دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
مجدّداً يعود الأوروبيّون إلى مقولة «أهمية استقرار لبنان»؛ وهي المقولة التي روّجوا لها بنسب حماسة متفاوتة خلال العامين الماضيين. هذه المرّة، السبب هو دور هذا البلد كمنصّة لعمل شركاتهم في إعادة إعمار سورية. الجائزة الكبرى هي عقود بمليارات الدولارات. وجود لبنان محوري في المعادلة نظراً إلى خبرته الطويلة في النهوض من النزاعات وفي ارتباطه العضوي بجاره البري
تتنوّع السيناريوهات الخاصّة بأفق سوريا بعد انتهاء أحداثها المأسويّة؛ المشترك بينها هو أنّها أضحت تُطرح بقوّة في هذه الآونة. لوهلة أمس، بدا أنّ المعطيات تفيد بنهاية قريبة لاحتراب أهلي مستمرّ منذ أكثر من عامين، راح ضحيته زهاء مئة ألف قتيل. في منطقة القصير، كانت المعطيات الميدانية تُفيد بـ«حسم لصالح النظام» وتزامنت مع حديث صريح وواضح في بيروت عن بدء التحضيرات لمرحلة ما بعد الحرب.
المناسبة كانت لقاءً نظّمه معهد باسل فليحان المالي والاقتصادي بعنوان جريء: «أفق وفرص النمو ما بعد الحرب في لبنان وسوريا» في إطار «برنامج اللقاءات المتخصصة في التنمية الاقتصادية في البلدان المحيطة بالبحر الأبيض المتوسط».
اللافت في الحدث هو مشاركة سفراء ثلاثة بلدان أوروبية كبرى مؤثّرة في السياسة الدوليّة وفي منطقة المتوسط تحديداً: فرنسا، إيطاليا وإسبانيا. مشاركة تشي بحماسة أوروبية واضحة لمرحلة مرتقبة ربما أضحت قريبة.
تُفيد الأجواء التي يُمكن التقاطها بأنّه يجب التفكير استباقياً بمرحلة ما بعد الحرب الدائرة، مع العلم بأنّ توقف الأعمال العسكرية والاضطرابات المختلفة هو شرط أساسي للحديث في التفاصيل. يشدّد الأوروبيون على أهمية لبنان كمركز لمساعدة سوريا في بناء المرحلة المقبلة، فهو سيكون له دور كبير حينها ولكن عليه بناء قدراته ليكون مركزاً فعلياً تنطلق منه الشركات في مغامراتها السورية.
ووفقاً للسفير الفرنسي، باتريك باولي، فإنّ لبنان يعاني من الأزمة السورية حالياً «ولكن سيكون له دور في المرحلة التي ستليها في إعادة إعمار سوريا». يُشدّد هذا الدبلوماسي على ضرورة التحضير لتلك المرحلة منذ الآن «وفق نظرة إقليمية شاملة» والشروع في البحث في آفاق ما بعد الحرب.
المسائل بالنسبة الى الفرنسيين لا تنحصر بدور لبنان المحوري بعد انتهاء الحرب، بل باستفادة اقتصادية وطنية من رحم الدمار السوري. يؤكّد باتريك باولي أنّ الشركات الفرنسية «ستبقى حاضرة بقوة في لبنان وتستعد للمرحلة المقبلة انطلاقاً من إيمانها بالفرص المستقبلية». شرط هكذا نشاط، برأيه، هو توافر الاستقرار في لبنان وضرورة أن ينتظم عمل المؤسسات في هذا البلد «بحيث يستطيع المجتمع الدولي العمل معها لمساعدة لبنان على احتواء آثار الأزمة».
حالياً، يُشغّل الخبراء من المنطقة والعالم الآلات الحاسبة ويُدخلون المعطيات في النماذج الرياضية ترقباً للمرحلة المنتظرة. ووفقاً لأرقام عرضتها سلمى صبرا من البنك اللبناني الفرنسي في سوريا، فإنّ كلفة إعادة الإعمار في سوريا ستراوح بين 65 مليار دولار و100 مليار دولار إذا انتهت الأزمة عام 2015.
يُذكر هنا أنّ كبير الخبراء في منظمة «إسكوا»، عبد الله الدردري – وهو شغل سابقاً نائب رئيس مجلس الوزراء السوري للشؤون الاقتصادية – أشار أخيراً إلى أنّ الأضرار التي لحقت بالاقتصاد السوري خلال عامين من الأزمة بلغت 60 مليار دولار.
ويُشير أحد المصرفيين المشاركين في اللقاء إلى حماسة الأوروبيين لهذه الجائزة: «لا شكّ أنّ البلدان الأوروبية يهمها جداً أن تُطلق العنان لشركات المقاولات والبناء التي تتميز بها والتي لا تجد أشغالاً في اقتصاد أوروبا الراكد: ولذا هي فرصة مهمة لهم لتأمين وظائف لعمال القارة العجوز». غير أنّه يستطرد في الوقت نفسه: «رغم هذه التطلعات ورصد الفرص، أعتقد أننا نبقى بعيدين عن استقرار مقنع في سوريا».
بالفعل، فإنّ أوروبا تستمرّ هذا العام بتسجيل الأرقام الحمراء. بحسب آخر تقدير لصندوق النقد الدولي، فإنّ اقتصاد منطقة اليورو – وتضمّ 17 بلداً وتمثّل معظم ثقل أوروبا – سيتقلّص بنسبة 0.3% في العام الحالي؛ وحتّى في عام 2014 لن يتجاوز النمو 1.1%.
اقتصادات فرنسا وإيطاليا وإسبانيا جميعها ستُسجّل تقلصاً خلال العام الجاري. وهي الأكبر في القارة العجوز بعد المحرّكات الألمانية.
«طبعاً، نحن نتحضّر لمرحلة إعادة الإعمار، ولكن أنا شخصياً لا أحمل أي خطّة في جعبتي!» يتحدّث السفير الفرنسي ضاحكاً في معرض الإجابة عن سؤال حول تطلعات بلاده إلى مرحلة ما بعد الحرب. «ولكن لا شكّ أنّ الشركات (الأوروبية) ترصد الفرص المتاحة وتتهيّأ لها».
ووفقاً لسفيرة إسبانيا ميلاغروس هرناندو، «من المهم أن تستفيد الدول الأخرى من خبرة لبنان في مرحلة ما بعد النزاع ومن كيفية إدارة لبنان في العامين الأخيرين لنتائج النزاع في سوريا وانعكاساته». برأيها «من الأهمية بمكان استكمال مأسسة الدولة في لبنان». هذه المأسسة ضرورة «لكي يعود لبنان مركز التقاء للمنطقة» على حدّ تعبير السفير الإيطالي جوزيبي مورابيتو.
هذه المعطيات لا تُغري فقط الشركات والبلدان الأوروبية، بل الشركات اللبنانية أيضاً وتحديداً المصارف. السؤال هو: ما هي الفرص المتاحة؟ أمّا الجواب فيتشعّب كثيراً وصولاً إلى كيفيّة صياغة نماذج أعمال جديدة _ الصيرفة والتأمين وفقاً للشريعة الإسلامية مثلاً _ وخصوصاً أنّ سوريا لم تكن قد استغلّت كل مقوّماتها خلال «عقد الإصلاحات الاقتصادية» الذي سبق أحداثها المأسوية.
لعلّ المصارف هي الأولى القادرة على رصد الفرص. فالبنوك اللبنانية التي انتشرت في سوريا منذ النصف الأول من العقد الماضي بقيت هناك، رغم الأحداث الدراماتيكية التي تمرّ بها البلاد منذ آذار 2011. ووفقاً للخبراء الذين قدّموا تحليلاتهم أمس، تستمرّ المصارف بالعمل هناك حالياً، وإن بمستوى منخفض وحتّى التجميد _ وتحديداً على صعيد جذب الودائع وتحرير القروض _ لأنّ ثمن الخروج من هناك خلال الأحداث والعودة بعد الاستقرار يُعدّ أكبر بكثير من البقاء وتحمّل بعض الخسائر الآنيّة.
ولكن لنترك تطلّعات الأوروبيين لدور لبنان المرتقب وحرصهم على استقراره، هم يثيرون مسألة مهمّة أخرى: على لبنان أن يُرتّب شؤونه ومقوّماته في المرحلة الانتقالية هذه، وتحديداً على صعيد البنى التحتية والمقومات الاستثمارية.
تُعدّ هذه مسألة بمنتهى الصعوبة نظراً إلى الاستقطاب السياسي الحاد، لدرجة أنّ المجلس النيابي يجري التمديد له، فيما تشكيل الحكومة يبدو موضوعاً في الأدراج إلى أجل غير محسوب حتّى الآن.
يُثير المهتمّون بآفاق سوريا/ لبنان في المرحلة المقبلة مسائل كثيرة على هذا المستوى؛ والإجابة عنها تتضمّن أيضاً سرداً للمعوقات التي يعاني منها لبنان بدوره، أكانت تقنية، إقليمية أم سياسية محلية بحتة.
ووفقاً لوزير المال محمّد الصفدي، فإنّ «غياب القرار الجازم لإصلاح قطاع الكهرباء مثلاً في العقدين الماضيين يعود لأسباب تبقى حتّى الآن غير واضحة»، في إشارة إلى أنّه لا مبرّر منطقياً لكي يبقى لبنان بعد عشرين عاماً على انتهاء الحرب من دون كهرباء مستدامة ويعاني من نقص في التيار يصل إلى 50% في أوقات الذروة.
يعود هذا الوضع بطبيعة الحال إلى مآسي السياسة وغياب الحوكمة والفساد، وهي أسباب يتجنّب الوزير ذكرها. ولكن في المقابل يتحدّث عن معطيات موضوعية خذلت السلطة حتّى عندما صمّم ماسكوها على فعل شيء مفيد. «استثمرنا في خط الغاز العربي لاستجرار الغاز الطبيعي إلى معامل الطاقة وخفض كلفة الإنتاج. ولكن لم تكد تمر ثلاثة أشهر على التدفّق، حتّى أوقف الجانب المصري الضخ».
ولكن، ماذا عن المجالات الأخرى في قطاع البنى التحتية التي يُفترض أن تؤمّن تلك «المنصة اللبنانية» الشهيرة الموعودة؟ المشكلة نفسها تسود، كما يشرح الوزير، المياه، السدود، النقل، الطرقات – وحتّى الاتصالات، وهو القطاع المهم الذي لم يذكره – جميعها عانت ولا تزال من بطء تنفيذ المشاريع بسبب المشاكل السياسية.
«لقد أطلقنا عجلة العديد من مشاريع البنى التحتية» خلال المرحلة الماضية، تابع الوزير، غير أنّه أشار إلى أنّ قدرة لبنان حالياً «مرهقة» وتحديداً على المستوى المالي، بسبب أزمة النموذج المعتمد على تدفقات الأموال والأشخاص من الخارج؛ وهو نموذج يتأثّر بسهولة بالاضطرابات، فكيف إذا كانت عند المستوى المسجّل إقليمياً في هذه المرحلة؟
أحد التأثيرات الكبيرة على مقوّمات لبنان وقدراته هو تدفّق اللاجئين السوريين. «وفقاً للأرقام الرسمية التي تستند إلى عدد المسجّلين مع المنظمات الدولية للحصول على مساعدات، يبلغ عدد اللاجئين 500 ألف لاجئ»، ولكن في الواقع «ارتفع عدد السوريين إلى 1.5 مليون»، يشرح محمد الصفدي. إذا اعتمدنا المعطيات القائمة، يكون عدد سكان لبنان قد ارتفع إلى 5.5 ملايين نسمة بالحد الأدنى، ما يزيد الضغوط على البنى التحتية.
وتتضخّم مشكلة اللاجئين السوريين في لبنان لسببين: الأوّل يوضحه وزير المال: الاتفاقات القائمة بين البلدين تسمح للنازحين بالسكن والعمل في لبنان، وبالتالي لا يمكن إطلاق تسمية لاجئين عليهم، بل يمكن اعتبارهم نازحين. هكذا يُصنّف نصف مليون فقط على أنّهم لاجئون كونهم قدموا مباشرة طلبات للحصول على مساعدات. «هذه الإشكالية في شأن التسمية تحول دون حصولنا على مساعدات من المنظمات الدولية، ولذلك طلبنا دعم الموازنة اللبنانية لنتمكن من تغطية كلفة استضافة هذه الأعداد الكبيرة من النازحين».
أما السبب الثاني، فيُضيء عليه باتريك باولي: صحيح أنّ نزوح السوريين إلى لبنان كان له إيجابيات في البداية على الاقتصاد، لجهة زيادة الاستهلاك، وتنشيط القطاع العقاري، إلا أنّ الآثار السلبية لما يحدث في سوريا، ومنها تراجع السياحة والاستثمارات، واستنزاف البنية التحتية.
على أي حال، يبقى «الاستقرار» هو كلمة السرّ اللبنانية لصوغ معالم المرحلة المقبلة. يُمكن الاعتماد عليه للانطلاق في «إعادة البناء (في سوريا) على أرضية عملية الديموقراطية، وعلى أرضية سلسلة من مشاريع البنى التحتيّة الحيوية» بحسب محمد الصفدي. هكذا انطلاقة «ستساهم في إعادة أموال المغتربين السوريين إلى بلدهم، وهو ما سيسرّع عمليّة التعافي الاقتصادي».
يرى الوزير أنّ «من مصلحة لبنان أن تكون سوريا بلداً مستقراً ومزدهراً، والعكس صحيح». نظرته الوردية هي أنّ «الحرب في سوريا ستتوقّف في نهاية المطاف، لذلك من المفيد أن تبدأ الأعمال التحضيرية لإطلاق النمو وإعادة الإعمار».
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة