يليق برجب طيب اردوغان لقب السلطان. بعض من كتبوا عنه قالوا انه يريد ازالة كمال اتاتورك من الذاكرة، ومن التاريخ، ومن الساحات العامة، لتعود السلطنة ويتوّج هو "السلطان اردوغان الاول". اسم ملكي، لا شك في ذلك.

حين شاهد مسلسل "حريم السلطان"تماهى كليا مع الممثل الذي تقمص دور السلطان سليمان القانوني. ربما سأل ماذا لو كنت انا من لعب الدور، قبل ان يكتشف ان المسلسل يظهر ان سليمان الذي قال اردوغان انه ظل على حصانه (ولم يترجل) على مدى ثلاثين عاما انما كانت سلطنته الحقيقية في الحرملك، وتحديداً في الجناح الذي كانت تقيم فيه تلك الجارية الفاتنة التي انزعج اردوغان لانها لم تكن ترتدي الحجاب، ولان سحرها موزع بين شعرها وعينيها…

ساءه كثيراً ان الاتراك لم يتذكروا من السلطان سوى حريم السلطان، ولاحظ ان هاجس الاناقة يجمعه مع السلطان، وكان يتمنى لو ان المسلسل امّن التغطية التاريخية والسيكولوجية له لكي يقنع بني قومه باعادة صناعة العالم التركي الذي يشمل بطبيعة الحال العالم العربي الذي طالما تعاطى معه السلاطين على انه ولد في البادية ويموت في البادية..

مشكلة اردوغان في كونه منذ الطفولة يرى انه لا يشبه الآخرين. كان يقول لاترابه انه يشعر كما لو ان التاريخ يستوطن كل شيء فيه، لم يقل ان "الانا"تستوطن كل شيء فيه. والذين يناوئونه سياسياً، وثقافياً، يقولون انه "ميكافيلي بني عثمان".لا فارق عنده، لكي يصل، بين ان يمتطي ظهر الملائكة، او ظهر الدبابات، او ظهر الجماهير. ولقد وصل. لا احد سوى عدنان مندريس انتخب مثله ثلاث مرات. لا يريد البتة ان يتذكر ان الرجل الذي كان ذا نزعة (ونكهة) اسلامية انتهى على حبل المشنقة..

لا تتصوروا ان حلمه كان ان يقود ذلك العالم العربي الرث فحسب. كان يدرك ان القارة العجوز شاخت كثيرا، وان " تركيا الفتاة"لا تزال تركيا الفتاة.تنهض اقتصاديا وتنهض تاريخيا، وهي الموزعة على البحار الاربعة ( المتوسط، الاسود، ايجة، مرمرة). كان حلمه ان يقود العالم الاوروبي. ألم يكن هذا حلم محمد الفاتح حين فتح وهو ابن الثانية والعشرين القسطنطينية عام 1453؟ وكان هذا حلم سليمان الاول الذي راح يدق ابواب فيينا في عام 1529 قبل ان يقال ان الخيول العثمانية طربت للموسيقى التي كانت تنبعث من ارجاء المدينة فراحت ترقص على ابوابها بدل ان تقتحمها…

السلطان الآن في ازمة. اكتشف ان التاريخ الآخر الذي لا يحبه بدأ يلاحقه كما لو ان اتاتورك خرج من قبره وراح يقود الجماهير ثانية لخلع السلطان. ولا ريب انه ذهل ببعض التعليقات التي صدرت في اوروبا وفي اميركا والتي وصفته بالديكتاتور المرصع بالحرير، لا بل ان هذه التعليقات لاحظت كيف ان الثقافة العثمانية، او الثقافة الاتاتوركية، لا تزال متجذرة في المؤسسة السياسية والامنية في تركيا..

انه ريجيس دوبريه الذي قال ان اردوغان الذي "بذل جهوداً رائعة"من اجل تفكيك وجوه الجنرالات، تلك الوجوه المتجهمة التي كانت ترخي بظلالها على كل مفاصل الدولة، تغاضى قصداً عن اعادة هيكلة المؤسسة الامنية ثقافياً واخلاقياً لكي تكون جيشه الخاص في مواجهة كل من تسوّل له نفسه خلعه عن العرش.الجيش يراقب وقد ينقض في اي لحظة..

من زمان والهيئات الدولية المعنية تعترض على ما دعاه احد التقارير بـ"الهراوات البشرية". قد لا يكون هناك مكان في العالم، غير تركيا، يستخدم فيه رجال الشرطة كل ذلك العنف حتى في وجه فتاة كانت تقدم لهم الطعام او الحلوى. المشهد كان صاخباً ومريراً. ماذا كان يفعل المتظاهرون عندما لوحقوا بالهراوات وبالقنابل المسيلة للدموع وبخراطيم المياه التي هي اقرب ما تكون الى خراطيم الغاز؟ لعل بعضكم لاحظ كلام ذلك النائب المعارض التافه الذي ظهر على احدى الشاشات الراقية، وفي برنامج راق ايضا، والذي ابدى خشيته من ان يلجأ المتظاهرون الى الحجارة فيسيئوا الى البيئة..

غريب ان اردوغان لم يستخدم صواريخ الباتريوت ضد المتظاهرين. لم يكن المشهد لمصلحته ابداً. شاشات غريبة تهكمت وقالت ان اجزاء من الرجل قد انهارت في ساحة " تقسيم". استخدمت المصطلحات نفسها التي يؤخذ على الحكام العرب اللجؤ اليها كلما تململ الناس وطالبوا بكمية اضافية من الهواء "مؤامرة"، "تدخلات خارجية"، "عناصر مدسوسة". تابعوا مسلسل الاتهامات اذا ما استمرت التظاهرات، وعلى كل حال، وهذه ذروة المهزلة ثمة اقلام في لبنان راحت تتهم "النظام السوري"الغارق في صراع البقاء بالوقوف وراء احداث اسطنبول وغيرها من المدن التركية.

بغطرسة شديدة يتعاطى رجب طيب اردوغان مع العرب (هل من اخبار عن احمد داود اوغلو الذي لم يجلس هذه المرة الى جانب نبيل العربي؟ قلنا نبيل العثماني). انه رجل اسطنبول، اي رجل الدولة القوي بالجيش الحديث وبالاقتصاد العصري، وبالمؤسسات الديمقراطية. فجأة اكتشفنا واكتشف العالم ان ثمة سلطانا في داخل اردوغان كما كان في داخل جمال غورسيل وكنعان افرين، وصولاً الى كمال اتاتورك وعصمت اينونو…

اي ديمقراطية حين تكون لها اظلاف الذئاب؟
  • فريق ماسة
  • 2013-06-09
  • 9442
  • من الأرشيف

صواريخ الباتريوت ضد المتظاهرين

يليق برجب طيب اردوغان لقب السلطان. بعض من كتبوا عنه قالوا انه يريد ازالة كمال اتاتورك من الذاكرة، ومن التاريخ، ومن الساحات العامة، لتعود السلطنة ويتوّج هو "السلطان اردوغان الاول". اسم ملكي، لا شك في ذلك. حين شاهد مسلسل "حريم السلطان"تماهى كليا مع الممثل الذي تقمص دور السلطان سليمان القانوني. ربما سأل ماذا لو كنت انا من لعب الدور، قبل ان يكتشف ان المسلسل يظهر ان سليمان الذي قال اردوغان انه ظل على حصانه (ولم يترجل) على مدى ثلاثين عاما انما كانت سلطنته الحقيقية في الحرملك، وتحديداً في الجناح الذي كانت تقيم فيه تلك الجارية الفاتنة التي انزعج اردوغان لانها لم تكن ترتدي الحجاب، ولان سحرها موزع بين شعرها وعينيها… ساءه كثيراً ان الاتراك لم يتذكروا من السلطان سوى حريم السلطان، ولاحظ ان هاجس الاناقة يجمعه مع السلطان، وكان يتمنى لو ان المسلسل امّن التغطية التاريخية والسيكولوجية له لكي يقنع بني قومه باعادة صناعة العالم التركي الذي يشمل بطبيعة الحال العالم العربي الذي طالما تعاطى معه السلاطين على انه ولد في البادية ويموت في البادية.. مشكلة اردوغان في كونه منذ الطفولة يرى انه لا يشبه الآخرين. كان يقول لاترابه انه يشعر كما لو ان التاريخ يستوطن كل شيء فيه، لم يقل ان "الانا"تستوطن كل شيء فيه. والذين يناوئونه سياسياً، وثقافياً، يقولون انه "ميكافيلي بني عثمان".لا فارق عنده، لكي يصل، بين ان يمتطي ظهر الملائكة، او ظهر الدبابات، او ظهر الجماهير. ولقد وصل. لا احد سوى عدنان مندريس انتخب مثله ثلاث مرات. لا يريد البتة ان يتذكر ان الرجل الذي كان ذا نزعة (ونكهة) اسلامية انتهى على حبل المشنقة.. لا تتصوروا ان حلمه كان ان يقود ذلك العالم العربي الرث فحسب. كان يدرك ان القارة العجوز شاخت كثيرا، وان " تركيا الفتاة"لا تزال تركيا الفتاة.تنهض اقتصاديا وتنهض تاريخيا، وهي الموزعة على البحار الاربعة ( المتوسط، الاسود، ايجة، مرمرة). كان حلمه ان يقود العالم الاوروبي. ألم يكن هذا حلم محمد الفاتح حين فتح وهو ابن الثانية والعشرين القسطنطينية عام 1453؟ وكان هذا حلم سليمان الاول الذي راح يدق ابواب فيينا في عام 1529 قبل ان يقال ان الخيول العثمانية طربت للموسيقى التي كانت تنبعث من ارجاء المدينة فراحت ترقص على ابوابها بدل ان تقتحمها… السلطان الآن في ازمة. اكتشف ان التاريخ الآخر الذي لا يحبه بدأ يلاحقه كما لو ان اتاتورك خرج من قبره وراح يقود الجماهير ثانية لخلع السلطان. ولا ريب انه ذهل ببعض التعليقات التي صدرت في اوروبا وفي اميركا والتي وصفته بالديكتاتور المرصع بالحرير، لا بل ان هذه التعليقات لاحظت كيف ان الثقافة العثمانية، او الثقافة الاتاتوركية، لا تزال متجذرة في المؤسسة السياسية والامنية في تركيا.. انه ريجيس دوبريه الذي قال ان اردوغان الذي "بذل جهوداً رائعة"من اجل تفكيك وجوه الجنرالات، تلك الوجوه المتجهمة التي كانت ترخي بظلالها على كل مفاصل الدولة، تغاضى قصداً عن اعادة هيكلة المؤسسة الامنية ثقافياً واخلاقياً لكي تكون جيشه الخاص في مواجهة كل من تسوّل له نفسه خلعه عن العرش.الجيش يراقب وقد ينقض في اي لحظة.. من زمان والهيئات الدولية المعنية تعترض على ما دعاه احد التقارير بـ"الهراوات البشرية". قد لا يكون هناك مكان في العالم، غير تركيا، يستخدم فيه رجال الشرطة كل ذلك العنف حتى في وجه فتاة كانت تقدم لهم الطعام او الحلوى. المشهد كان صاخباً ومريراً. ماذا كان يفعل المتظاهرون عندما لوحقوا بالهراوات وبالقنابل المسيلة للدموع وبخراطيم المياه التي هي اقرب ما تكون الى خراطيم الغاز؟ لعل بعضكم لاحظ كلام ذلك النائب المعارض التافه الذي ظهر على احدى الشاشات الراقية، وفي برنامج راق ايضا، والذي ابدى خشيته من ان يلجأ المتظاهرون الى الحجارة فيسيئوا الى البيئة.. غريب ان اردوغان لم يستخدم صواريخ الباتريوت ضد المتظاهرين. لم يكن المشهد لمصلحته ابداً. شاشات غريبة تهكمت وقالت ان اجزاء من الرجل قد انهارت في ساحة " تقسيم". استخدمت المصطلحات نفسها التي يؤخذ على الحكام العرب اللجؤ اليها كلما تململ الناس وطالبوا بكمية اضافية من الهواء "مؤامرة"، "تدخلات خارجية"، "عناصر مدسوسة". تابعوا مسلسل الاتهامات اذا ما استمرت التظاهرات، وعلى كل حال، وهذه ذروة المهزلة ثمة اقلام في لبنان راحت تتهم "النظام السوري"الغارق في صراع البقاء بالوقوف وراء احداث اسطنبول وغيرها من المدن التركية. بغطرسة شديدة يتعاطى رجب طيب اردوغان مع العرب (هل من اخبار عن احمد داود اوغلو الذي لم يجلس هذه المرة الى جانب نبيل العربي؟ قلنا نبيل العثماني). انه رجل اسطنبول، اي رجل الدولة القوي بالجيش الحديث وبالاقتصاد العصري، وبالمؤسسات الديمقراطية. فجأة اكتشفنا واكتشف العالم ان ثمة سلطانا في داخل اردوغان كما كان في داخل جمال غورسيل وكنعان افرين، وصولاً الى كمال اتاتورك وعصمت اينونو… اي ديمقراطية حين تكون لها اظلاف الذئاب؟

المصدر : الديار/ نبيه البرجي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة