دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
أنهى رئيس الحكومة التركية رجب طيب أردوغان «المربع الجغرافي» لـ«انتفاضة تقسيم»، كما خطط لها منذ اللحظة الأولى، عندما أمر الشرطة باقتحام الميدان وحديقة «جيزي». والشرطة نفذت الأوامر مباشرة، ونجحت في ذلك خلال ساعات قليلة محوّلة المكان إلى أنقاض ساحة حرب. ولم يكتف أردوغان بذلك بل أعلن هزيمة «الخونة». ولكن الانتفاضة استمرت في الشوارع المحيطة بالساحة، وفي كل المدن التركية، وبأشكال تعبيرية مختلفة لم تسمح لأردوغان بأخذ قسط من الراحة. وبعد ثلاثة أسابيع على بدء الانتفاضة، يمكن تسجيل الملاحظات التالية:
1- لم يلتفت أردوغان منذ اللحظة الأولى إلى المحتجين، واستخدم ضدهم لغة تحقيرية، حين اعتبرهم «لصوصاً ومخربين». ولم يتردد في وصف الفنانين بمجموعة من الانكشارية الذين سيدفعون الثمن غالياً. كما صب جام غضبه على مواقع التواصل الاجتماعي التي اعتبرها «وباء».
2- اتبع أردوغان ومحيطه السياسي تكتيك الاستخفاف بمطالب الشباب وشرائح المجتمع المدني المختلفة من خلال تشخيصه للانتفاضة منذ البداية على أنها مؤامرة خارجية. وقد تناوب هو ووزير خارجيته أحمد داود أوغلو على ذلك عندما اتهم الأخير علناً روسيا وإيران وإسرائيل والغرب بأنهم يريدون وقف تقدم تركيا.
3- اتبع أردوغان وقادة «حزب العدالة والتنمية» مع الانتفاضة أسلوب المراوغة والخداع وتوزيع الأدوار. أردوغان يحتفظ بعناده وتشدده، فيما يتولى رئيس الجمهورية عبد الله غول ونائب رئيس الحكومة بولنت أرينتش التعامل بليونة مع المحتجين وإطلاق الوعود. وقال غول إن «الرسالة وصلت»، في حين اعتذر أرينتش عن طريقة التعامل مع المحتجين. ولكن بعد عودة أردوغان من جولته المغاربية اختفت الأصوات «المعتدلة»، وساد صوت معركة أردوغان، وتبين أن الرسالة وصلت فعلاً مع اقتحام الشرطة لـ«ميدان تقسيم» وحديقة «جيزي»، حيث أعطى أردوغان شخصياً أمر المباشرة بالاقتحام مساء السبت الماضي.
4- واتبع أردوغان أسلوب الإيقاع بين المحتجين وشق صفوفهم عندما التقى وفداً هو انتقاه على أساس انه يمثل الانتفاضة، فيما القيادة التي التقت سابقاً بأرينتش لم تدع. وبعد ثلاثة أيام عاد أردوغان والتقى القيادة الفعلية للانتفاضة من دون نتيجة، بل انه انسحب من الاجتماع غاضباً بعدما قرّعته إحدى النقابيات المشاركات.
5- كذلك لجأ أردوغان إلى سياسة «تسكين» الانتفاضة عبر اقتراح انتظار حكم القضاء وطرح استفتاء على مستقبل تغيير معالم «ميدان تقسيم» وحديقة «جيزي». واستكمل ذلك من خلال قول غول إن المشروع قد علّق، وبعد ذلك صدور قرار اللجنة المركزية لـ«حزب العدالة والتنمية» بطرح المشروع على استفتاء بين سكان اسطنبول. وفي ذلك خديعة كبيرة لأن القضاء بيد أردوغان من جهة، كما أن نتيجة أي استفتاء ستكون لمصلحته، لأن الغالبية في اسطنبول تؤيده.
6- لم يتراجع أردوغان على امتداد الانتفاضة عن التهديد باستخدام الشارع للحشد الجماهيري والتحدي. وقد أقام عشرات المهرجانات أكبرها الأحد الماضي في اسطنبول مفضلاً اتباع سياسة الاستقطاب والتوتير، التي يجيدها على سياسة تفهم المطالب والتصالح.
7- ولعل أخطر ما في سياسة الاستقطاب «الأردوغانية» هذه أنها تريد حرف الأنظار عن مطلب المتظاهرين الأساسي، وهو إرساء الحريات التامة، وجرّها إلى المستنقع المذهبي. فمن جهة رفض غول التراجع عن تسمية الجسر الثالث على نهر البوسفور باسم السلطان سليم الأول، عدو العلويين الأول. ومن جهة ثانية، كان مثيراً للانتباه أن أردوغان وصف قتلى انفجار الريحانية الـ52 في جنوب شرق تركيا، وفي مهرجانه في أنقرة السبت الماضي، بأنهم «مواطنون سنّة» في عملية تحريض مذهبي.
8- لم يتخل أردوغان عن نظرته في أن صندوق الاقتراع هو الحكم بينه وبين منافسيه. وهذا قد يكون صحيحاً في إطار الصراع السياسي مع الأحزاب المعارضة، ولكن ليس في مواجهة المطالب التي تطرحها شرائح مدنية غير حزبية كلها من المثقفين والفنانين والطلاب والشباب.
وبالاحتكام إلى صندوق الاقتراع، يصر أردوغان على مفهوم واحد تقليدي للديموقراطية، وهو أن الغالبية العددية لها الحق في الحكم وفقاً لبرنامجها من دون احترام هواجس لا يمكن حلها عبر صندوق الاقتراع، والتي تتصل بالحريات الأساسية والحساسيات المختلفة. ولو كان صندوق الاقتراع هو الحل، لما كان أردوغان واجه بعد سنتين من انتصاره الانتخابي مثل هذه الانتفاضة. وبالتالي لن تحل المشكلة عبر انتخابات جديدة أو استفتاءات أو حتى انتخابات مبكرة. المطلوب تغيير الذهنية وليس أي شيء آخر.
9- لقد تركت الانتفاضة تساؤلات كثيرة حول أكثر من قضية داخلية. فالانتفاضة، التي هشّمت صورة أردوغان وهيبته في الداخل، ستترك أثرها على فرص وصوله إلى رئاسة الجمهورية، وربما تعيد حظوظ عبد الله غول من جديد.
والانتفاضة تركت أثرها منذ الآن على خطط إعداد دستور جديد التي يبدو أنها طويت. وهذا يعني أن أردوغان حتى لو انتخبه الشعب رئيساً للجمهورية، فلن يكون بصلاحيات مطلقة كان سيوفرها له الدستور الجديد، بل مجرد حاكم مقيد الصلاحيات.
10- كذلك، ألقت الانتفاضة وطريقة تعامل أردوغان معها أثرها على العلاقة مع الأكراد. وقد تضامن زعيم «حزب العمال الكردستاني» عبد الله أوجلان المعتقل مع «انتفاضة تقسيم»، وشارك نواب من «حزب السلام والديموقراطية» في احتجاجات الميدان والحديقة.
ولكن في الوقت ذاته، بدا «حزب العمال الكردستاني» محرجاً ومقيداً بعض الشيء، إذ انه لا يريد الذهاب بعيداً في تأييد الانتفاضة ومعارضة أردوغان، لأنه يريد أن يستكمل عملية الحل مع الحكومة، ولا يرغب في إعطاء الحكومة مبرراً لوقف العملية. ولكن فرصة تمكن أردوغان من تلبية مطالب الأكراد عبر تعديلات دستورية تراجعت كثيراً بعد الانتفاضة، وسيكون الاستمرار في عملية الحل كلها موضع شكوك جدية.
11- لا شك بأن إحدى اكبر اللكمات التي تعرض لها أردوغان كانت التوتر البالغ في العلاقة بينه وبين الغرب، سواء مع الولايات المتحدة وبريطانيا، وخصوصا ألمانيا. وقد وجهت تلك الدول انتقادات لاذعة لسياسته المتبعة في التعاطي مع المحتجين، وهي تعكس في الأساس عدم الثقة والحساسية بين الطرفين، ورغبة في لجم اندفاع سلطة أردوغان، الذي بات يشكل عبر سلوكه الإسلامي المتشدد في بلد محاذ لأوروبا، خطراً على الأمن والاستقرار في القارة العجوز. ويضاف إلى ذلك الرغبة في استغلال الوضع للاستمرار في تطويع أردوغان لسياسات الغرب في أكثر من قضية.
12- وإحدى العلامات البارزة على خسائر أردوغان انه تفاجأ بالانتفاضة. وبذلك تنهار منظومة فكرية كاملة بنى عليها وزير خارجيته الموقف التركي المنقلب على نفسه من الوضع في المنطقة عندما تحدث عن دفق التاريخ وحتمية التحول والانحياز للشعوب واعتدال النموذج وديموقراطيته وعلمانيته.
13- لا شك بأن صورة أردوغان وموقعه لدى الرأي العام العربي والإسلامي، قد تعرضا لاهتزاز كبير. وبات على صانعي صورته أن يبذلوا جهوداً خارقة لترميم ما تهشم منها. وليس بعيداً عن ذلك ما قاله عبد الله غول من أن جهود عشر سنوات لصنع صورة تركيا قد انهارت في عشرة أيام.
وفي هذا السياق، وكما كان مؤتمر «دافوس» باباً لدخول أردوغان إلى المنطقة، فإن فلسطين ستكون مرة أخرى القميص الذي سيرتديه أردوغان لترميم صورته من خلال الزيارة التي يزمع القيام بها إلى غزة، والتي ينسق لها مع حركة حماس ومصر. ولكن هل يصلح عطّار غزة ما أفسده دهر اسطنبول؟
لقد قرعت الانتفاضة جرس الإنذار ورفعت البطاقة الصفراء بوجه الحاكم. وتركيا اليوم أمام مرحلة جديدة من تاريخها الحديث. والانحدار في مسيرة أردوغان و«العدالة والتنمية»، بكل رموزه بات حقيقة. المسألة فقط في وتيرة النزول، هل يكون بطيئاً أم سريعاً؟
المصدر :
الماسة السورية/محمد نور الدين
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة