تبدو الانتخابات الإسرائيلية التي ستبدأ صباح الغد وتنتهي في المساء أشبه بمفارقة يصعب الجمع بين بعديها. فهي، ظاهرياً، غير مهمة وغير حاسمة ونتائجها معروفة سلفاً وتخلو من الإثارة وغير مثيرة للاهتمام. وهي، عملياً، فائقة الأهمية جراء وقوعها في لحظة تغييرات استراتيجية على الصعيدين الإقليمي والدولي وحتى على الصعيد الإسرائيلي نفسه. فهذه هي المرة الأولى التي تجري فيها انتخابات إسرائيلية بعد التحولات في «البيئة الإستراتيجية»، وتُحسم نتائجها على خلفية تحولات جوهرية طرأت على المجتمع الإسرائيلي، ووجدت تجلياتها الأبرز في تعزز ظاهرة اليمين الديني القومي.

ومن الجلي أن الانتخابات الإسرائيلية تتم هذه المرة بعدما اتضح، وبشكل حاسم، أن معسكر الوسط ليس خيارا وأن اليمين الديني والقومي حسم المعركة نهائيا لمصلحته ليس في المعركة الانتخابية وحسب وإنما في المجتمع عموما. بل أن تحالف «الليكود بيتنا» الذي أنشئ بأمل امتلاك القدرة على قيادة الدولة اليهودية نحو إسرائيل يمينية علمانية ويهودية بات، وفق استطلاعات الرأي، لا يملك الغالبية في معسكر اليمين. فاليمين الديني القومي، سواء المتواجد داخل الليكود والمقدر بحوالي الربع و«البيت اليهودي» و«شاس» و«عوتسما ليسرائيل» وبدعم من الحريديم، يملك غالبية داخل معسكر اليمين تجعل حتى من نتنياهو مجرد رهينة بين أيديهم.

وليس صدفة أن جميع القوى الصهيونية باستثناء «ميرتس» وإلى حد ما «حركة» تسيبي ليفني تجاهلت بشكل تام مسألة التسوية السياسية. وهرب حزب العمل، كما من النار، من شعارات السلام وحتى من العبارات التي تتضمن المعنى في محاولة للاحتفاظ بمكان لدى الجمهور الإسرائيلي. وقاد ذلك إلى إلغاء كل تلك التسميات التي قسمت القيادات الإسرائيلية في العقود الماضية في قضايا السلم والحرب إلى يمين ويسار أو إلى صقور وحمائم. وبدت إسرائيل بمجموعها تتنصل من ماضيها بإعلان زعيمة حزب العمل، شيلي يحيموفيتش أن حزبها لم يكن «يساريا» أبداً.

لقد أظهرت معركة الانتخابات الإسرائيلية أن ما كان يعرف بـ«اليسار» في إسرائيل قد انتهى أو يكاد ينتهي. فهو كف منذ سنوات طويلة عن أن يكون بديلا حقيقيا لليمين. كما أن تيار الوسط الذي ترعرعت غالبية قادته في صفوف اليمين والذي تفكك بشكل مريع بتفكك حزب «كديما»، عجز عن أن يشكل بديلا لليمين. واليوم بعد غلبة اليمين الديني القومي، وهي التعبيرات المغلفة لوصف اليمين المفرط التطرف، يمكن القول أن اليمين نفسه، ممثلاً بالليكود، بات يخسر مكانته كقائد للمجتمع.

وتتعدد غرائب ومفارقات الانتخابات الحالية عند العلم مثلاً أن القوة الصاعدة الآن (التيار الديني القومي) نبعت في الأصل من التيار الذي عارض الفكرة الصهيونية، وأن القوة التي تشرف على الهلاك الآن أي اليسار الصهيوني، هي التي أحيت الديانة اليهودية المعاصرة بمنح الإدعاء التوراتي محتوى عمليا. كما أن الوسط واليسار اللذين بلورا إسرائيل كدولة ليبرالية، في تعاطيها الداخلي، على الأقل في المجتمع اليهودي، يعانيان الآن من ثقل وطأة فاشية دينية يمينية يمثل المستوطنون طليعتها الكفاحية.

وإذا لم يكن هذا كافياً فإن موجات التكفير لأسباب سياسية أو اجتماعية تتعاظم بشكل واسع. ففي سياق سعي رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى مواجهة تسرب ناخبي الليكود وتوجههم إلى «البيت اليهودي» طلب من حاخامات المستوطنين فتاوى تأييد له، إلا أنهم رفضوا. كما أن حركة «شاس» في محاربتها لـ«الليكود بيتنا» (الذي بات حزب «إسرائيل بيتنا» جزءا منه طبعا من أجل كسب الأصوات) عمدت إلى شن حملة ضد المهاجرين الروس ممن لم يتهودوا وفق الشريعة. والأدهى من ذلك أن حملة التكفير التي تقودها «شاس» قادت في اليومين الأخيرين نحو تكفير حزب «البيت اليهودي» الذي ينافسها على أصوات شريحة من الجمهور. واعتبر المرشد الروحي لـ«شاس» الحاخام عوفاديا يوسف أن «البيت اليهودي» وزعماءه «أعداء للتوراة».

وبديهي أن هذه الأمور تخيف أوساطا واسعة في المجتمع الإسرائيلي خصوصاً في واقع يتسم مستقبله بالغموض. وكان نموذجيا، مثلا، إقدام ليفني على مطالبة لجنة الانتخابات المركزية برفض ترشيح جيرمي جيمبل المدرج في الموقع الرابع عشر على قائمة «البيت اليهودي» للكنيست. وجيمبل هذا لم يفعل شيئاً سوى أنه دعا إلى تفجير مسجدي الحرم القدسي (قبة الصخرة والأقصى) لتسهيل بناء الهيكل اليهودي.

وبالرغم من بعد المسافة بين الفائزين المرجحين في الانتخابات الإسرائيلية والتسوية السياسية، إلا أن الخوف على التسوية دفع أوساطا رسمية فلسطينية وعربية إلى دعوة الناخبين العرب للمشاركة بقوة في الانتخابات. وكان غريباً أن تشارك جامعة الدول العربية في الدعوة للمشاركة في الانتخابات لإضعاف النزوع اليميني في إسرائيل. وتمكن الإشارة أيضاً إلى التصريحات المنسوبة للرئيس الأميركي باراك أوباما ضد نتنياهو والتي جرى استغلالها من جانب اليمين واعتبارها تدخلا في المعركة الانتخابية.

عموما تتجه الأنظار غدا نحو ما سوف تناله الأحزاب من مقاعد لتتقرر لا طبيعة الحكومة المقبلة وإنما تركيبة المشاركين فيها. وكلما كان معسكر اليمين الديني والقومي أكبر كلما كان هامش مناورة نتنياهو للتحالف مع أحزاب وسط أقل. وبديهي أنه كلما كان اليمين الديني القومي أكبر كلما كانت فرص تحقيق تسوية سياسية أبعد. وبرغم ذلك هناك قناعة متزايدة بأن نتنياهو لن ينــال حكومة أحلامه وأن فوزه برئاسة الحكومة قد يكون مقدمة لتغييرات واسعة لن يكون هو من يفرضها وإنما شركاؤه في اليمين الأقصى.

  • فريق ماسة
  • 2013-01-20
  • 11514
  • من الأرشيف

انتخابات إسرائيل غداً: نهاية اليسار وهيمنة اليمين الديني

تبدو الانتخابات الإسرائيلية التي ستبدأ صباح الغد وتنتهي في المساء أشبه بمفارقة يصعب الجمع بين بعديها. فهي، ظاهرياً، غير مهمة وغير حاسمة ونتائجها معروفة سلفاً وتخلو من الإثارة وغير مثيرة للاهتمام. وهي، عملياً، فائقة الأهمية جراء وقوعها في لحظة تغييرات استراتيجية على الصعيدين الإقليمي والدولي وحتى على الصعيد الإسرائيلي نفسه. فهذه هي المرة الأولى التي تجري فيها انتخابات إسرائيلية بعد التحولات في «البيئة الإستراتيجية»، وتُحسم نتائجها على خلفية تحولات جوهرية طرأت على المجتمع الإسرائيلي، ووجدت تجلياتها الأبرز في تعزز ظاهرة اليمين الديني القومي. ومن الجلي أن الانتخابات الإسرائيلية تتم هذه المرة بعدما اتضح، وبشكل حاسم، أن معسكر الوسط ليس خيارا وأن اليمين الديني والقومي حسم المعركة نهائيا لمصلحته ليس في المعركة الانتخابية وحسب وإنما في المجتمع عموما. بل أن تحالف «الليكود بيتنا» الذي أنشئ بأمل امتلاك القدرة على قيادة الدولة اليهودية نحو إسرائيل يمينية علمانية ويهودية بات، وفق استطلاعات الرأي، لا يملك الغالبية في معسكر اليمين. فاليمين الديني القومي، سواء المتواجد داخل الليكود والمقدر بحوالي الربع و«البيت اليهودي» و«شاس» و«عوتسما ليسرائيل» وبدعم من الحريديم، يملك غالبية داخل معسكر اليمين تجعل حتى من نتنياهو مجرد رهينة بين أيديهم. وليس صدفة أن جميع القوى الصهيونية باستثناء «ميرتس» وإلى حد ما «حركة» تسيبي ليفني تجاهلت بشكل تام مسألة التسوية السياسية. وهرب حزب العمل، كما من النار، من شعارات السلام وحتى من العبارات التي تتضمن المعنى في محاولة للاحتفاظ بمكان لدى الجمهور الإسرائيلي. وقاد ذلك إلى إلغاء كل تلك التسميات التي قسمت القيادات الإسرائيلية في العقود الماضية في قضايا السلم والحرب إلى يمين ويسار أو إلى صقور وحمائم. وبدت إسرائيل بمجموعها تتنصل من ماضيها بإعلان زعيمة حزب العمل، شيلي يحيموفيتش أن حزبها لم يكن «يساريا» أبداً. لقد أظهرت معركة الانتخابات الإسرائيلية أن ما كان يعرف بـ«اليسار» في إسرائيل قد انتهى أو يكاد ينتهي. فهو كف منذ سنوات طويلة عن أن يكون بديلا حقيقيا لليمين. كما أن تيار الوسط الذي ترعرعت غالبية قادته في صفوف اليمين والذي تفكك بشكل مريع بتفكك حزب «كديما»، عجز عن أن يشكل بديلا لليمين. واليوم بعد غلبة اليمين الديني القومي، وهي التعبيرات المغلفة لوصف اليمين المفرط التطرف، يمكن القول أن اليمين نفسه، ممثلاً بالليكود، بات يخسر مكانته كقائد للمجتمع. وتتعدد غرائب ومفارقات الانتخابات الحالية عند العلم مثلاً أن القوة الصاعدة الآن (التيار الديني القومي) نبعت في الأصل من التيار الذي عارض الفكرة الصهيونية، وأن القوة التي تشرف على الهلاك الآن أي اليسار الصهيوني، هي التي أحيت الديانة اليهودية المعاصرة بمنح الإدعاء التوراتي محتوى عمليا. كما أن الوسط واليسار اللذين بلورا إسرائيل كدولة ليبرالية، في تعاطيها الداخلي، على الأقل في المجتمع اليهودي، يعانيان الآن من ثقل وطأة فاشية دينية يمينية يمثل المستوطنون طليعتها الكفاحية. وإذا لم يكن هذا كافياً فإن موجات التكفير لأسباب سياسية أو اجتماعية تتعاظم بشكل واسع. ففي سياق سعي رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى مواجهة تسرب ناخبي الليكود وتوجههم إلى «البيت اليهودي» طلب من حاخامات المستوطنين فتاوى تأييد له، إلا أنهم رفضوا. كما أن حركة «شاس» في محاربتها لـ«الليكود بيتنا» (الذي بات حزب «إسرائيل بيتنا» جزءا منه طبعا من أجل كسب الأصوات) عمدت إلى شن حملة ضد المهاجرين الروس ممن لم يتهودوا وفق الشريعة. والأدهى من ذلك أن حملة التكفير التي تقودها «شاس» قادت في اليومين الأخيرين نحو تكفير حزب «البيت اليهودي» الذي ينافسها على أصوات شريحة من الجمهور. واعتبر المرشد الروحي لـ«شاس» الحاخام عوفاديا يوسف أن «البيت اليهودي» وزعماءه «أعداء للتوراة». وبديهي أن هذه الأمور تخيف أوساطا واسعة في المجتمع الإسرائيلي خصوصاً في واقع يتسم مستقبله بالغموض. وكان نموذجيا، مثلا، إقدام ليفني على مطالبة لجنة الانتخابات المركزية برفض ترشيح جيرمي جيمبل المدرج في الموقع الرابع عشر على قائمة «البيت اليهودي» للكنيست. وجيمبل هذا لم يفعل شيئاً سوى أنه دعا إلى تفجير مسجدي الحرم القدسي (قبة الصخرة والأقصى) لتسهيل بناء الهيكل اليهودي. وبالرغم من بعد المسافة بين الفائزين المرجحين في الانتخابات الإسرائيلية والتسوية السياسية، إلا أن الخوف على التسوية دفع أوساطا رسمية فلسطينية وعربية إلى دعوة الناخبين العرب للمشاركة بقوة في الانتخابات. وكان غريباً أن تشارك جامعة الدول العربية في الدعوة للمشاركة في الانتخابات لإضعاف النزوع اليميني في إسرائيل. وتمكن الإشارة أيضاً إلى التصريحات المنسوبة للرئيس الأميركي باراك أوباما ضد نتنياهو والتي جرى استغلالها من جانب اليمين واعتبارها تدخلا في المعركة الانتخابية. عموما تتجه الأنظار غدا نحو ما سوف تناله الأحزاب من مقاعد لتتقرر لا طبيعة الحكومة المقبلة وإنما تركيبة المشاركين فيها. وكلما كان معسكر اليمين الديني والقومي أكبر كلما كان هامش مناورة نتنياهو للتحالف مع أحزاب وسط أقل. وبديهي أنه كلما كان اليمين الديني القومي أكبر كلما كانت فرص تحقيق تسوية سياسية أبعد. وبرغم ذلك هناك قناعة متزايدة بأن نتنياهو لن ينــال حكومة أحلامه وأن فوزه برئاسة الحكومة قد يكون مقدمة لتغييرات واسعة لن يكون هو من يفرضها وإنما شركاؤه في اليمين الأقصى.

المصدر : حلمي موسى\السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة