دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
أكثر قادة الحكم في إسرائيل مؤخراً من الحديث عن الآثار الجيوسياسية لاكتشافات الغاز في البحر المتوسط، وتحول الدولة العبرية من مستهلك للطاقة إلى منتج ومصدر لها. ولاحظ كثيرون أن قرار إسرائيل السماح بتصدير الغاز يفتح آفاقاً على نوع جديد من الصراعات والمشكلات، التي لم تكن موجودة في الماضي. واهتم آخرون بمحاولات روسيا تعزيز علاقاتها الاقتصادية والسياسية والثقافية مع إسرائيل ليس بسبب وجود نسبة كبيرة من الناطقين باللغة الروسية في هذه الدولة، وإنما لأمور تتعلق بقطاع الغاز أيضاً.
وفي كل الأحوال، فإن القرار الإسرائيلي بتصدير الغاز يفتح الباب على مصراعيه أمام منافسة علنية ومستترة بين خطين استراتيجيين تقف في جهة أميركا وتركيا، وفي الأخرى روسيا وقبرص. ومن المؤكد أن الرغبة الإسرائيلية في تصدير الغاز تدفع المراقبين من الجهتين للدفع نحو الخيارات المفضلة لكل منهما، خصوصاً أنه يصعب على الدولة العبرية تصدير الغاز من دون الاستعانة بأي من الفريقين.
وبرغم العلاقات التي لا تزال متوترة بين تركيا وإسرائيل إلا أن الإدارة الأميركية، التي حاولت إصلاح ذات البين بينهما استناداً إلى مصالح استراتيجية مشتركة، تأمل بأن يشكل تصدير الغاز مدخلاً لإعادة العلاقات إلى طبيعتها. ولذلك فإن احتمال إنشاء خط أنابيب غاز بحري إلى تركيا ينقل إسرائيل إلى دائرة أخرى في العلاقات مع أوروبا عموماً ومع تركيا خصوصاً. وهناك تقارير تفيد بأن المباحثات جارية بين جهات إسرائيلية وتركية حول هذا الشأن.
وقد تناول مسؤولون أتراك هذا الجانب في تصريحاتهم مؤخراً، كما أن إسرائيل عينت ميخائيل لوتام سفيراً خاصاً لشؤون الطاقة لمتابعة الأمر مع الأتراك. ومنح المسؤول عن القيود التجارية ضوءا أخضر لشركاء حقل «لفيتان» للدخول في مفاوضات تجارية مع شركات تركية، على خلفية الأهمية السياسية لهذه الاتصالات.
ويعتبر خبراء إسرائيليون أن السجال حول طريق تصدير الغاز يبدأ في المكان الذي ينتهي فيه السجال حول التصدير. ومن الواضح، وفق هؤلاء، أن كمية الغاز المسموح تصديره يكفي فقط لمشروع كبير واحد. ولكن على جدول الأعمال يوجد خياران: مد أنبوب تحت بحري من حقول الغاز الإسرائيلية إلى تركيا أو إنشاء محطة برية هائلة لتسييل الغاز تسمح بتصديره إلى الصين وأسواق الشرق.
وأشارت صحيفة «غلوبس» الاقتصادية الإسرائيلية إلى أن التنافس بين الأنبوب التركي ومحطة تسييل الغاز تجري على عدة صعد متوازية: اقتصادية، سياسية وإستراتيجية.
وفي المنافسة الاقتصادية، يبدو فوز منشأة تسييل الغاز بالنقاط واضحاً لأن أسعار الغاز في الصين وأسواق الشرق أعلى حالياً من سعر الغاز في الأنبوب التركي. ولذلك فإن لجنة «تسيمح»، التي بحثت موضوع تصدير الغاز، لم تر سوى منشأة تسييل الغاز خياراً محتملاً. ولكن بسبب التكلفة العالية لإنشاء محطة تسييل الغاز، والتي تتراوح بين عشرة و15 مليار دولار، ظهرت الحاجة إلى تصدير كميات أكبر من الغاز لتبرر هذا الاستثمار من الناحية الاقتصادية.
وكان خيار إنشاء محطة تسييل الغاز من بين دوافع انضمام شركة «وودسايد» الأسترالية للمنافسة بإعلانها الاستعداد مبدئياً لاستثمار 1,5 مليار دولار لشراء 30 في المئة من حقوق امتياز حقل «لفيتان» بقصد بناء المنشأة وتصدير الغاز لزبائنها في الصين. ومراراً هددت الشركة، في ظل غياب قرار إسرائيلي بشأن تصدير الغاز، بسحب عرضها لشراء حصة في «لفيتان» إذا لم يتقرر تصدير الغاز.
ومعروف أن شركة «نوبل إنرجي» الأميركية، وهي الشريك الأكبر في حقل «لفيتان»، تؤيد موقف «وودسايد»، في حين تبدو شركة «ديلك» الإسرائيلية متأرجحة بين هذا الخيار وخيار أنبوب الغاز التركي.
غير أن مزايا محطة التسييل لا تخفي عيوبها الكبيرة. وأساس هذه العيوب هو صعوبة إيجاد شاطئ مناسب لبناء هذه المنشأة العملاقة والخطيرة، والتي يجب أن يبتعد محيطها عن أقرب منطقة سكنية لها مسافة كيلومتر على الأقل. وهناك من طالب بإنشاء المحطة في إيلات لأسباب تصديرية، وبالتالي استخدام أنبوب عسقلان ـ إيلات لنقل الغاز، ولكن الهيئات البيئية رفضت ذلك.
وتحاول إسرائيل من دون جدوى منذ خمس سنوات إنشاء محطة صغيرة لاستقبال الغاز على الشاطئ، ومن المشكوك فيه أن تتمكن من العثور على منطقة مناسبة تلبي متطلبات إنشاء مثل هذه المحطة.
وفي المقابل، فإن أنبوب الغاز إلى تركيا يبدو مشروعاً أبسط بكثير، ولا يتطلب أذونات خاصة. فهو يشبه مشروع الأنبوب بين حقل «تمار» وشاطئ عسقلان، ويمكن إنجازه خلال عامين. وتركيا هنا تقوم بدور البوابة لأوروبا برغم أن السوق التركي وحده مؤهل لاستيعاب كل كميات الغاز التي ستصدرها إسرائيل. فالسوق التركي يتطور بوتيرة ثلاثة في المئة سنوياً، كما أن حاجة تركيا من الغاز تصل إلى 50 مليار متر مكعب سنوياً.
وتوفر روسيا ثلثي احتياجات تركيا من الغاز، فيما توفر إيران وأذربيجان الباقي، كما تبعث الجزائر كميات محدودة من الغاز المسال.
ويمكن لإسرائيل أن تعرض الغاز على تركيا بأسعار تقل عن أسعار كل المزودين عدا روسيا. وبحسب التقديرات في إسرائيل، يمكن استرداد تكاليف إنشاء الخط إلى تركيا خلال عامين، وإذا حلت الأزمة السياسية بين الدولتين فإن المخاطر محدودة.
وبحسب «غلوبس» فإن البعد السياسي يدخل هنا إلى الصورة. وسياسياً يفوز المشروع التركي بالضربة القاضية على محطة تسييل الغاز، لأن بوسع هذا الأنبوب أن يشكل رافعة مهمة لمكانة إسرائيل الإقليمية. وبحسب مصدر سياسي إسرائيلي، فإنه ليس لمحطة تسييل الغاز أي أثر جيوسياسي، إذ لا لون للغاز الذي يباع إلى الصين.
ويتحدثون في إسرائيل عن أنه منذ شرع لبنان بمشاريع التنقيب عن الغاز، فإن تهديدات «حزب الله» للغاز الإسرائيلي تراجعت. كما أن إسرائيل بحثت احتمال أن يعد نتنياهو الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعدم وصول الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا مقابل تجميد صفقة صواريخ «إس 300» للسوريين.
والإدارة الأميركية متحمسة لأنبوب الغاز الإسرائيلي ـ التركي. كما أن أميركا تضغط لتزويد الأردن والسلطة الفلسطينية، وربما مصر أيضاً بالغاز.
ويرى الأميركيون في الأنبوب التركي وسيلة لتعزيز العلاقات الاستراتيجية بين حليفيها الاستراتيجيين في المنطقة. ولكن مخاطر الخط التركي تكمن في الموقف الروسي الذي يعترض على كل ما لأميركا مصلحة فيه. ومعروف أن الحكومة الروسية تدافع بشراسة عن مصالح شركة «غازبروم»، ولذلك قد لا يكفيهم التعهد بعدم وصول الغاز الإسرائيلي إلى أوروبا، وسيعترضون حتى على وصوله إلى تركيا.
وفضلاً عن ذلك، فإن قبرص مهتمة جداً بالموقف الإسرائيلي. وقد طلبت إنشاء محطة تسييل على أراضيها وتصدير الغاز الإسرائيلي شرقاً. ولذلك، فإن الأنبوب إلى تركيا قد يبقي الغاز القبرصي المكتشف في قعر البحر.
عموماً يتفق الخبراء الإسرائيليون، وفقاً لـ«غلوبس»، على الآثار السياسية للقرارات بشأن تصدير الغاز. ويرون أن المهم الآن أن عصا الغاز باتت «بيد» إسرائيل، وليس «على رأسها»، كما كان الحال في استيرادها للغاز من مصر.
المصدر :
السفير/ حلمي موسى
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة