. لذا دعا الصاغة بدورهم لصك ليرات ذهبية سورية تشجع الناس على شراء مدخرات ذهبية للحفاظ على قيمة حصاد العمر، وذلك للاستغناء عن الليرات الانكليزية، والليرة الرشادية. وتضمنت الفكرة أن تكون الليرة بوجهين «الأول بنقش هلال إسلامي أو جامع» والثاني «بنقش صليب مسيحي أو كنيسة».

لكن في النهاية، فإن العاصفة، كما يظهر، لا تترك مجالا إلا لعيش السوري، بطريقة واحدة، وهي كل يوم بيومه.

  • فريق ماسة
  • 2013-07-11
  • 13286
  • من الأرشيف

معيشة السوري: بالنسبة لبكرا شو؟

تنطبق كلمات أغنية الفنان الكبير جوزيف صقر على الحال السورية، اقتصاديا على وجه التحديد. «خسّة اللي موصلها بإيدي وسعرا مقيّد بالجريدة، حطّولا أسعار جديدة، كل لحظة في سعر جديد، عجّل كلها يا رضا!». لا يتعجل السوريون بالأكل فقط، بل الشراء، لأن كل دقيقة تلتهم من مدخراتهم، وترفع سعر الرز الذي تغرف منه ملاعق الصائمين، وغيره من المواد الغذائية وغير الغذائية. صاحب متجر متواضع لا يشكو من أمواج المد والجزر لسعر صرف العملة فقط، بل من كثرة الألاعيب التي كثرت ملاعبها مؤخرا. «أمس جاءتني زبونة أعرفها، وسألت كم كيلو ارز عندي. أجبتها سبعة. فطلبت الكمية كلها. وحين سألت عن السبب، قالت أنها ستوزع على النازحين وأن لديها عزيمة (دعوة)». يسكت ليضيف بتذمر «علمت لاحقا أن سعر الرز قد زاد 70 ليرة من ساعة. وأنها قامت ببيعها في محل مجاور بسعر أعلى من سعري، وأقل من سعر السوق». شطارة بلغة التجار، تبناها «ناشطون» من الطبقة الوسطى، يواجهون منذ اشهر بشراسة الارتفاع اليومي في الأسعار، المتزامن مع انخفاض مستوى ليراتهم. «تدوير العملة هو أفضل سبل مواجهة انخفاضها» يقول تاجر سيارات. في المناطق الآمنة، تنتشر تجارة السيارات بكثافة تثير الحيرة. سيارات كبيرة بنصف سعرها، بسبب أعبائها الاقتصادية والأمنية. وسيارات صغيرة ومتوسطة بأسعار مضاعفة بسبب رواجها. «السيارة تباع اليوم بسعر، ويبيعها الشاري غداً بسعر يزيد بنصف مليون ليرة تقريبا. وأحيانا نعود لشرائها، لأن سعرها يكون ارتفع وبالتالي ارتفع هامش الربح». لكن ليس الجميع قادر على تدوير عملته. غالبية المتضررين من الأزمة الحالية هم من موظفي الدولة الذين يزيد عددهم عن المليون، بأرقام ما قبل الأزمة. يواجه هؤلاء سؤالا يومياً مثل «بالنسبة لبكرا شو؟». فلوائح الاسعار تتجدد كل يوم، فيما لا يتغير عدد الأصفار في نهاية كل رقم من الرواتب. «وبلا اللحمة» تقول موظفة بلهجة متهكمة لا تخلو من ألم. «لازم الفاصوليا تكون بلحمة» موجهة حديثها لزميلاتها في غرفة إدارية في إحدى المديريات الحكومية. «الفاصوليا بتنعمل حمس (أي مع بصل). أطيب واكثر فائدة» تومئ رؤوس الزميلات من دون اقتناع بالموافقة. لكن اللحوم ليست المعيار الوحيد لارتفاع الأسعار، خصوصا لكونها لا ترتبط بالدولار بشكل مباشر. ثمة مواد غذائية أكثر أهمية، تتمثل في أغذية الأطفال وأدويتهم، في الحليب ومشتقاته، والذي يرتفع بشكل أسبوعي نتيجة ارتفاع سعر الأعلاف، تضاف إليه الخضروات والفواكه التي تتبع في ارتقائها سلم الأسعار، وبينها أسعار الوقود الذي يمثل عصب قطاع النقل. لذا أفضل ما توصفه حال السوق السورية هو بـ«الفلتان»، وذلك باعتراف الصحافة الرسمية أيضا، التي تتحدث عن حالة الفلتان الذي تعيشه أسواق دمشق والارتفاع الكبير للأسعار الذي فاق التوقعات. كما أظهرت الغياب شبه التام لقوائم الأسعار وعدم تداول الفواتيـر وعدم التقيّد بالنشرة التموينية، ووجود الكثير من السلع مجهولة المصدر، وحالات الغش لا سيما لمواد الحليب والجبنة واللبنة وقلة عرضهما وارتفاع سعرها، حيث وصل سعر كيلو اللبنة إلى 500 ليرة، ولجوء الباعة والمنتجين لها إلى خلطها بمادة المبيضات والسمنة المؤذية للصحة. وتبيّن أيضاً أن بعض ماركات مواد التنظيف مغشوشة بمادة الملح، إضافة إلى ضبط محل يبيع لحمة وكباب منتهية الصلاحية. وتنشر «البعث» قصة الغش هذه مكررة ومعتادة. مغاسل السيارات في مناطق كثيرة بدأت بتصنيع مواد التنظيف وتعليبها بعبوات مغلفة لماركات عالمية معروفة. بعض التجار يعترف لزبائنه بأنها مغشوشة، لكنه يبيعها بسعر اقل من الأصلي. ما الذي يمكن فعله؟ يطرح اقتصاديون، ابرزهم رئيس اتحادات الصناعة في سوريا فارس الشهابي فكرة تبديل العملة كاقتراح للنقاش. ويقول، لموقع «الاقتصادي» المتخصص، «انّه طرح الفكرة بهدف الحد من المضاربة على الليرة السورية من قبل دول خارجية، تمتلك كميات كبيره من العملة السورية»، موضحا انّه «قدم الفكرة فقط، في ما يفترض ان تتم مناقشة الموضوع بشكل معمق من ناحية إيجابياته وسلبياته من قبل الحكومة». وهي فكرة يتداولها العامة باعتبارها «حلا». يرغب سوريون كثر في رؤية العملة المتآكلة يوما بعد يوم تختفي بأوراقها العريضة والطويلة، لتحل محلها عملة جديدة تناطح الدولار بقوة. لكن المصرف المركزي الذي يخوض تلك المعركة اليومية سبق ورفض الفكرة جملة وتفصيلا. «لا يوجد نية لدى مصرف سوريا المركزي لاستبدال العملة حاليا، حيث لم يصدر أي قرار بهذا الشأن، وأن كل ما تناقلته وسائل الإعلام إنما يندرج ضمن إطار الشائعات المضللة والحملة الإعلامية الشعواء على القطاع المصرفي في سوريا. ولا بد من الإشارة إلى أن المخزون من الأوراق النقدية للعملة السورية كاف، ولا يوجد أية حاجة لتبديل العملة، أما الكميات التي ستتم طباعتها، فيتم طرحها في السوق، بدلا من الأوراق النقدية المهترئة». البيان القديم ربما لا زال يصف حالا واقعا، حتى يتبين نهاية أو أفق لهذه المواجهة اليومية. معركة حققت نجاحا محدودا أمس الأول، حين تمكن المصرف عبر مضاربة صباحية، من تخفيض سعر صرف الدولار من 300 ليرة سورية إلى 265 ليرة. المضاربة التي تمثلت بطرح مبالغ محددة من الدولار في السوق المصرفي، تزامنت مع قرار يذكر بحقبة الثمانينيات في سوريا، تمثل في «حظر تداول الدولار» إلا للمصرح لهم، عبر التهديد بعقوبات تصل إلى السجن لمدة ثلاث سنوات. وهو ما احتفى به سوريون كثر، إذ دفع بأسعار بعض المواد الغذائية للانخفاض بنسبة 30 في المئة، كما ترافق مع انخفاض في سعر الذهب أيضا، وإن كان ما زال يشكل عشرة أضعاف سعره في السابق. لذا دعا الصاغة بدورهم لصك ليرات ذهبية سورية تشجع الناس على شراء مدخرات ذهبية للحفاظ على قيمة حصاد العمر، وذلك للاستغناء عن الليرات الانكليزية، والليرة الرشادية. وتضمنت الفكرة أن تكون الليرة بوجهين «الأول بنقش هلال إسلامي أو جامع» والثاني «بنقش صليب مسيحي أو كنيسة». لكن في النهاية، فإن العاصفة، كما يظهر، لا تترك مجالا إلا لعيش السوري، بطريقة واحدة، وهي كل يوم بيومه.

المصدر : السفير/زياد حيدر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة