بعد أن دفع ثمن معركته من أجل التنوير، توفي أمس بالقاهرة المفكر المصري نصر حامد أبو زيد عن عمر يناهز 67 عاما، بعد أن قال الأطباء بإصابته بفيروس مجهول خلال زيارته لإندونيسيا الشهر الماضي. وقضى الراحل أيامه الأخيرة في غرفة العناية الفائقة بمستشفى زايد التخصصي بمحافظة 6 أكتوبر غرب القاهرة، بعد أن فشل الأطباء في علاجه. ودفن الراحل أمس بمقابر الأسرة بقريته القريبة من مدينة طنطا (90 كيلومترا شمال القاهرة). وأقيم العزاء بمقر إقامة أسرته بقرية قحافة

لكن صفحات المعارك الثقافية التي خاضها أبو زيد لن تطويها وفاته، بعد أن أصبح رمزا منذ منتصف التسعينات لصراع العقلانية والأصولية في مصر، حيث أصبح صراعه مع الآخرين يتجاوز أسوار الجامعة، ليصبح حديث الشارع المصري، قبل أن ينتقل إلى أروقة المحاكم. ولد أبو زيد من رحم المعارك.. معارك خاضها مع تفتح وعيه في قريته الصغيرة بمحافظة الغربية، حيث ولد في مطلع الأربعينات من القرن الماضي، لأسرة فقيرة لم تكن قادرة على توفير نفقات دراسته الجامعية، فعمل بعد حصوله على التوجيهية (الثانوية) بوظيفة «فني لاسلكي» بالهيئة المصرية العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية، حيث ظل بها حتى مطلع السبعينات

لم يستسلم المفكر الذي يوصف بـ«أبو زيد العقلانية المصرية المعاصرة» لحصار الفقر، وحصل على ليسانس الآداب قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة بدرجة امتياز في عام 1972، ليسجل أول انتصاراته، ويعين معيدا بالجامعة العريقة. ويواصل ترقيه في سلك هيئة التدريس ويحصل على جائزة عبد العزيز الأهواني للعلوم الإنسانية من جامعة القاهرة، لكنه وفي العام الذي حصل فيه على وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس جمهورية تونس، يصطدم بما بدا أزمة في حصوله على درجة الأستاذية بالجامعة المصرية، وذلك بعد تقرير للدكتور عبد الصبور شاهين الذي كان ضمن اللجنة العلمية المخولة منحه الدرجة، وتم اتهام الرجل بالكفر

هنا تفجرت الأزمة لتصبح معركة مدوية انتقلت من غرف الجامعة المصرية إلى مساجدها، ليتم تداول اسم أبو زيد في خطب الجمعة، حيث اتهمه شاهين بـ«الكفر والإلحاد» في خطبته بجامع عمرو بن العاص مطلع عام 1994، وتنتقل قضيته إلى مساجد أخرى بالقاهرة.. قبل أن تتحول إلى معركة قضائية

نجح خصوم أبو زيد في اقتناص حكم من محاكم الأحوال الشخصية في مصر، مستندين إلى مبدأ الحسبة، وطالبوا على أساسه من المحكمة بالتفريق بين أبو زيد وزوجته. واستجابت المحكمة وحكمت بالتفريق بين الراحل وزوجته قسرا، على أساس أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم. هنا، غادر نصر حامد أبو زيد وزوجته الدكتورة ابتهال يونس الأستاذة في الأدب الفرنسي، القاهرة إلى هولندا منتصف التسعينات. رحيله عن مصر ترك عواصف فكرية تعج بها القاهرة عن قضية هذا المفكر وزوجته، الأمر الذي جعل أبو زيد في تقدير الدكتور رفعت السعيد «مفكرا تنويريا لا مجرد مفكر مستنير»، وأضاف أن «نصر أبو زيد كان نموذجا للمفكر الذي دفع الثمن.. كثير من مفكرينا مستنيرون لكنهم ليسوا تنويريين، فهم يستنيرون بأنفسهم لأنفسهم لكنهم لا يخوضون معركة التنوير، خشية دفع الثمن

وتابع السعيد: «خاض أبو زيد المعركة ودفع ثمنا باهظا بعد اتهامات تكفيرية، فترك لهم الجمل بما حمل وهاجر إلى بلد لا تعرف مطاردة الفكر.. لقد خسر الفكر الإسلامي والمفكرون الإسلاميون بوفاة نصر حامد أبو زيد خسارة لا يمكن تعويضها». عمل نصر حامد أبو زيد في هولندا أستاذا للدراسات الإسلامية بجامعة لايدن، قبل أن يشغل كرسي ابن رشد لدراسة الإسلام والإنسانيات بجامعة الدراسات الإنسانية في أوترخت الهولندية في عام 2002. لكن أبو زيد ظل متفائلا حول إمكانية التغيير في مصر، وقد عبر عن ذلك في محاضرة بأمستردام نهاية العام الماضي، لكنه علق آماله في المستقبل على الأجيال الجديدة، التي طلب منها أن تواصل جهود المفكرين الإصلاحيين في القرن التاسع عشر أمثال محمد عبده، حيث ظل يعتقد أن الإصلاحيين السابقين كانوا يرغبون في تحديث الإسلام بدلا من أسلمة الحداثة كما يريد الإسلاميون المعاصرون. وعلى الرغم من رحيله عن مصر في تلك الظروف، فإن أبو زيد لم يحاول استغلال قضيته أو الاستقواء بالغرب. وحين سئل عما يمكن أن تقدمه الدول الغربية لتشجيع عملية الإصلاح في العالم الإسلامي، كانت إجابته قاطعة «اتركونا لوحدنا»، مبررا موقفه بقوله إن «الدعم الغربي المباشر للتجديد الإسلامي لن يقدم إلا الانتقاص من شرعية هذا التجديد

حين حصل الراحل أبو زيد على جائزة ابن رشد عام 2005 من مؤسسة «ابن رشد للفكر الحر»، قالت المؤسسة في حيثيات منح الجائزة إنها جاءت تقديرا لـ«كفاحه المتواصل من أجل إعادة قراءة المعاني الدينية قراءة مستقلة عن التفسير التقليدي

وفي معركته الأخيرة ضد فيروس مجهول استسلم أبو زيد، وقد اكتفى من الغنيمة بالإياب، بعد أن طاف كثيرا، إلى أرض الوطن وسط أسرته وأصدقائه في بلاد النيل، ليدفن من حيث بدأ رحلة كفاحه في قريته الصغيرة بدلتا مصر
  • فريق ماسة
  • 2010-07-05
  • 12564
  • من الأرشيف

وفاة المفكر المصري الدكتور نصر حامد.. صاحب المعارك مع الأصولية

بعد أن دفع ثمن معركته من أجل التنوير، توفي أمس بالقاهرة المفكر المصري نصر حامد أبو زيد عن عمر يناهز 67 عاما، بعد أن قال الأطباء بإصابته بفيروس مجهول خلال زيارته لإندونيسيا الشهر الماضي. وقضى الراحل أيامه الأخيرة في غرفة العناية الفائقة بمستشفى زايد التخصصي بمحافظة 6 أكتوبر غرب القاهرة، بعد أن فشل الأطباء في علاجه. ودفن الراحل أمس بمقابر الأسرة بقريته القريبة من مدينة طنطا (90 كيلومترا شمال القاهرة). وأقيم العزاء بمقر إقامة أسرته بقرية قحافة لكن صفحات المعارك الثقافية التي خاضها أبو زيد لن تطويها وفاته، بعد أن أصبح رمزا منذ منتصف التسعينات لصراع العقلانية والأصولية في مصر، حيث أصبح صراعه مع الآخرين يتجاوز أسوار الجامعة، ليصبح حديث الشارع المصري، قبل أن ينتقل إلى أروقة المحاكم. ولد أبو زيد من رحم المعارك.. معارك خاضها مع تفتح وعيه في قريته الصغيرة بمحافظة الغربية، حيث ولد في مطلع الأربعينات من القرن الماضي، لأسرة فقيرة لم تكن قادرة على توفير نفقات دراسته الجامعية، فعمل بعد حصوله على التوجيهية (الثانوية) بوظيفة «فني لاسلكي» بالهيئة المصرية العامة للاتصالات السلكية واللاسلكية، حيث ظل بها حتى مطلع السبعينات لم يستسلم المفكر الذي يوصف بـ«أبو زيد العقلانية المصرية المعاصرة» لحصار الفقر، وحصل على ليسانس الآداب قسم اللغة العربية بجامعة القاهرة بدرجة امتياز في عام 1972، ليسجل أول انتصاراته، ويعين معيدا بالجامعة العريقة. ويواصل ترقيه في سلك هيئة التدريس ويحصل على جائزة عبد العزيز الأهواني للعلوم الإنسانية من جامعة القاهرة، لكنه وفي العام الذي حصل فيه على وسام الاستحقاق الثقافي من رئيس جمهورية تونس، يصطدم بما بدا أزمة في حصوله على درجة الأستاذية بالجامعة المصرية، وذلك بعد تقرير للدكتور عبد الصبور شاهين الذي كان ضمن اللجنة العلمية المخولة منحه الدرجة، وتم اتهام الرجل بالكفر هنا تفجرت الأزمة لتصبح معركة مدوية انتقلت من غرف الجامعة المصرية إلى مساجدها، ليتم تداول اسم أبو زيد في خطب الجمعة، حيث اتهمه شاهين بـ«الكفر والإلحاد» في خطبته بجامع عمرو بن العاص مطلع عام 1994، وتنتقل قضيته إلى مساجد أخرى بالقاهرة.. قبل أن تتحول إلى معركة قضائية نجح خصوم أبو زيد في اقتناص حكم من محاكم الأحوال الشخصية في مصر، مستندين إلى مبدأ الحسبة، وطالبوا على أساسه من المحكمة بالتفريق بين أبو زيد وزوجته. واستجابت المحكمة وحكمت بالتفريق بين الراحل وزوجته قسرا، على أساس أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم. هنا، غادر نصر حامد أبو زيد وزوجته الدكتورة ابتهال يونس الأستاذة في الأدب الفرنسي، القاهرة إلى هولندا منتصف التسعينات. رحيله عن مصر ترك عواصف فكرية تعج بها القاهرة عن قضية هذا المفكر وزوجته، الأمر الذي جعل أبو زيد في تقدير الدكتور رفعت السعيد «مفكرا تنويريا لا مجرد مفكر مستنير»، وأضاف أن «نصر أبو زيد كان نموذجا للمفكر الذي دفع الثمن.. كثير من مفكرينا مستنيرون لكنهم ليسوا تنويريين، فهم يستنيرون بأنفسهم لأنفسهم لكنهم لا يخوضون معركة التنوير، خشية دفع الثمن وتابع السعيد: «خاض أبو زيد المعركة ودفع ثمنا باهظا بعد اتهامات تكفيرية، فترك لهم الجمل بما حمل وهاجر إلى بلد لا تعرف مطاردة الفكر.. لقد خسر الفكر الإسلامي والمفكرون الإسلاميون بوفاة نصر حامد أبو زيد خسارة لا يمكن تعويضها». عمل نصر حامد أبو زيد في هولندا أستاذا للدراسات الإسلامية بجامعة لايدن، قبل أن يشغل كرسي ابن رشد لدراسة الإسلام والإنسانيات بجامعة الدراسات الإنسانية في أوترخت الهولندية في عام 2002. لكن أبو زيد ظل متفائلا حول إمكانية التغيير في مصر، وقد عبر عن ذلك في محاضرة بأمستردام نهاية العام الماضي، لكنه علق آماله في المستقبل على الأجيال الجديدة، التي طلب منها أن تواصل جهود المفكرين الإصلاحيين في القرن التاسع عشر أمثال محمد عبده، حيث ظل يعتقد أن الإصلاحيين السابقين كانوا يرغبون في تحديث الإسلام بدلا من أسلمة الحداثة كما يريد الإسلاميون المعاصرون. وعلى الرغم من رحيله عن مصر في تلك الظروف، فإن أبو زيد لم يحاول استغلال قضيته أو الاستقواء بالغرب. وحين سئل عما يمكن أن تقدمه الدول الغربية لتشجيع عملية الإصلاح في العالم الإسلامي، كانت إجابته قاطعة «اتركونا لوحدنا»، مبررا موقفه بقوله إن «الدعم الغربي المباشر للتجديد الإسلامي لن يقدم إلا الانتقاص من شرعية هذا التجديد حين حصل الراحل أبو زيد على جائزة ابن رشد عام 2005 من مؤسسة «ابن رشد للفكر الحر»، قالت المؤسسة في حيثيات منح الجائزة إنها جاءت تقديرا لـ«كفاحه المتواصل من أجل إعادة قراءة المعاني الدينية قراءة مستقلة عن التفسير التقليدي وفي معركته الأخيرة ضد فيروس مجهول استسلم أبو زيد، وقد اكتفى من الغنيمة بالإياب، بعد أن طاف كثيرا، إلى أرض الوطن وسط أسرته وأصدقائه في بلاد النيل، ليدفن من حيث بدأ رحلة كفاحه في قريته الصغيرة بدلتا مصر


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة