أتمنى أن أرى ما أريد، وما أتمنى: مجتمعاً سورياً متجانساً بالمحبة والتعاطف والإحساس بالمصير المشترك، وأن الوطن للجميع.

لكن للأسف كل يوم أدرك هول الشرخ والانقسام بين السوريين. ففي بداية الأحداث السورية، كان السوريون يختلفون في الأفكار وتفسير ما يحصل على أرض الوطن، وكانت الخلافات تصل حد الشجار الحاد وتبادل التهم والتخوين، وتصل في كثير من الأحيان إلى القطيعة حتى بين الاخوة. وأعرف العديد من الاخوة حلّت بينهم القطيعة التامة بسبب خلافاتهم السياسية وقراءة الوجع السوري.

لكن ما يقلقني لدرجة الذعر منذ أشهر، أن حس التعاطف الإنساني بين شريحة واسعة من السوريين ومواطنيهم قد ضمر وجف تماماً! وأظن أن بذرة الحرب الأهلية تكمن في انعدام التعاطف الإنساني بين أبناء وطن واحد، وطن ينزف أبناؤه منذ أكثر من عامين، وطن يدمّر بوحشية وضمير العالم مخدّر.

أحب أن أعطي بعض الأمثلة لأصدق دليل على انعدام الحس الإنساني بين شريحة واسعة من السوريين:

خلال عملي كطبيبة عيون في اللاذقية فإنني أفحص الكثير من الأحبّة السوريين النازحين من مناطق مختلفة، خاصة من حلب وإدلب ومعرة النعمان وقرية سلمى ومن حمص ودمشق أيضاً. وكل نازح من هؤلاء الأحبّة له قصة مأساوية تنافس قصص إخوته النازحين، هؤلاء تهدمت بيوتهم وفقدوا أمانهم وكرامتهم وانكسرت قلوبهم حزناً على أحبة ماتوا... وما أكثر تنويعات الموت في سوريا التي صار من الضروري أن تحضر عليها أطروحات جامعية مبتكرة، كما يبتكر الموت طرقه في سوريا. وقد صار كل مواطن سوري خبيراً في أنواع الأسلحة والصواريخ.

ما يروّعني فعلاً وجود فئة كبيرة من زملائي الأطباء والممرضات لا يتعاطفون على الإطلاق مع هؤلاء النازحين ـ إخوتهم في الإنسانية وشركائهم في الوطن. ذات مرة اضطررت أن أصرخ في وجه ممرضة وأقول لها: ألم تسمعي ما قلته لك مراراً بأن تأخذي القدرة البصرية لفلانة؟ وكانت المريضة نازحة من حلب، في عينيها حزن هائل يفطر القلب وهي تحكي أنها لاحظت أن نظرها ضعف كثيراً بعد ان شاهدت بيتها يدمر أمامها. كنت متأكدة ان الممرضة ذاتها تسمع ما أطلبه منها وتتجاهله عمداً، وانزعجت من تقريعي لها، فاقتربت مني ونظرت إليّ بقسوة قائلة: قبل أن تعطيني درساً في الإنسانية دكتورة اسألي تلك المرأة أين زوجها؟! صعقت وسألت الممرضة: وما يهمني أين زوجها! أصلاً أنا لا يخطر ببالي أن أسأل عن زوجها، فأمامي مريضة وأخت من وطني الحبيب، من واجبي أن أتعاطف معها وأقدم لها كل مساعدة. فردت الممرضة بقسوة: لكن أنا أكرهها لأن زوجها مع الإرهابيين. عجبت حقاً لتلك الثقة التي تتحدث بها الممرضة، وقلت لها، متعمدة أن أوصل لها استنكاري لكلامها: وكيف عرفت؟ قالت: انظري إلى شكلها. كانت المرأة غاطسة في الأسود من رأسها حتى أخمص قدميها، ولم أجد في هذا السواد سوى حزن عميق وهائل ليس على بيتها الذي دمر، ونزوحها الذي بعثر إحساسها بالكرامة والمواطنة فقط، بل لأنها ترى الرفض والكره في عيون وسلوك الكثيرين من قساة القلوب والمتخلفين، كتلك الممرضة التي يفترض أن تكون إنسانية.

كيف يمكن لأبناء وطن واحد أن يفقدوا التعاطف الإنساني في ما بينهم! وللأسف كنت أعتقد أن تلك الصفة من قلة الإحساس بالآخر تتفشى بين البسطاء ومحدودي الثقافة والفهم، لكن تبين لي أن الكثير من هؤلاء الذين نسميهم النخبة الثقافية والفكرية أصابهم فيروس الجمود العاطفي والتصلب الوجداني الأقسى والأخطر من مرض التصلب اللويحي.

فقد صعقني أحد أشهر أساتذة الجامعة في اللاذقية حين قرر ترك بيته الفخم والجميل الذي يسكنه منذ 16 عاماً، وأن يهجر جيران العمر الذين أصبح يرتاب فيهم لأنهم من طائفة غير طائفته! وفعلاً استأجر بيتاً في حي كل سكانه من طائفته، وحاولت أن أستفزه بتحريض ذاكرة وإنعاش مخزون 16 عاماً مع جيران العمر. قلت له: كيف تخشى جيرانك لأنهم من طائفة غير طائفتك؟! هل نسيت أنهم باركوا لك بزواجك وكانوا أول من زاروك حاملين الهدايا المغلّفة بمحبتهم عندما أنجبت زوجتك ابنك الأول ثم الثاني؟ هل نسيت كل المناسبات الحزينة والمفرحة التي جمعتك بهم؟ ألم تحضر أعراس أولادهم؟ فكيف تتنكر لكل تلك الألفة والمحبة، كيف تطيح كل هذا التاريخ الوجداني والإنساني مع جيرانك ويصيرون أعداءك وخصومك وتتنصل من جيرتهم؟ للأسف لم يحرك فيه كلامي أي شيء، بل رد عليّ باستخفاف: الناس تتغير. هم يكرهونني الآن وأنا أقابل كرههم بكره! وضحك شامتاً ـ لا أعرف بمن ـ وقال: كما تراني يا جميل أراك.

يمكنني أن أذكر وأستشهد بعشرات القصص المخزية عن ذلك الانقسام العمودي الأشبه بشرخ كبير في المجتمع السوري وبين السوريين، وأكاد لا أصدق أنه لم يعد أساس العلاقة بين المواطنين هو المحبة والتعاطف والإحساس بالمواطنة، وبأننا شركاء في وطن حبيب يجب أن نحبه بأن نحب بعضنا بعضاً.

كيف يمكن أن ندّعي أننا نحب وطننا ونحن نكره بعضنا بعضاً على أسس تافهة من الطائفية التي هناك من يتعمد ترسيخها وحقنها في دماء السوريين كالسم. ما معنى أن يكون هناك احتفال في مكان في أرض سوريا بعنوان: سوريا عيونها خضر! إشارة إلى النجمتين في العلم السوري، وأن يكون هناك احتفال غير بعيد عنه بسوريا بـ3 عيون، أي ثلاث نجمات خضراوات علم الثورة. وبين نجمتين وثلاث نجمات نهر من دماء وتلال من أنقاض كانت بيوتاً!

إن الخطر الأكبر من كل هذا الدمار المادي، ومن كل هؤلاء الأحبة الذين ماتوا أو نزحوا، هو ألا يعود السوري يحس بذلك التعاطف الإنساني مع أخيه السوري. إن أساس المواطنة لم يكن يوماً ببناء بيوت جميلة ومدن حديثة، بل بتلك المحبة والتعاطف بين أبناء الوطن الواحد. ثمة أمثلة انقرضت في سوريا، وصارت تدمي قلبي حين أتذكرها مثل الجار قبل الدار. للأسف صار الجار عدواً والدار خراباً والوطن ساحة وغى.

 

  • فريق ماسة
  • 2013-04-22
  • 12227
  • من الأرشيف

شرخ بين السوريين

أتمنى أن أرى ما أريد، وما أتمنى: مجتمعاً سورياً متجانساً بالمحبة والتعاطف والإحساس بالمصير المشترك، وأن الوطن للجميع. لكن للأسف كل يوم أدرك هول الشرخ والانقسام بين السوريين. ففي بداية الأحداث السورية، كان السوريون يختلفون في الأفكار وتفسير ما يحصل على أرض الوطن، وكانت الخلافات تصل حد الشجار الحاد وتبادل التهم والتخوين، وتصل في كثير من الأحيان إلى القطيعة حتى بين الاخوة. وأعرف العديد من الاخوة حلّت بينهم القطيعة التامة بسبب خلافاتهم السياسية وقراءة الوجع السوري. لكن ما يقلقني لدرجة الذعر منذ أشهر، أن حس التعاطف الإنساني بين شريحة واسعة من السوريين ومواطنيهم قد ضمر وجف تماماً! وأظن أن بذرة الحرب الأهلية تكمن في انعدام التعاطف الإنساني بين أبناء وطن واحد، وطن ينزف أبناؤه منذ أكثر من عامين، وطن يدمّر بوحشية وضمير العالم مخدّر. أحب أن أعطي بعض الأمثلة لأصدق دليل على انعدام الحس الإنساني بين شريحة واسعة من السوريين: خلال عملي كطبيبة عيون في اللاذقية فإنني أفحص الكثير من الأحبّة السوريين النازحين من مناطق مختلفة، خاصة من حلب وإدلب ومعرة النعمان وقرية سلمى ومن حمص ودمشق أيضاً. وكل نازح من هؤلاء الأحبّة له قصة مأساوية تنافس قصص إخوته النازحين، هؤلاء تهدمت بيوتهم وفقدوا أمانهم وكرامتهم وانكسرت قلوبهم حزناً على أحبة ماتوا... وما أكثر تنويعات الموت في سوريا التي صار من الضروري أن تحضر عليها أطروحات جامعية مبتكرة، كما يبتكر الموت طرقه في سوريا. وقد صار كل مواطن سوري خبيراً في أنواع الأسلحة والصواريخ. ما يروّعني فعلاً وجود فئة كبيرة من زملائي الأطباء والممرضات لا يتعاطفون على الإطلاق مع هؤلاء النازحين ـ إخوتهم في الإنسانية وشركائهم في الوطن. ذات مرة اضطررت أن أصرخ في وجه ممرضة وأقول لها: ألم تسمعي ما قلته لك مراراً بأن تأخذي القدرة البصرية لفلانة؟ وكانت المريضة نازحة من حلب، في عينيها حزن هائل يفطر القلب وهي تحكي أنها لاحظت أن نظرها ضعف كثيراً بعد ان شاهدت بيتها يدمر أمامها. كنت متأكدة ان الممرضة ذاتها تسمع ما أطلبه منها وتتجاهله عمداً، وانزعجت من تقريعي لها، فاقتربت مني ونظرت إليّ بقسوة قائلة: قبل أن تعطيني درساً في الإنسانية دكتورة اسألي تلك المرأة أين زوجها؟! صعقت وسألت الممرضة: وما يهمني أين زوجها! أصلاً أنا لا يخطر ببالي أن أسأل عن زوجها، فأمامي مريضة وأخت من وطني الحبيب، من واجبي أن أتعاطف معها وأقدم لها كل مساعدة. فردت الممرضة بقسوة: لكن أنا أكرهها لأن زوجها مع الإرهابيين. عجبت حقاً لتلك الثقة التي تتحدث بها الممرضة، وقلت لها، متعمدة أن أوصل لها استنكاري لكلامها: وكيف عرفت؟ قالت: انظري إلى شكلها. كانت المرأة غاطسة في الأسود من رأسها حتى أخمص قدميها، ولم أجد في هذا السواد سوى حزن عميق وهائل ليس على بيتها الذي دمر، ونزوحها الذي بعثر إحساسها بالكرامة والمواطنة فقط، بل لأنها ترى الرفض والكره في عيون وسلوك الكثيرين من قساة القلوب والمتخلفين، كتلك الممرضة التي يفترض أن تكون إنسانية. كيف يمكن لأبناء وطن واحد أن يفقدوا التعاطف الإنساني في ما بينهم! وللأسف كنت أعتقد أن تلك الصفة من قلة الإحساس بالآخر تتفشى بين البسطاء ومحدودي الثقافة والفهم، لكن تبين لي أن الكثير من هؤلاء الذين نسميهم النخبة الثقافية والفكرية أصابهم فيروس الجمود العاطفي والتصلب الوجداني الأقسى والأخطر من مرض التصلب اللويحي. فقد صعقني أحد أشهر أساتذة الجامعة في اللاذقية حين قرر ترك بيته الفخم والجميل الذي يسكنه منذ 16 عاماً، وأن يهجر جيران العمر الذين أصبح يرتاب فيهم لأنهم من طائفة غير طائفته! وفعلاً استأجر بيتاً في حي كل سكانه من طائفته، وحاولت أن أستفزه بتحريض ذاكرة وإنعاش مخزون 16 عاماً مع جيران العمر. قلت له: كيف تخشى جيرانك لأنهم من طائفة غير طائفتك؟! هل نسيت أنهم باركوا لك بزواجك وكانوا أول من زاروك حاملين الهدايا المغلّفة بمحبتهم عندما أنجبت زوجتك ابنك الأول ثم الثاني؟ هل نسيت كل المناسبات الحزينة والمفرحة التي جمعتك بهم؟ ألم تحضر أعراس أولادهم؟ فكيف تتنكر لكل تلك الألفة والمحبة، كيف تطيح كل هذا التاريخ الوجداني والإنساني مع جيرانك ويصيرون أعداءك وخصومك وتتنصل من جيرتهم؟ للأسف لم يحرك فيه كلامي أي شيء، بل رد عليّ باستخفاف: الناس تتغير. هم يكرهونني الآن وأنا أقابل كرههم بكره! وضحك شامتاً ـ لا أعرف بمن ـ وقال: كما تراني يا جميل أراك. يمكنني أن أذكر وأستشهد بعشرات القصص المخزية عن ذلك الانقسام العمودي الأشبه بشرخ كبير في المجتمع السوري وبين السوريين، وأكاد لا أصدق أنه لم يعد أساس العلاقة بين المواطنين هو المحبة والتعاطف والإحساس بالمواطنة، وبأننا شركاء في وطن حبيب يجب أن نحبه بأن نحب بعضنا بعضاً. كيف يمكن أن ندّعي أننا نحب وطننا ونحن نكره بعضنا بعضاً على أسس تافهة من الطائفية التي هناك من يتعمد ترسيخها وحقنها في دماء السوريين كالسم. ما معنى أن يكون هناك احتفال في مكان في أرض سوريا بعنوان: سوريا عيونها خضر! إشارة إلى النجمتين في العلم السوري، وأن يكون هناك احتفال غير بعيد عنه بسوريا بـ3 عيون، أي ثلاث نجمات خضراوات علم الثورة. وبين نجمتين وثلاث نجمات نهر من دماء وتلال من أنقاض كانت بيوتاً! إن الخطر الأكبر من كل هذا الدمار المادي، ومن كل هؤلاء الأحبة الذين ماتوا أو نزحوا، هو ألا يعود السوري يحس بذلك التعاطف الإنساني مع أخيه السوري. إن أساس المواطنة لم يكن يوماً ببناء بيوت جميلة ومدن حديثة، بل بتلك المحبة والتعاطف بين أبناء الوطن الواحد. ثمة أمثلة انقرضت في سوريا، وصارت تدمي قلبي حين أتذكرها مثل الجار قبل الدار. للأسف صار الجار عدواً والدار خراباً والوطن ساحة وغى.  

المصدر : السفير \ هيفاء بيطار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة