دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
يُقفل العام 2012 على مشهد عربي عام مضطرب حافل بالأحداث والتحديات، وهو مشهد وإن انطوى، الا انّ تداعياته ستتخطى بمفاعيلها مسرح العالم العربي، لتطول دولاً رئيسة في المسرح الدولي كانت وراء صناعة هذا المشهد العربي وأحداثه المأساوية.
الولايات المتحدة الأميركية ومعها «إسرائيل» ودول أوروبية وأخرى نصف اوروبية وعربية، جميعها، في حالة تخبّط، ومن مؤشرات هذا التخبّط:
. تباين طفا على السطح بين الموقفين الأميركي والأوروبي حيال قبول فلسطين عضواً مراقباً في الأمم المتحدة، ومن ثمّ محاولة احتواء هذا التباين بالاتفاق على وضع «الناتو» على جهوزيته من خلال نشر بطاريات الباتريوت على الأراضي التركية.
ـ «إجازة مفتوحة» للدبلوماسية الأميركية، تحت عنوان استبدال رأس هذه الدبلوماسية هيلاري كلينتون بآخر.
ـ إدارج الولايات المتحدة الأميركية «جبهة النصرة» التابعة لتنظيم «القاعدة» على لائحة الإرهاب، من دون إيقاف الدعم للمجموعات المتطرفة التي تتبع لـ»جبهة النصرة» و»القاعدة».
ـ وضع تركي مأزوم داخلياً يتسم بالخطورة، سببه تورّط الحكومة التركية في تسعير الأحداث في سورية، ودورها في توفير كلّ الدعم المطلوب للمجموعات المتطرفة، مسقطة عنها قناع الاعتدال الذي لبسته حكومة رجب طيب أردوغان للتعمية على عقليتها المتطرفة.
ـ فقدان السيطرة والتحكم على الأرض في البلدان التي اجتاحتها «نسائم الربيع العربي» بمؤازرة من طائرات «الناتو» وفضائيات أموال نفط الخليح وشعارات الديمقراطية الغربية. ففي ليبيا، وتونس، وإلى حدّ كبير في مصر، لم ينشأ «واقع ديمقراطي» جديد مختلف عما كان قائماً، فما تغيّر هو تأمين وصول «الإسلاميين» إلى السلطة، ما يسمح بتشكيل «بيئة آمنة» للقوى المتطرفة، وقد تلقت الولايات المتحدة الأميركية صفعة كبيرة ومؤلمة عندما نالت نصيبها من التطرف باقتحام مقرّ قنصليّتها في مدينة بنغازي الليبية ومقتل سفيرها وعدد من الموظفين الأميركيين. وهي صفعة مضافة، إلى صفعة انهيار منظومة الشعارات الأميركية حول الديمقراطية وحقوق الانسان
وترقية شعوب المنطقة، بعدما أدخلت البلدان الثلاثة في دوامة من الاقتتال وغياب الأمن والاستقرار.
الأمور الآنفة الذكر، تدلل على أنّ التخبّط هو المصير الذي تواجهه دول المنشأ لما يسمّى «الربيع العربي»، وبفعل هذا التخبّط خسرت هذه الدول، لا سيما الولايات المتحدة الأميركية الكثير من الأوراق التي اعتادت ان تلعبها على مسرحَيْ المنطقة والعالم، ويمكن الجزم أنّ الاصطدام بالواقع السوري، هو الذي أدى إلى أن تحترق كلّ الأوراق الأميركية - الغربية - «الإسرائيلية».
لقد وضعت الدول المُصنّعة لـ»الربيع العربي» كلّ إمكاناتها وقدراتها في سبيل إسقاط الدولة السورية، وما حظيت به المجموعات الإرهابية المتطرفة المتعددة الجنسيات من دعم مالي وتسليحي وإعلامي وسياسي، هو دعم غير مسبوق في التاريخ، وذلك لأنّ الواقع السوري ليس تفصيلاً في معادلات المنطقة، وعندما يتمّ إسقاط الدولة السورية تسقط المنطقة بأسرها، وتنتفي العوائق والعراقيل أمام «إسرائيل» لتصفية المسألة الفلسطينية، وتتهيّأ الظروف لـ»شرق أوسط جديد متصهين» تتحكم بموارده وثرواته أميركا وحلفاؤها عبر الوكيل «الإسرائيلي».
ولو قيّض لدول «الربيع العربي» المتأسرل أن تنجح في إسقاط الدولة السورية، لكانت نجحت في إعادة ترميم كلّ أوراقها المحروقة، والاندفاع باتجاه ضبط إيقاع القوى المتطرفة، على أساس عدم المسّ بأمن «إسرائيل»، وذلك وفق النموذج الذي عبّر عنه الرئيس المصري محمد مرسي من خلال تأكيد التزامه بمعاهدة «كامب ديفيد» ومن خلال رسالته الشهيرة إلى رئيس كيان الاغتصاب الصهيوني شيمون بيريز.
أما وأنّ الدولة السورية نجحت في صدّ أخطر مراحل الهجوم الذي استهدف إسقاطها، فحسابات العام 2013 ستكون مختلفة, وعليها تترتب معادلات كبيرة. والحسابات المرتقبة لا ترتبط بواقع ميداني داخل سورية، فقد نشهد استمراراً لوجود بؤر إرهابية في بعض المناطق السورية لفترة ما، لكن هذه البؤر لم تعد صالحة للتوظيف من قبل الدول التي عملت بكلّ قوتها من أجل إسقاط سورية.
كلّ المعطيات تشير إلى أنّ مخطط إسقاط سورية قد فشل، وأنّ تداعيات هذا الفشل سترتدّ على كلّ الدول التي اشتركت في العدوان ضدّ سورية. وبالبناء على صمود الدولة السورية بدأت تتشكل لوحة دولية جديدة عنوانها سقوط مدوّ لسياسة الهيمنة والاستفراد والقطبية الواحدة وتشاركية متوازنة ومتوازية في القرار الدولي حيال مجمل القضايا الدولية.
إنّ مَن يراقب جيداً أداء روسيا والدول المتحالفة والمتفاهمة لا سيّما الصين وباقي دول البريكس ودول الألبا وإيران وغيرها طيلة فترة الأزمة في سورية، والذي وصل إلى حدّ استخدام روسيا والصين «الفيتو» المشترك في مجلس الأمن الدولي ضدّ أي قرار يدين الدولة السورية ويشرعن التدخل الخارجي ضدها، يكتشف أنّ هذه الدول كانت واثقة من صمود سورية، وأنّ عليها التأسيس لمرحلة ما بعد فشل الهجوم على سورية.. ونلاحظ الآن كيف أنّ روسيا تشكل محور الحركة الدبلوماسية بشأن الوضع السوري، وتعلن تمسكها باتفاق جنيف لإنهاء الأزمة في سورية، وهو الاتفاق الذي تعتبره روسيا محققاً للتشاركية في القرار الدولي. ونلاحظ أيضاً كيف أنّ إيران تقوم بحراك كبير وتتقدم بمبادرة للخروج من الأزمة، تحظى بتأييد روسيا وحلفائها، وبمجرّد طرح إيران لمبادرة، فهذا بمثابة تكريس للوحة الدولية الجديدة.
بناء على ما تقدم، فإنّ الحديث عن فشل أو عدم فشل مهمة المبعوث الدولي الأخضر الابراهيمي، ليس هو محور الحدث، فقد تُنهى مهمة الإبراهيمي، مثلما انتهت مهمة بعثة المراقبين الدوليين في سورية برئاسة الجنرال روبرت مود، وقبلها مهمة بعثة المراقبين العرب برئاسة الفريق محمد مصطفى الدابي، لكن هذا لا يعني أنّ الأوضاع في سورية لن تصل الى خواتيم الحسم وفق مندرجات روزنامة الدولة السورية.
عود على بدء، فإنّ سورية كما بات معلوماً، وبقرينة الصمود، ليست تفصيلاً في معادلات المنطقة، وهي في المرحلة القادمة، لاعب قويّ ومؤثر، وتمتلك من الأوراق الكبيرة ما يؤهّلها لخوض صراع مفتوح دفاعاً عن القضايا التي تؤمن بها، وفي المقدمة المسألة الفلسطينية، التي تشكل جوهر الصراع القومي. فمع سورية القوية المتعافية، ليس مقبولاً التحنّن على الفلسطينيين بقبول فلسطين بصفة مراقب في الأمم المتحدة، في ظلّ تجاهل عمليات الاستيطان والتهويد التي يقوم بها العدو، والتي لن تبقي أرضاً فلسطينية، ومع سورية القوية المتعافية ليس مقبولاً أن يكون لبنان خاصرة رخوة تعشش فيها كلّ أجهزة المخابرات الغربية والصهيونية.. ومع سورية القوية المتعافية لن يكون هناك «شرق أوسط جديد» متصهين ولا تطرف أعمى ولا إرهاب دمويّ يستبيح دماء الناس الآمنين..
مع سورية القوية المتعافية، مستقبل ينتظره أبناء شعبنا في الأمة، عنوانه المقاومة، ويشكل منصة لوحدة بلادنا ولجبهة عربية خالية من كلّ روائح العفن المنبعثة من المتآمرين الأذلاء..
باختصار، هذه هي ملامح اللوحة الجديدة التي تبدأ بالارتسام مع العام 2013، وإنّ غداً لناظره قريب.
المصدر :
البناء / معن حمية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة