ثمة تشابه مثير للانتباه بين الحراك الشعبي الذي تشهده تركيا هذه الأيام، وبين الحراك الذي يخوضه الشعب المصري ضد حكامه الجدد، وهو تشابه اختزلته لافتة رفعتها فتاة في ميدان تقسيم في اسطنبول خُطّت عليها عبارة: «هذا ميدان تحرير(نا)».

ويتبدّى التشابه هذا في أوجه عدّة، فهو حراك عفوي يخوضه ناشطون منتمون إلى الطبقة الوسطى ويسعون من خلاله لاستقطاب الغالبية الصامتة، في مواجهة حكومة اسلامية تستوحي مبادئ «الإخوان المسلمين»، وتسعى لتمكين سيطرتها على مفاصل النظام وتغيير الهوية العلمانية للبلاد. وبين هذا وتلك أحزابٌ معارضةٌ تقليدية مشتتة بين أجندات مختلفة.

وجه آخر للتشابه تجده يتمظهر في الطريقة التي تنتهجها حكومة «حزب العدالة والتنمية» ورئيسها رجب طيب أردوغان في التعامل مع الحراك الشعبي، والتي تذكر بسلوك جماعة «الإخوان المسلمين» من قبيل تجاهل المطالب المحقة للمتظاهرين، ووصفهم بـ«الرعاع» و«اللصوص» («البلطجية»)، والتقليل من شأنهم («الحارة المزنوقة» وفق تعبير محمد مرسي)، بالإضافة إلى ترداد مقولة «الاحتكام إلى صناديق التصويت»، ومحاولات تأجيج شارع موالٍ في مواجهة شارع معارض!

ومع ذلك، فإن «حراك تقسيم» يقترب أيضاً من نموذج «احتلال وول ستريت»، الذي انطلق في الولايات المتحدة، وامتد سريعاً ليشمل عواصم غربية عدّة، إلى أن تمكنت الأنظمة الرأسمالية من احتوائه ووأده تدريجياً.

وبين نموذجي «ميدان التحرير» و«احتلوا وول ستريت»، يبدو صعباً التوقع بما سيؤول إليه الحراك التركي على المدى المنظور.

تراكم الغضب

تظهر التجارب الحديثة في مصر وتونس أن حادثة صغيرة قد تتخذ مساراً غير متوقع ينتهي بإسقاط نظام وقيام آخر، وهو ما حدث فعلاً في تونس ومصر قبل اكثر من عامين.

وفي ظل مناخ «الربيع العربي» المسيطر على منطقة الشرق الأوسط، فإن هذه الحقيقة تصلح للتطبيق في تركيا، وإن كانت الظروف الموضوعية في هذه الدولة تجعل من الصعب إسقاط النموذجين المصري والتونسي على الحراك التركي.

تقول الأكاديمية التركية فوليا اليكوتش لـ«السفير» إن «أي حركة شعبية لا بد أن يكون لها حدث مفجّر»، وفي الحالة التركية الأخيرة «كانت عملية قطع الأشجار في حديقة جيزي (الملاصقة لميدان تقسيم)، واستخدام الشرطة العنف ضد الناشطين الحدث الذي أسهم في تفجر الغضب الشعبي».

«قطع الأشجار في حديقة جيزي كانت مجرّد شرارة للانفجار الاجتماعي»، هكذا يستهل الصحافي التركي اركومنت أكدينيز حديثه إلى «السفير»، رداً على سؤال حول خلفيات ما يجري في تركيا اليوم.

ويعزو الصحافي التركي اتساع نطاق الاحتجاجات إلى عوامل مباشرة، ومن بينها استخدام القوة ضد المتظاهرين السلميين، واخرى «تراكمية»، تعود بالدرجة الأولى إلى ممارسات «حزب الحرية والعدالة»، التي أججت الغضب في صفوف قطاعات واسعة في المجتمع التركي.

وفي هذا الإطار تقول فوليا اليكوتش إن «جذور الحراك الشعبي الأخير تمتد إلى عشرة أعوام، ويمكن تلخيصها بسياسة القمع والقهر والإهانة التي انتهجتها الحكومة، وبشكل خاص رئيسها رجب طيب اردوغان، ضد المعارضين».

وتشير اليكوتش إلى أن «السنوات الماضية شهدت عدداً كبيرة من التحركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، او حتى الفردية، ضد سياسات حزب العدالة والتنمية، لكنها كانت تقتصر على قطاع ضيق في المجتمع، كما هي الحال بالنسبة إلى تحركات المزارعين ضد المشاريع الكهرومائية المدمّرة للبيئة، أو تحركات الطلاب الجامعيين في وجه سياسات تحويل التعليم إلى سلعة تجارية، وحملات المثقفين ضد الممارسات الحكومية المقيدة لحرية التعبير».

وتشير اليكوتش إلى أن هذه التحركات كانت غير مترابطة، بمعنى أنها كانت معزولة عن بعضها بعضاً، ولذلك فإن أحداً في تركيا، بما في ذلك رئيس الوزراء والجماعات المعارضة، لم يكن ليتوقع أن يبلغ تراكم الغضب مستوى الانفجار الشعبي الذي نشهده الآن».

ويرجع الصحافي الكردي المتخصّص في الشؤون التركية نواف خليل، في حديث إلى «السفير»، ما يجري في تركيا اليوم إلى «تحكم حزب العدالة والتنمية في جميع مفاصل الحياة السياسية والإعلامية والاقتصادية في تركيا، وتدخل أردوغان في أبسط الأمور وأكثرها خصوصية، على غرار دعواته للأسر التركية إلى زيادة الإنجاب!».

بدوره، يقول الصحافي الكردي طارق حمو لـ«السفير» إن العوامل الحقيقية للحراك الشعبي في تركيا «تكمن في إجراءات حزب العدالة والتنمية الآخذة في التصعيد ضد القوى الديموقراطية، ومحاولات التضييق على الفكر المخالف وأسلمة الحياة العامة».

ويشير حمو إلى ان «هناك قطاعات واسعة تقف اليوم ضد إجراءات الحزب الحاكم في أسلمة الدولة، وهذا ينطبق بشكل خاص على الفنانين والمثقفين وطلاب الجامعات، الذين كانوا أول من هرع إلى الميدان العام في اسطنبول للتنديد بالحكومة».

ويوضح حمو أن «الغضب يطال بشكل خاص شخص رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، الذي بات يتدخل في خصوصيات الناس، عبر تصريحاته التي وصف فيها من يحتسون الخمر بالسكارى، ومطالبته الناس بإنجاب أكثر من ثلاثة اطفال، وتدخله في المسلسلات التاريخية التي أرادها أن تكون بحسب قناعاته وايديولوجية حزبه».

وبحسب استطلاعات الرأي فإن 90 في المئة من المتظاهرين يقولون إنهم يتظاهرون من أجل المطالبة بالحرية وللتعبير عن غضبهم من سياسة الحزب الحاكم.

صراع على الهوية

ويكتسب السبب المباشر لتفجر التظاهرات في وجه أردوغان رمزية كبيرة. ويوضح اكدينيز إن «ميدان تقسيم وحديقة جيزي يمثلان رمزاً مهماً للأتراك، بعدما ارتبطا بالتحركات الشعبية من أجل الديموقراطية والحرية والعلمانية».

ويوضح أن ميدان تقسيم، الذي يعرف ايضاً باسم «ميدان الأول من أيار»، كان دوماً مقصداً للنقابات العمالية والمنظمات الديموقراطية، التي كانت تصر على إحياء يوم العمال العالمي في هذا المكان برغم القمع والمنع. أضف إلى ذلك أن هذه الساحة شهدت ارتكاب قوات الأمن مجزرة راح ضحيتها 37 شخصاً في الأول من أيار العام 1977.

ولذلك، فقد كان من الطبيعي، بحسب أكدينيز، أن يهب الناس للدفاع عن هوية هذا الميدان، في مواجهة مشروع يستهدف تغيير معالمه وهويته، وإعادة تشكيل الحياة الحضرية الحديثة في اسطنبول من خلال إقامة ثكنة عسكرية تعود إلى العهد العثماني.

تحرك غير منظم

تؤكد اليكوتش أن «الحراك الأخير في تركيا انطلق بشكل عفوي»، وتجزم بأنه «لم يكن وراءه أي تنظيم سياسي».

وتوضح أنه «منذ اليوم الأول، خرج معظم المنتمين الى الاحزاب والتنظيمات السياسية إلى الشارع من دون تعليمات من قياداتهم».

وتروي: «كنت في طريقي إلى ميدان تقسيم. لم تكن هناك أعلام حزبية. كل ما شاهدته كان مجموعة من الشبان يتخذون وضعية الدفاع عن النفس خلال المواجهات مع الشرطة. بعضهم كان يردد أناشيد الجمهورية، ما يعني أنهم من الكماليين (نسبة إلى مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال اتاتورك). وآخرون كانوا يرفعون شارة النصر، ما يعني أنهم من حركة التحرر الكردية. واللافت أن انصار هاتين المجموعتين غالباً ما كانوا يشتبكون في ما بينهم، وها هم اليوم يتحدون ضد الشرطة».

وإلى جانب هؤلاء، تضيف اليكوتش، كان هناك تواجد كبير لبعض الاشتراكيين.

وتتابع «في اليوم الثاني، رفعت الأحزاب والتنظيمات السياسية أعلامها، وبذلك كان بإمكاننا تكوين صورة عن القوى الموجودة في تقسيم: مجموعات يسارية، حزب السلام والديموقراطية (كردي)، الأناركيون، نقابيون (مهندسون، أطباء، محامون، طلاب، عمال، اكاديميون...الخ)، منظمات نسائية، مدوّنون، مشجعو فرق كرة القدم، مجموعات إسلامية مناهضة للرأسمالية، فنانون، مثقفون، ممثلون، موسيقيون، بالإضافة طبعاً إلى المستقلين».

هكذا نشأت معارضة من نوع جديد في ميدان تقسيم. هي معارضة قاعدية اجتمعت على مناهضة سياسات حزب العدالة والتنمية، أكثر منها جبهة معارضة بالمفهوم التقليد، وهذا ما يؤكده ايركومنت الذي يشير إلى ان «الحراك الشعبي جمع التيارات المتناقضة كافة... لكن ذلك حدث في الشارع فقط!».

وتشير اليكوتش إلى أن «هذا الحراك تشكل غير منظم، وحافظ على زخمه من دون أن يرتبط بتنظيم سياسي، وهو الآن يخرج سيطرة أي قوة سياسية، ويتخذ مسار التنظيم الذاتي».

بذلك اتخذ ميدان تقسيم شكل ميدان التحرير في الأيام الثمانية عشر للثورة ضد حسني مبارك. «كل يحاول ان يساهم في الحراك بحسب قدرته بعيداً عن نظام التعاملات المالية: حضانات عامة للأطفال، مقاهي تقدم الطعام والشراب مجاناً، مستوصفات، نشاطات بيئية وزراعية، مكتبات، دروس مفتوحة، فرق موسيقية... الخ»، توضح الكيوتش، التي ترى أن المهم في الموضوع هو ان الحراك بات يحظى بتأييد الناس الجالسين في بيوتهم، «هكذا لم يعد غريباً مشهد أواني الطعام وأباريق الشراب متدلّية من نوافذ المنازل كل ليلة كشكل من أشكال الدعم للمتظاهرين».

اخبار كهذه ربما تطمئن معارضي أردوغان، باعتبارها مؤشراً أولياً على أن الغالبية الصامتة، التي تشكل الحجر الزاوية في المعادلة السياسية التركية.

مسار الحراك

يتخذ الحراك منحى تصاعدياً مع شموله 71 من أصل 81 مدينة في تركيا. ولكن بحسب ايركومنت، فإنه من السابق لأوانه القول إن هذه التظاهرات هي انتفاضة شعبية. ويوضح «كي نكون واقعيين، نقول إن ما يجري هو أن الناس تعبر عن غضبها، أو أنها توجه إنذاراً جدّياً لاردوغان وحكومته».

ويضيف «من الصعب ان نتوقع ما يمكن ان يجري في المستقبل. من الواضح ان الحكومة لن تستقيل بالنظر إلى طبيعة العلاقات التي تحكم الحياة السياسية في تركيا، لكنني أعتقد أن الأمور لن تجري كما كانت في السابق، فالشعب التركي بات يتمتع بثقة كبيرة في قدرته على كبح نزعة أردوغان الدكتاتورية».

كذلك، تجد اليكوتش صعوبة في توقع السيناريوهات المستقبلية للحراك التركي، لكنها تشير إلى ان ثمة متغيرات عدة يجب أن تؤخذ في الاعتبار لدى البحث عن هذه السيناريوهات:

1- الحراك لم يعد مقتصراً على اسطنبول، كما كان الوضع في السابق، فهو يمتد إلى معظم المدن التركية، وإن بدرجات متفاوتة، ما يعني أن قوات الأمن باتت مشتتة على أكثر من جبهة، وبالتالي فإن قدرتها على وأد الحراك الشعبي قد باتت أكثر صعوبة، حتى ان حديقة جيزي قد باتت اليوم منطقة خالية من الشرطة.

2- المتظاهرون باتوا قادرين على التعبير عن رأيهم عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ما يعني أنهم باتوا قادرين على إيصال صوتهم لفئات المجتمع التركي كافة.

3- التواصل بين القوى السياسية كافة في الشارع بما يجعل من الممكن توحيد الصفوف في مواجهة أردوغان، في حال توافرت النية.

4-الطريق الذي ستسلكه الحكومة في التعامل مع الحراك الشعبي، وهنا يبرز احتمالان: فإمّا ان تختار المضي قدماً في استخدام العنف وتؤجج الغضب، وإما أن تقدّم التنازلات التي تدفع المتظاهرين إلى إخلاء الشارع وتكرس انتصاراً سياسياً لحركة الاحتجاج.

حتى الآن لم يبد أردوغان رغبة في الحل، فهو ما زال مصرّاً على أن معارضيه «رعاع» و«لصوص». وفي المقابل فإن الزخم الذي اكتسبه الحراك الشعبي يدفع المعارضين على المضي في المعركة حتى نهاياتها... هكذا يبدو المشهد على النحو التالي: أردوغان يرفع شعار «لا تراجع» وميدان تقسيم يهدر بهتاف «لا استسلام».

أين يقف الجيش؟

ومنذ اليوم الأول لحراك تقسيم أثيرت تساؤلات حول موقف الجيش مما يجري.

يشير اركومنت إلى ان العلاقات بين المؤسسة العسكرية والنظام الإسلامي الحاكم شهدت صراعاً حاداً خلال السنوات الأولى لحكم «حزب العدالة والتنمية»، ولكن يبدو أن اردوغان قد نجح في تحييد الجيش عن الصراع الداخلي، وبالتالي فمن المستبعد جداً حدوث انقلاب عسكري، كما كان يجري في السابق، ولكن من المحتمل ان تحدث تشققات داخل الحزب الحاكم بين الثلاثي عبد الله غول (رئيس الدولة) ورجب طيب أردوغان، وبولاند ارينتش (نائب رئيس الحكومة).

من جهته، يشير طارق حمو إلى أن «الجيش التركي لم يعبّر رسميا عن أي موقف من الحراك الشعبي. ولكن كان لافتا تقديم احدى ثكناته العسكرية القريبة من ميدان تقسيم كمامات للمتظاهرين الذين تعرضوا للغازات المسيلة للدموع التي اطلقتها قوات الامن».

ويضيف «قد تكون هناك أجنحة في الجيش لديها مصالح في تآكل شعبية حزب العدالة والتنمية وتصعيد الحراك ضده، ولكن من المؤكد ان هذه الأجنحة لا تناصر المطاليب الديموقراطية للمتظاهرين»

بدوره يقول نواف خليل إن «اردوغان تمكن خلال السنوات العشر الماضية، وبمساندة اميركية، من السيطرة على المؤسسة العسكرية، وقد عمد إلى تعيين نجدت اوزل رئيساً للأركان، وهو المعروف في الوسط الكردي بـ(نجدت الكيماوي)، بسبب استخدامه للاسلحة الكيميائية ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني، ولهذا لا اعتقد ان الجيش في وضع يمكنه من التحرك خارج ارادة رئيس الحكومة». ويختم «في كل الاحوال كان الجيش التركي دائما في طليعة القوى القامعة لأي تطلعات ديموقراطية للشعب التركي والكردي وعموم شعوب تركيا».

  • فريق ماسة
  • 2013-06-10
  • 10514
  • من الأرشيف

أردوغان و«تقسيم»: لا تراجع.. لا استسلام!

ثمة تشابه مثير للانتباه بين الحراك الشعبي الذي تشهده تركيا هذه الأيام، وبين الحراك الذي يخوضه الشعب المصري ضد حكامه الجدد، وهو تشابه اختزلته لافتة رفعتها فتاة في ميدان تقسيم في اسطنبول خُطّت عليها عبارة: «هذا ميدان تحرير(نا)». ويتبدّى التشابه هذا في أوجه عدّة، فهو حراك عفوي يخوضه ناشطون منتمون إلى الطبقة الوسطى ويسعون من خلاله لاستقطاب الغالبية الصامتة، في مواجهة حكومة اسلامية تستوحي مبادئ «الإخوان المسلمين»، وتسعى لتمكين سيطرتها على مفاصل النظام وتغيير الهوية العلمانية للبلاد. وبين هذا وتلك أحزابٌ معارضةٌ تقليدية مشتتة بين أجندات مختلفة. وجه آخر للتشابه تجده يتمظهر في الطريقة التي تنتهجها حكومة «حزب العدالة والتنمية» ورئيسها رجب طيب أردوغان في التعامل مع الحراك الشعبي، والتي تذكر بسلوك جماعة «الإخوان المسلمين» من قبيل تجاهل المطالب المحقة للمتظاهرين، ووصفهم بـ«الرعاع» و«اللصوص» («البلطجية»)، والتقليل من شأنهم («الحارة المزنوقة» وفق تعبير محمد مرسي)، بالإضافة إلى ترداد مقولة «الاحتكام إلى صناديق التصويت»، ومحاولات تأجيج شارع موالٍ في مواجهة شارع معارض! ومع ذلك، فإن «حراك تقسيم» يقترب أيضاً من نموذج «احتلال وول ستريت»، الذي انطلق في الولايات المتحدة، وامتد سريعاً ليشمل عواصم غربية عدّة، إلى أن تمكنت الأنظمة الرأسمالية من احتوائه ووأده تدريجياً. وبين نموذجي «ميدان التحرير» و«احتلوا وول ستريت»، يبدو صعباً التوقع بما سيؤول إليه الحراك التركي على المدى المنظور. تراكم الغضب تظهر التجارب الحديثة في مصر وتونس أن حادثة صغيرة قد تتخذ مساراً غير متوقع ينتهي بإسقاط نظام وقيام آخر، وهو ما حدث فعلاً في تونس ومصر قبل اكثر من عامين. وفي ظل مناخ «الربيع العربي» المسيطر على منطقة الشرق الأوسط، فإن هذه الحقيقة تصلح للتطبيق في تركيا، وإن كانت الظروف الموضوعية في هذه الدولة تجعل من الصعب إسقاط النموذجين المصري والتونسي على الحراك التركي. تقول الأكاديمية التركية فوليا اليكوتش لـ«السفير» إن «أي حركة شعبية لا بد أن يكون لها حدث مفجّر»، وفي الحالة التركية الأخيرة «كانت عملية قطع الأشجار في حديقة جيزي (الملاصقة لميدان تقسيم)، واستخدام الشرطة العنف ضد الناشطين الحدث الذي أسهم في تفجر الغضب الشعبي». «قطع الأشجار في حديقة جيزي كانت مجرّد شرارة للانفجار الاجتماعي»، هكذا يستهل الصحافي التركي اركومنت أكدينيز حديثه إلى «السفير»، رداً على سؤال حول خلفيات ما يجري في تركيا اليوم. ويعزو الصحافي التركي اتساع نطاق الاحتجاجات إلى عوامل مباشرة، ومن بينها استخدام القوة ضد المتظاهرين السلميين، واخرى «تراكمية»، تعود بالدرجة الأولى إلى ممارسات «حزب الحرية والعدالة»، التي أججت الغضب في صفوف قطاعات واسعة في المجتمع التركي. وفي هذا الإطار تقول فوليا اليكوتش إن «جذور الحراك الشعبي الأخير تمتد إلى عشرة أعوام، ويمكن تلخيصها بسياسة القمع والقهر والإهانة التي انتهجتها الحكومة، وبشكل خاص رئيسها رجب طيب اردوغان، ضد المعارضين». وتشير اليكوتش إلى أن «السنوات الماضية شهدت عدداً كبيرة من التحركات الصغيرة والمتوسطة الحجم، او حتى الفردية، ضد سياسات حزب العدالة والتنمية، لكنها كانت تقتصر على قطاع ضيق في المجتمع، كما هي الحال بالنسبة إلى تحركات المزارعين ضد المشاريع الكهرومائية المدمّرة للبيئة، أو تحركات الطلاب الجامعيين في وجه سياسات تحويل التعليم إلى سلعة تجارية، وحملات المثقفين ضد الممارسات الحكومية المقيدة لحرية التعبير». وتشير اليكوتش إلى أن هذه التحركات كانت غير مترابطة، بمعنى أنها كانت معزولة عن بعضها بعضاً، ولذلك فإن أحداً في تركيا، بما في ذلك رئيس الوزراء والجماعات المعارضة، لم يكن ليتوقع أن يبلغ تراكم الغضب مستوى الانفجار الشعبي الذي نشهده الآن». ويرجع الصحافي الكردي المتخصّص في الشؤون التركية نواف خليل، في حديث إلى «السفير»، ما يجري في تركيا اليوم إلى «تحكم حزب العدالة والتنمية في جميع مفاصل الحياة السياسية والإعلامية والاقتصادية في تركيا، وتدخل أردوغان في أبسط الأمور وأكثرها خصوصية، على غرار دعواته للأسر التركية إلى زيادة الإنجاب!». بدوره، يقول الصحافي الكردي طارق حمو لـ«السفير» إن العوامل الحقيقية للحراك الشعبي في تركيا «تكمن في إجراءات حزب العدالة والتنمية الآخذة في التصعيد ضد القوى الديموقراطية، ومحاولات التضييق على الفكر المخالف وأسلمة الحياة العامة». ويشير حمو إلى ان «هناك قطاعات واسعة تقف اليوم ضد إجراءات الحزب الحاكم في أسلمة الدولة، وهذا ينطبق بشكل خاص على الفنانين والمثقفين وطلاب الجامعات، الذين كانوا أول من هرع إلى الميدان العام في اسطنبول للتنديد بالحكومة». ويوضح حمو أن «الغضب يطال بشكل خاص شخص رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان، الذي بات يتدخل في خصوصيات الناس، عبر تصريحاته التي وصف فيها من يحتسون الخمر بالسكارى، ومطالبته الناس بإنجاب أكثر من ثلاثة اطفال، وتدخله في المسلسلات التاريخية التي أرادها أن تكون بحسب قناعاته وايديولوجية حزبه». وبحسب استطلاعات الرأي فإن 90 في المئة من المتظاهرين يقولون إنهم يتظاهرون من أجل المطالبة بالحرية وللتعبير عن غضبهم من سياسة الحزب الحاكم. صراع على الهوية ويكتسب السبب المباشر لتفجر التظاهرات في وجه أردوغان رمزية كبيرة. ويوضح اكدينيز إن «ميدان تقسيم وحديقة جيزي يمثلان رمزاً مهماً للأتراك، بعدما ارتبطا بالتحركات الشعبية من أجل الديموقراطية والحرية والعلمانية». ويوضح أن ميدان تقسيم، الذي يعرف ايضاً باسم «ميدان الأول من أيار»، كان دوماً مقصداً للنقابات العمالية والمنظمات الديموقراطية، التي كانت تصر على إحياء يوم العمال العالمي في هذا المكان برغم القمع والمنع. أضف إلى ذلك أن هذه الساحة شهدت ارتكاب قوات الأمن مجزرة راح ضحيتها 37 شخصاً في الأول من أيار العام 1977. ولذلك، فقد كان من الطبيعي، بحسب أكدينيز، أن يهب الناس للدفاع عن هوية هذا الميدان، في مواجهة مشروع يستهدف تغيير معالمه وهويته، وإعادة تشكيل الحياة الحضرية الحديثة في اسطنبول من خلال إقامة ثكنة عسكرية تعود إلى العهد العثماني. تحرك غير منظم تؤكد اليكوتش أن «الحراك الأخير في تركيا انطلق بشكل عفوي»، وتجزم بأنه «لم يكن وراءه أي تنظيم سياسي». وتوضح أنه «منذ اليوم الأول، خرج معظم المنتمين الى الاحزاب والتنظيمات السياسية إلى الشارع من دون تعليمات من قياداتهم». وتروي: «كنت في طريقي إلى ميدان تقسيم. لم تكن هناك أعلام حزبية. كل ما شاهدته كان مجموعة من الشبان يتخذون وضعية الدفاع عن النفس خلال المواجهات مع الشرطة. بعضهم كان يردد أناشيد الجمهورية، ما يعني أنهم من الكماليين (نسبة إلى مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال اتاتورك). وآخرون كانوا يرفعون شارة النصر، ما يعني أنهم من حركة التحرر الكردية. واللافت أن انصار هاتين المجموعتين غالباً ما كانوا يشتبكون في ما بينهم، وها هم اليوم يتحدون ضد الشرطة». وإلى جانب هؤلاء، تضيف اليكوتش، كان هناك تواجد كبير لبعض الاشتراكيين. وتتابع «في اليوم الثاني، رفعت الأحزاب والتنظيمات السياسية أعلامها، وبذلك كان بإمكاننا تكوين صورة عن القوى الموجودة في تقسيم: مجموعات يسارية، حزب السلام والديموقراطية (كردي)، الأناركيون، نقابيون (مهندسون، أطباء، محامون، طلاب، عمال، اكاديميون...الخ)، منظمات نسائية، مدوّنون، مشجعو فرق كرة القدم، مجموعات إسلامية مناهضة للرأسمالية، فنانون، مثقفون، ممثلون، موسيقيون، بالإضافة طبعاً إلى المستقلين». هكذا نشأت معارضة من نوع جديد في ميدان تقسيم. هي معارضة قاعدية اجتمعت على مناهضة سياسات حزب العدالة والتنمية، أكثر منها جبهة معارضة بالمفهوم التقليد، وهذا ما يؤكده ايركومنت الذي يشير إلى ان «الحراك الشعبي جمع التيارات المتناقضة كافة... لكن ذلك حدث في الشارع فقط!». وتشير اليكوتش إلى أن «هذا الحراك تشكل غير منظم، وحافظ على زخمه من دون أن يرتبط بتنظيم سياسي، وهو الآن يخرج سيطرة أي قوة سياسية، ويتخذ مسار التنظيم الذاتي». بذلك اتخذ ميدان تقسيم شكل ميدان التحرير في الأيام الثمانية عشر للثورة ضد حسني مبارك. «كل يحاول ان يساهم في الحراك بحسب قدرته بعيداً عن نظام التعاملات المالية: حضانات عامة للأطفال، مقاهي تقدم الطعام والشراب مجاناً، مستوصفات، نشاطات بيئية وزراعية، مكتبات، دروس مفتوحة، فرق موسيقية... الخ»، توضح الكيوتش، التي ترى أن المهم في الموضوع هو ان الحراك بات يحظى بتأييد الناس الجالسين في بيوتهم، «هكذا لم يعد غريباً مشهد أواني الطعام وأباريق الشراب متدلّية من نوافذ المنازل كل ليلة كشكل من أشكال الدعم للمتظاهرين». اخبار كهذه ربما تطمئن معارضي أردوغان، باعتبارها مؤشراً أولياً على أن الغالبية الصامتة، التي تشكل الحجر الزاوية في المعادلة السياسية التركية. مسار الحراك يتخذ الحراك منحى تصاعدياً مع شموله 71 من أصل 81 مدينة في تركيا. ولكن بحسب ايركومنت، فإنه من السابق لأوانه القول إن هذه التظاهرات هي انتفاضة شعبية. ويوضح «كي نكون واقعيين، نقول إن ما يجري هو أن الناس تعبر عن غضبها، أو أنها توجه إنذاراً جدّياً لاردوغان وحكومته». ويضيف «من الصعب ان نتوقع ما يمكن ان يجري في المستقبل. من الواضح ان الحكومة لن تستقيل بالنظر إلى طبيعة العلاقات التي تحكم الحياة السياسية في تركيا، لكنني أعتقد أن الأمور لن تجري كما كانت في السابق، فالشعب التركي بات يتمتع بثقة كبيرة في قدرته على كبح نزعة أردوغان الدكتاتورية». كذلك، تجد اليكوتش صعوبة في توقع السيناريوهات المستقبلية للحراك التركي، لكنها تشير إلى ان ثمة متغيرات عدة يجب أن تؤخذ في الاعتبار لدى البحث عن هذه السيناريوهات: 1- الحراك لم يعد مقتصراً على اسطنبول، كما كان الوضع في السابق، فهو يمتد إلى معظم المدن التركية، وإن بدرجات متفاوتة، ما يعني أن قوات الأمن باتت مشتتة على أكثر من جبهة، وبالتالي فإن قدرتها على وأد الحراك الشعبي قد باتت أكثر صعوبة، حتى ان حديقة جيزي قد باتت اليوم منطقة خالية من الشرطة. 2- المتظاهرون باتوا قادرين على التعبير عن رأيهم عبر وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، ما يعني أنهم باتوا قادرين على إيصال صوتهم لفئات المجتمع التركي كافة. 3- التواصل بين القوى السياسية كافة في الشارع بما يجعل من الممكن توحيد الصفوف في مواجهة أردوغان، في حال توافرت النية. 4-الطريق الذي ستسلكه الحكومة في التعامل مع الحراك الشعبي، وهنا يبرز احتمالان: فإمّا ان تختار المضي قدماً في استخدام العنف وتؤجج الغضب، وإما أن تقدّم التنازلات التي تدفع المتظاهرين إلى إخلاء الشارع وتكرس انتصاراً سياسياً لحركة الاحتجاج. حتى الآن لم يبد أردوغان رغبة في الحل، فهو ما زال مصرّاً على أن معارضيه «رعاع» و«لصوص». وفي المقابل فإن الزخم الذي اكتسبه الحراك الشعبي يدفع المعارضين على المضي في المعركة حتى نهاياتها... هكذا يبدو المشهد على النحو التالي: أردوغان يرفع شعار «لا تراجع» وميدان تقسيم يهدر بهتاف «لا استسلام». أين يقف الجيش؟ ومنذ اليوم الأول لحراك تقسيم أثيرت تساؤلات حول موقف الجيش مما يجري. يشير اركومنت إلى ان العلاقات بين المؤسسة العسكرية والنظام الإسلامي الحاكم شهدت صراعاً حاداً خلال السنوات الأولى لحكم «حزب العدالة والتنمية»، ولكن يبدو أن اردوغان قد نجح في تحييد الجيش عن الصراع الداخلي، وبالتالي فمن المستبعد جداً حدوث انقلاب عسكري، كما كان يجري في السابق، ولكن من المحتمل ان تحدث تشققات داخل الحزب الحاكم بين الثلاثي عبد الله غول (رئيس الدولة) ورجب طيب أردوغان، وبولاند ارينتش (نائب رئيس الحكومة). من جهته، يشير طارق حمو إلى أن «الجيش التركي لم يعبّر رسميا عن أي موقف من الحراك الشعبي. ولكن كان لافتا تقديم احدى ثكناته العسكرية القريبة من ميدان تقسيم كمامات للمتظاهرين الذين تعرضوا للغازات المسيلة للدموع التي اطلقتها قوات الامن». ويضيف «قد تكون هناك أجنحة في الجيش لديها مصالح في تآكل شعبية حزب العدالة والتنمية وتصعيد الحراك ضده، ولكن من المؤكد ان هذه الأجنحة لا تناصر المطاليب الديموقراطية للمتظاهرين» بدوره يقول نواف خليل إن «اردوغان تمكن خلال السنوات العشر الماضية، وبمساندة اميركية، من السيطرة على المؤسسة العسكرية، وقد عمد إلى تعيين نجدت اوزل رئيساً للأركان، وهو المعروف في الوسط الكردي بـ(نجدت الكيماوي)، بسبب استخدامه للاسلحة الكيميائية ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني، ولهذا لا اعتقد ان الجيش في وضع يمكنه من التحرك خارج ارادة رئيس الحكومة». ويختم «في كل الاحوال كان الجيش التركي دائما في طليعة القوى القامعة لأي تطلعات ديموقراطية للشعب التركي والكردي وعموم شعوب تركيا».

المصدر : السفير/وسام متى


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة