المعركة الشرسة الدائرة حاليا حول مدينة القصير الاستراتيجية قرب الحدود اللبنانية وبوابة الشمال الساحلي السوري تجسّد نموذجا مصغّرا للواقع على الأرض، حيث هناك جبهتان متقابلتان، الأولى تمثل النظام السوري مدعوما بمقاتلين من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله ومتطوعين عراقيين من أحزاب وميليشيات شيعية، والثانية الجيش الحر وجماعات جهادية إسلامية ومتطوعون لبنانيون وعرب سنة.

الحسم النهائي لم يتحقق بعد، تماما مثل الحرب السورية الأشمل، والتعزيزات تتواصل إلى الجانبين، لأن من يكسب هذه المعركة قد يقترب من الحسم النهائي، ويحقق مكاسب سياسية في مؤتمر جنيف الثاني، الذي من المقرر أن يعقد في منتصف الشهر المقبل بحضور ممثلي النظام والمعارضة معا، ورعاية القطبين الدوليين روسيا والولايات المتحدة.

الجيش السوري يتقدم حسب معظم التقارير الإعلامية المدعومة ببيانات رسمية، وهناك مجموعة من المقاتلين محاصرة من قبل قواته، والأمر قد ينتهي بمواجهة ربما أكثر دموية من كل المواجهات السابقة، لكن من الواضح، ومن خلال ‘الصمت الإعلامي’، وغياب ‘شهود العيان’، أن هناك من يريد هذه المجزرة، أو لا يعارضها سرا وعلنا، لسبب بسيط، لأن نسبة كبيرة من المقاتلين المحاصرين هم من جبهة النصرة والجماعات الجهادية الأخرى.

الآلة الإعلامية لحزب الله اللبناني تتحدث بإسهاب عن وجود أعداد كبيرة من الكويتيين والسعوديين والقطريين والجزائريين والتونسيين واللبنانيين كانوا من بين المقاتلين الذين جرى أسرهم في مدينة القصير إلى جانب السوريين طبعا، في إيحاء مباشر إلى كون الجماعات الجهادية هي التي كانت تسيطر على المدينة، وان الحرب الحالية جاءت من اجل القضاء عليها.

المشهد السوري تتغير معادلاته وتحالفاته بسرعة مخيفة هذه الأيام، وأبرز هذه التغيرات تقدم الجماعات الجهادية إلى مركز العدو الأول بالنسبة إلى الدول الكبرى، وتراجع نظام الرئيس الأسد إلى العدو الأول مكرر، وفي أفضل الأحوال العدو الثاني.

هذا هو التفسير الأوحد لسلسلة التراجعات التي يقدم عليها حاليا المعسكر الغربي العربي المعادي له في الأسابيع الأخيرة، وبدأت تصيب المعارضة السورية بالإحباط والاكتئاب، لدرجة التهديد بعدم المشاركة في اجتماعات أصدقاء الشعب السوري المنعقدة حاليا في عمان، أو المؤتمر الدولي نفسه لأنها باتت تشعر بالخديعة والخذلان.

صحيفة ‘الصباح’ التركية المقربة من حكومة السيد رجب طيب اردوغان، أحد ابرز الصقور في معسكر المعارضة للرئيس بشار الأسد ونظامه، نشرت أمس تفاصيل خطة عمل تتبناها هذه الحكومة وتريدها أن تكون خريطة طريق تتصدر جدول أعمال مؤتمر جنيف المقبل. وابرز أفكار هذه الخطة تسليم الرئيس الأسد صلاحياته كاملة لحكومة انتقالية يشكلها النظام والمعارضة، مقابل السماح له، أي الرئيس الأسد، بالبقاء في سورية وخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة في منتصف العام المقبل.

هذه الخطة جرى التوصل إليها وصياغة تفاصيلها بعد زيارة السيد اردوغان إلى واشنطن، ولقائه مع الرئيس باراك اوباما، وسيطير بها السيد أردوغان إلى موسكو الأسبوع المقبل، وطار بها السيد احمد داوود اوغلو مهندس سياسته الخارجية إلى مؤتمر أصدقاء سورية في عمان.

ما يؤكد هذه الخطة أن الحكومة التركية لم تنفها مطلقا، بل لا نبالغ إذا قلنا أنها أقدمت على تسريبها متعمدة، والأمر الثاني أن الهدف من انعقاد مؤتمر أصدقاء سورية في العاصمة الأردنية هو الإعداد لمؤتمر جنيف الثاني، وفك الغموض المتعلق بنتائج وقرارات اجتماع جنيف الأول. والمقصود هنا مستقبل الرئيس السوري ودوره في التسوية السياسية.

الفارق شاسع بين إعلان أبوظبي الذي صدر عن اجتماع وزراء خارجية ست دول عربية وإسلامية (مصر، السعودية، قطر، الأردن، الإمارات وتركيا) في 14 من الشهر الحالي، وهو الإعلان الذي أكد أنه لا مكان للرئيس الأسد في سورية المستقبل. وهو تراجع أسرع مما توقعه أكثر المتفائلين في دمشق نفسها.

اليوم يقولون ببقاء الرئيس الأسد بلا صلاحيات في القصر، وأن يخوض الانتخابات، وغدا يحتفظ ببعضها، وبعد غد كلها، فالعرض التركي هو أرضية أولية للتفاوض، قبل وأثناء وبعد مؤتمر جنيف الثاني، ألم يبدأوا الأزمة بالتأكيد مرارا أن الرئيس السوري رئيس غير شرعي، وان أيامه في السلطة معدودة، وتسابق البعض منهم على توفير ملاذات آمنة له ولعائلته.

هناك أربع نقاط تحــــوّل أساسية فرضــــت هذا التراجع، الأولى صمود الجيش والنظام السوريين وتحقيقهما مكاسب على الأرض، والثانية الدعم الروسي المفتوح بما في ذلك تـــزويد دمشـــق بأسلحة وصــــواريخ حديثة جوية وبحـــرية، والــثالثة تردد الغرب في تسليح المعارضة بأسلحة متطـــورة خوفا من وقوعها في أيدي الجماعات الجهادية، والرابعة الغارات الإسرائيلية على سورية، وقرار حاسم للنظام بالرد عليها فورا وفتح جبهة الجولان، الأمر الذي أثار مخاوف من احتمالات اشتعال حرب كبرى في المنطقة.

باختصار شديد نقول أن اتفاقا تمّ بين روسيا وواشنطن ودول الجوار السوري على وضع القضاء على الجماعات الجهادية على قمة الأولويات باعتبارها الخطر الأكبر على الجميع، وإسرائيل خاصة، في حال تحوّل سورية إلى دولة فاشلة، وملامح هذا الاتفاق تبلورت أثناء زيارة جون كيري وزير الخارجية الأمريكي إلى موسكو ولقائه مع الرئيس بوتين.

التوصيف الأنسب والأقوى لكل ما يجري حاليا في سورية هو ‘الخديعة الكبرى’ التي تعرض لها الشعب السوري، وتتوالى فصولها حاليا، وربما يكون فصلها الأخير تدمير هذا البلد وإنهاك جيشه، تماما مثلما جرى تدمير العراق وجيشه، وتكبيل الجيش المصري بمعاهدات السلام وربطه عضويا بالمساعدات العسكرية الأمريكية.

  • فريق ماسة
  • 2013-05-22
  • 10108
  • من الأرشيف

الأسد باقٍ .. بمبادرة تركية

المعركة الشرسة الدائرة حاليا حول مدينة القصير الاستراتيجية قرب الحدود اللبنانية وبوابة الشمال الساحلي السوري تجسّد نموذجا مصغّرا للواقع على الأرض، حيث هناك جبهتان متقابلتان، الأولى تمثل النظام السوري مدعوما بمقاتلين من الحرس الثوري الإيراني وحزب الله ومتطوعين عراقيين من أحزاب وميليشيات شيعية، والثانية الجيش الحر وجماعات جهادية إسلامية ومتطوعون لبنانيون وعرب سنة. الحسم النهائي لم يتحقق بعد، تماما مثل الحرب السورية الأشمل، والتعزيزات تتواصل إلى الجانبين، لأن من يكسب هذه المعركة قد يقترب من الحسم النهائي، ويحقق مكاسب سياسية في مؤتمر جنيف الثاني، الذي من المقرر أن يعقد في منتصف الشهر المقبل بحضور ممثلي النظام والمعارضة معا، ورعاية القطبين الدوليين روسيا والولايات المتحدة. الجيش السوري يتقدم حسب معظم التقارير الإعلامية المدعومة ببيانات رسمية، وهناك مجموعة من المقاتلين محاصرة من قبل قواته، والأمر قد ينتهي بمواجهة ربما أكثر دموية من كل المواجهات السابقة، لكن من الواضح، ومن خلال ‘الصمت الإعلامي’، وغياب ‘شهود العيان’، أن هناك من يريد هذه المجزرة، أو لا يعارضها سرا وعلنا، لسبب بسيط، لأن نسبة كبيرة من المقاتلين المحاصرين هم من جبهة النصرة والجماعات الجهادية الأخرى. الآلة الإعلامية لحزب الله اللبناني تتحدث بإسهاب عن وجود أعداد كبيرة من الكويتيين والسعوديين والقطريين والجزائريين والتونسيين واللبنانيين كانوا من بين المقاتلين الذين جرى أسرهم في مدينة القصير إلى جانب السوريين طبعا، في إيحاء مباشر إلى كون الجماعات الجهادية هي التي كانت تسيطر على المدينة، وان الحرب الحالية جاءت من اجل القضاء عليها. المشهد السوري تتغير معادلاته وتحالفاته بسرعة مخيفة هذه الأيام، وأبرز هذه التغيرات تقدم الجماعات الجهادية إلى مركز العدو الأول بالنسبة إلى الدول الكبرى، وتراجع نظام الرئيس الأسد إلى العدو الأول مكرر، وفي أفضل الأحوال العدو الثاني. هذا هو التفسير الأوحد لسلسلة التراجعات التي يقدم عليها حاليا المعسكر الغربي العربي المعادي له في الأسابيع الأخيرة، وبدأت تصيب المعارضة السورية بالإحباط والاكتئاب، لدرجة التهديد بعدم المشاركة في اجتماعات أصدقاء الشعب السوري المنعقدة حاليا في عمان، أو المؤتمر الدولي نفسه لأنها باتت تشعر بالخديعة والخذلان. صحيفة ‘الصباح’ التركية المقربة من حكومة السيد رجب طيب اردوغان، أحد ابرز الصقور في معسكر المعارضة للرئيس بشار الأسد ونظامه، نشرت أمس تفاصيل خطة عمل تتبناها هذه الحكومة وتريدها أن تكون خريطة طريق تتصدر جدول أعمال مؤتمر جنيف المقبل. وابرز أفكار هذه الخطة تسليم الرئيس الأسد صلاحياته كاملة لحكومة انتقالية يشكلها النظام والمعارضة، مقابل السماح له، أي الرئيس الأسد، بالبقاء في سورية وخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة في منتصف العام المقبل. هذه الخطة جرى التوصل إليها وصياغة تفاصيلها بعد زيارة السيد اردوغان إلى واشنطن، ولقائه مع الرئيس باراك اوباما، وسيطير بها السيد أردوغان إلى موسكو الأسبوع المقبل، وطار بها السيد احمد داوود اوغلو مهندس سياسته الخارجية إلى مؤتمر أصدقاء سورية في عمان. ما يؤكد هذه الخطة أن الحكومة التركية لم تنفها مطلقا، بل لا نبالغ إذا قلنا أنها أقدمت على تسريبها متعمدة، والأمر الثاني أن الهدف من انعقاد مؤتمر أصدقاء سورية في العاصمة الأردنية هو الإعداد لمؤتمر جنيف الثاني، وفك الغموض المتعلق بنتائج وقرارات اجتماع جنيف الأول. والمقصود هنا مستقبل الرئيس السوري ودوره في التسوية السياسية. الفارق شاسع بين إعلان أبوظبي الذي صدر عن اجتماع وزراء خارجية ست دول عربية وإسلامية (مصر، السعودية، قطر، الأردن، الإمارات وتركيا) في 14 من الشهر الحالي، وهو الإعلان الذي أكد أنه لا مكان للرئيس الأسد في سورية المستقبل. وهو تراجع أسرع مما توقعه أكثر المتفائلين في دمشق نفسها. اليوم يقولون ببقاء الرئيس الأسد بلا صلاحيات في القصر، وأن يخوض الانتخابات، وغدا يحتفظ ببعضها، وبعد غد كلها، فالعرض التركي هو أرضية أولية للتفاوض، قبل وأثناء وبعد مؤتمر جنيف الثاني، ألم يبدأوا الأزمة بالتأكيد مرارا أن الرئيس السوري رئيس غير شرعي، وان أيامه في السلطة معدودة، وتسابق البعض منهم على توفير ملاذات آمنة له ولعائلته. هناك أربع نقاط تحــــوّل أساسية فرضــــت هذا التراجع، الأولى صمود الجيش والنظام السوريين وتحقيقهما مكاسب على الأرض، والثانية الدعم الروسي المفتوح بما في ذلك تـــزويد دمشـــق بأسلحة وصــــواريخ حديثة جوية وبحـــرية، والــثالثة تردد الغرب في تسليح المعارضة بأسلحة متطـــورة خوفا من وقوعها في أيدي الجماعات الجهادية، والرابعة الغارات الإسرائيلية على سورية، وقرار حاسم للنظام بالرد عليها فورا وفتح جبهة الجولان، الأمر الذي أثار مخاوف من احتمالات اشتعال حرب كبرى في المنطقة. باختصار شديد نقول أن اتفاقا تمّ بين روسيا وواشنطن ودول الجوار السوري على وضع القضاء على الجماعات الجهادية على قمة الأولويات باعتبارها الخطر الأكبر على الجميع، وإسرائيل خاصة، في حال تحوّل سورية إلى دولة فاشلة، وملامح هذا الاتفاق تبلورت أثناء زيارة جون كيري وزير الخارجية الأمريكي إلى موسكو ولقائه مع الرئيس بوتين. التوصيف الأنسب والأقوى لكل ما يجري حاليا في سورية هو ‘الخديعة الكبرى’ التي تعرض لها الشعب السوري، وتتوالى فصولها حاليا، وربما يكون فصلها الأخير تدمير هذا البلد وإنهاك جيشه، تماما مثلما جرى تدمير العراق وجيشه، وتكبيل الجيش المصري بمعاهدات السلام وربطه عضويا بالمساعدات العسكرية الأمريكية.

المصدر : القدس العربي /عبد الباري عطوان


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة