دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
ربما هو جنون الموت اليومي في سورية أو مسلسل انفجار السيارات الذي يضرب البلاد، هو ما منع الناس من الالتفات لرسالة زعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري التي دعا فيها أهل البلاد المجاورة لسورية كي يهبوا لـ "نصرة للشعب" في الداخل.
الأمر ليس بجديد وسط تقارير عدة تشير إلى تدفق مقاتلين من شتى الدول للقتال في سورية، إلى جانب المعارضة المسلحة، لكن الفرق يتمثل بالدعوة العلنية للجهاد إلى جانب المسلحين، ومعظم هؤلاء هم أبناء تيار السلفية الجهادية، الأقوى بين فصائل المقاتلين تنظيماً وتسليحاً، والذي كشف حضوره عن انتشار واسع لمناصري “القاعدة”.
حضور كان مخفياً لعوامل تتعلق بالصراع وفكر السلفية، لكنه كشف عن تحضير واسع وبحث عميق في الحياة السياسية السورية، بالرغم من أن الشام لم تكن موضع اهتمام “الجهاديين” طوال الفترة السابقة.
لم تعرف سورية معنى صريحاً للفكر السلفي الجهادي أيام نشأته في القرن الماضي، ومع تقدم البحث في أفكار سيد قطب ثم عبد الله عزام أيام الغزو السوفياتي لأفغانستان، بقيت سورية بعيدة عن هذا التيار، وكانت في المقابل مسرحاً لجماعة الإخوان المسلمين وطليعتهم المقاتلة، لكن أحد رجالات الإخوان في تلك الفترة، وهو مصطفى بن عبد القادر بن مصطفى بن حسين بن أحمد المزيِك الجاكيري (عرف لاحقاً بلقب أبي مصعب السوري) سينضم إلى “الطليعة المقاتلة” ويخضع لتدريبات في العراق والأردن على يد نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين، ويعين عضواً في القيادة العسكرية العليا مع زعيمهم سعيد حوى.
لكن ابو مصعب السوري سيعلن لاحقاً انشقاقه عن “الإخوان” بسبب تعاملهم مع البعث العراقي والقوى “العلمانية” ويحاول إحياء “الطليعة المقاتلة” مع عدنان عقلة من جديد، لكنه سيتجه إلى أفغانستان لاحقاً، ويكون أحد أبرز كوادر “القاعدة” وحركة “طالبان”. ومن دون أن يعرف الرجل، الذي اعتقلته الاستخبارات الأميركية في العام 2005، أصبح له مريدون كثر في الداخل يتبعون منهجه القائم على "الجهاد"، والمبني على فكر ابن تيمية وعلاقته بأسامة بن لادن وتنظيمات “القاعدة” في أفغانستان والجزائر، وذلك بعد انتشار كتبه عبر شبكة الإنترنت، بالإضافة إلى صعود نجم السلفية إبان مرحلة هجمات 11 أيلول.
ورغم كل هذا، بقيت سورية في آخر أولويات التنظيمات “الجهادية”، التي وضعت نصب عينها أفغانستان فالعراق والسعودية والمغرب، على أن الفترة اللاحقة شهدت إشارات كبرى على تصاعد التيار المتشدد في البلاد، بدأت بما سمي وقتها “غزوة السفارات”، في إشارة إلى اقتحام السفارتين الدنماركية والنروجية في الخامس من شباط العام 2006، تلتها تدريجياً ملامح أخرى، مع ضبط عدة خلايا مقاتلة وخاصة في محافظات بعيدة عن دمشق، بالتزامن مع عودة المقاتلين السوريين من العراق، والذين التحق بعضهم “بتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين”.
كل هذه العوامل أعطت إشارات واضحة إلى حضور السلفية الجهادية في سورية، لكنه حضور خامد بقرار من منظري الجهاد في الخارج. ومع اندلاع الاحتجاجات في سورية لم يتردد السلفيون في المشاركة بالتظاهرات ومختلف أشكال الحراك، مع الاحتفاظ بمسافة من باقي القوى العلمانية التي تدعو إلى دولة مدنية.
ولم يتمايز دورهم عن دور باقي القوى إلا مع بدء التحول نحو العسكرة، والتفات الظواهري، للمرة الأولى، إلى سورية ودعوته إلى الجهاد فيها، لتبدأ إثر ذلك المجموعات السلفية بالتوجه نحو السلاح أكثر فأكثر، وتخرج تنظيمات عسكرية مثل “لواء الإسلام” و”أحفاد الرسول” وغيرها في مختلف المناطق.
وهذه المجموعات لم تعلن الولاء لتنظيم “القاعدة” على غرار “جبهة النصرة” التي تشكلت لاحقا، وتبنت عمليات عدة، لكنها مجتمعة ترفض العمل مع “الجيش الحر” لأسباب غير معروفة بدقة، بالرغم من صدور فتاوى عدة من منظري التيار الجهادي تشيد “بالجيش الحر” وتعطيه الشرعية للقتال. وتعمل هذه الكتائب وفق آلية الضربات الكبرى والعمليات النوعية، وتشترط بعضها لقبول المتطوعين موافقة الأهل مسبقا، وتحظى بدعم مالي وعسكري من أنصار السلفية في الخارج، وخاصة في الخليج، على اعتبار أن العلاقة بين هذه المجموعات والسعودية وباقي الدول سيئة للغاية، بحكم محاربة حكام الخليج لهذه التيارات واعتقال منظريها أو المساهمة بقتلهم، وآخرهم اليمني أنور العولقي.
وبالرغم من إقرارهم بأن الدولة الإسلامية، أو دولة الخلافة، مسألة غير قابلة للتطبيق في سورية، إلا أن مختلف خطابات منظري هذا التيار وكتبهم تشن هجوماً عنيفاً على الأقليات، ، فيما يشن آخرون هجوماً مماثلاً على أصحاب التيارات العلمانية والليبرالية، داعين إياهم إلى مغادرة سورية، أن لم يرق لهم العمل الجهادي المسلح على حد تعبيرهم.
وبينما اقتنعت بعض الفصائل السلفية بالتعاطي مع وسائل الإعلام، ترفض الأكثر تشدداً الحديث للإعلام أو تبيان وجهة نظرها، معتبرة أنها غير معنية بصورتها سواء للخارج أو الداخل، وتكتفي بالعمل بسرية مطلقة، لكنها تتمتع بقدرة هائلة على التعبئة والتجنيد والتدريب بطريقة تفوق جميع الكتائب المقاتلة، بما فيها تلك التي أسسها عسكريون منشقون، ويعود ذلك إلى خبرة مقاتليها خلال الغزو الأميركي للعراق.
في المقابل، ترفض مختلف المجموعات السلفية الاعتراف بالمرجعيات الدينية في دمشق على الرغم من أن عدداً كبيراً من أنصار التيار السلفي هم بالأصل تلامذة شيوخ دمشق، مثل أسامة الرفاعي وسارية الرفاعي ومحمد النابلسي، لكن التلاميذ قرروا الانشقاق عن معلميهم إثر مغادرة هؤلاء للخارج ونأيهم عن إصدار فتاوى تدعم صراحة العمل المسلح والجهاد، وتركيزهم على ضرورة الحفاظ على السلم الأهلي وتحريم القتل، وهو ما دفع الكثيرين من طلاب هؤلاء الشيوخ إلى الاتجاه نحو السلفية الجهادية من دون تكفير الشيوخ الدمشقيين تحديداً، وفي المقابل الاقتراب أكثر من مرجعية “القاعدة” وفكر ابن تيمية الجهادي.
ولعل الأمر ذاته ينسحب على علاقتهم بالمعارضة السياسية، وخاصة "المجلس الوطني"، حيث يشير أحد منظري التيار السلفي أبو بصير الطرطوسي إلى أنه لم تتم استشارتهم في تشكيل المجلس ويختلفون معه في قبول جميع الأطراف المعارضة، وخاصة الاتجاهات الليبرالية والعلمانية التي يعتبرونها من المعارضة، ولكن لا يحق لها أن تكون ضمن قيادات ما اسماها “الثورة” السورية. ومع ذلك، يقول الطرطوسي إنه ليس من الضروري في هذه المرحلة فتح معركة مع باقي أطراف المعارضة، وضرورة توحيد السهام في هذا الوقت، مع التحفظ على أفكار المعارضة السياسية.
ولا تبدو العلاقة مع "الإخوان المسلمين" أفضل حالاً، على اعتبار أن تاريخ العلاقة بين الطرفين مليئة بالاتهامات المتبادلة، بين العنف والميل للقتال من قبل “الإخوان” وبين التحالفات مع قوى تعتبر من المغضوب عليهم، والفساد من قبل السلفيين. ويستشهد السلفيون بنقد كبير منظريهم سيد قطب للجماعة الإسلامية، يضاف إلى ذلك اليوم دور “الإخوان” في ما يحصل وعلاقتهم بالمجلس الوطني السوري، ما يضع كلاً منهما في واد مختلف عن غيره، مع إصرار السلفيين على عدم رغبتهم في الحكم والتركيز على ضرورة الجهاد ونصرة المستضعفين على حد تعبيرهم.
المصدر :
السفير / طارق العبد
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة