هل تستحق «عمليات» اسر السفن المدنية التي تبحر الى غزة محملة بالمساعدات الاساسية لسكانها ان تجري اسرائيل للتدرب عليها اكبر المناورات العسكرية مع الولايات المتحدة؟

بالطبع لا. فإن اسر سفينة مساعدات مدنية كل ركابها ـ بل وطاقمها ـ من المدنيين لا يحتاج لأكثر من سفينة حربية صغيرة الحجم ذات طاقم عسكري قليل العدد وأسلحة خفيفة، فلا صواريخ ولا مدفعية ولا أسلحة متفوقة في عيارها وتأثيرها.

اذن فربما تحتاج اسرائيل الى هذه المناورات الضخمة المشتركة مع اميركا للتدرب على شن غارات بقاذفات القنابل والمقاتلات على الأهداف المدنية في غزة، حيث لا تواجه اسلحة مضادة للطائرات وحيث لم تتمكن الدفاعات البسيطة الفلسطينية في القطاع من إسقاط طائرة واحدة.

مرة اخرى فإن الإجابة هي بالطبع لا. ولكن برامج المناورات التدريبية المشتركة بين اسرائيل والولايات المتحدة مستمرة في التصاعد والتضخم، موحية بأن ثمة هدفاً «مشتركاً» يستحق كل هذا الجهد وكل هذه النفقات (التي تتحملها اميركا من اجل إرضاء إسرائيل). غير ان نظرة الى الواقع الفعلي للامور تؤكد من دون عناء ان اسرائيل منذ حربها على لبنان في صيف العام 2006 لم تخض معركة حربية بالمفهوم التقليدي الحديث للكلمة. كل مجهود اسرائيل الحربي متوقف عند حدود اسر سفن المساعدات المدنية المتجهة الى غزة وقصف وإلقاء القنابل على غزة المحاصرة التي نكاد نقول إنها مغلوبة على امرها. لقد ذاقت اسرائيل في هذه الحرب طعم الهزيمة ولهذا تتجنب الوقوع مرة اخرى.

واذا فهم هذا اللغز الغريب في سلوك اسرائيل، فإنه لا يبدو مفهوماً أبداً من جانب الولايات المتحدة، الشريك الكبير والقوي. ولكن وجود هذا الشريك في عمليات المناورات التدريبية المشتركة يضطرنا لأن نتذكر ان اسرائيل ـ وأحيانا اميركا معها ـ لا تكفان ابدا عن اطلاق التهديدات الحربية في اعلى لهجاتها ضد ايران منذ فترة طويلة. وهذه التهديدات تستوجب ان يكون مصاحباً لها اقوى استعراضات القوة العسكرية. وهذه تظهر في اقوى صورها في المناورات العسكرية التدريبية سواء كانت انفرادية او مشتركة. مع ذلك فقد طالت فترة التهديدات الاميركية – الاسرائيلية لإيران الى حد انها لم تعد تؤخذ من معظم دول العالم بجدية، ومن الواضح انها لم تفلح في إخافة إيران أو بث الذعر في نفوس الايرانيين.

في الوقت نفسه تواصل الولايات المتحدة إظهار نفورها من فكرة عمل عسكري مشترك مع اسرائيل لمهاجمة ايران، وتحديد اهداف بعينها في ايران لوقف الجهد النووي، بصرف النظر عن تأكيدات ايران بأنه جهد نووي مدني خالص. ولكن الولايات المتحدة لا تلبث ان تعود فتشارك في هذه التهديدات ضد ايران وكأنما لترفع معنويات اسرائيل وتؤازرها، كما هي العادة، في جهود ترمي بالتأكيد الى تحجيم ايران وإثنائها عن عزمها بناء قوة نووية خاصة بها حتى لو كانت مدنية القصد.

لو كانت إيران هدفاً سهلاً


أحدث طائرة بدون طيار امريكية   ، اسقتطها ايران الكترونيا  وبحالة سليمة

وأما عن العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة على ايران، يؤازرها الاتحاد الاوروبي، فإن الدعايات الغربية المصاحبة لها تبدو اقوى وأعلى صوتاً من تأثيرهذه العقوبات، حتى ليبدو ان انضمام الولايات المتحدة الى حليفتها اسرائيل في التهديد بين حين وآخر بمهاجمة ايران عسكرياً، لا يعدو ان يكون تعضيداً للقوة التي تتحدث عنها اميركا لتأثيرات العقوبات الاقتصادية. والامر المؤكد ان ايران تأخذ التهديدات الاميركية والاسرائيلية والاوروبية معاً بكل جدية. إن إيران قد اظهرت منذ بداية ثورتها في اواخر سبعينيات القرن الماضي انها تتعامل بكل جدية مع التهديدات التي تواجهها من القوى المعادية لهذه الثورة. ولكن ايران لا تبالغ في اظهار ردود أفعالها ازاء التهديدات الخارجية وأيضاً ازاء العقوبات الاقتصادية.

وسط هذه الظروف الصعبة والمعقدة نجحت الولايات المتحدة ـ وبالتحديد خلال فترة رئاسة باراك اوباما ـ في ان تبدو في معظم الوقت في موقف المتنصل من مواقف اسرائيل تجاه ايران. وقد يتغير المشهد فتزداد الولايات المتحدة اقترابا من اسرائيل حتى في تهديداتها لإيران الى حد مشاركتها في هجوم عسكري على اهداف ايرانية محددة، في حال ما اذا نجح ميت رومني المرشح الجمهوري لرئاسة اميركا في الفوز بهذا المنصب. ولكن فوز رومني الجمهوري قد لا يؤدي بالضرورة الى هذه النتيجة، بل قد يؤدي الى عكسها، فنجد الرئيس الجمهوري اقل من المرشح الجمهوري، وهو الشخص نفسه، حماساً لإسرائيل وأهدافها العسكرية ضد إيران وضد غيرها. وفي كل الاحوال وبغض النظر عن الوجهة التي سيتخذها رئيس اميركا القادم فإن ايران نجحت طوال السنوات من التهديدات الاسرائيلية، والاميركية احيانا، في المحافظة على هيبتها العسكرية والسياسية وعلى تماسكها الاقتصادي في وجه العقوبات الاقتصادية القاسية.

ولكن لهذه المسألة جانباً آخر يتضح لنا بجلاء اذا استطعنا ان نجيب على سؤال اساسي نطرحه على الطريقة التي طرحنا بها اسئلة اخرى بدأنا بها هذا المقال. والسؤال هو: ما الذي استطاعت ايران ان تفعله بالعلاقات الاميركية ـ الاسرئيلية على مدى السنوات الماضية؟

وتبدأ الإجابة الجادة على هذا السؤال بفرضية بالغة الأهمية تتمثل في التأكيد بأنه لو ان ايران كانت هدفاً سهلاً لأي من عدويها الرئيسين اسرائيل وأميركا لما امكن ان يستمر الوضع منذ سنوات طويلة. لقد استطاعت ايران ان تبرهن لأصدقائها وأعدائها في العالم على السواء انها ليست هدفاً سهلاً. اي انها استطاعت ان تطمئن الدول الصديقة الى قدرتها على مواجهة التهديدات والعقوبات مع الوفاء الكامل بكل واجباتها التي تفرضها العلاقات الدولية. واستطاعت بالمثل ان تنبه الدول غير الصديقة، مثل دول الاتحاد الاوروبي، الى انها لا تستسلم للضغوط العسكرية او الاقتصادية او السياسية. والنتيجة ان علاقات ايران التجارية مع الدول الاوروبية استمرت ولم تنقطع على الرغم من الضغوط التي تمارسها اميركا لتطبيق عقوباتها الاقتصادية على ايران بحذافيرها. وأما بالنسبة للأعداء فإن إيران تمكنت من إلزامهم حالة من التردد في المواجهة العسكرية. وقد تبدو اميركا اكثر تردداً من اسرائيل في وضع تهديداتها ضد ايران موضع التنفيذ لاعتبارات تتعلق بمركز الدولة الاقوى في العالم الذي تحتله، وما يمكن ان يلحق به اذا فشلت في مواجهة عسكرية ضد إيران، او اذا نالها من الاضرار المادية كرد من الجانب الايراني الى الحد الذي لا تتوقعه ولا تحتمله.

تعمل اسرائيل طوال الوقت على الاستمرار في تهديداتها العسكرية ضد ايران. وهي تريد ان تبدو اقل تردداً من اميركا من ناحية مهاجمة ايران او اهداف محددة فيها. ولكن الا تنطق الحقيقة الواضحة الصريحة بأن اسرائيل مترددة مثل اميركا وأن ترددها لا يزال مستمراً للمدة نفسها التي يستمر فيها التردد الاميركي؟ ان الحذر يلازم اسرائيل ويصل الى حد تكبيلها. بل وصل الى حد ان اسرائيل تبدو في الآونة الاخيرة في موقف من يريد إقناع العالم بأنها قد صرفت النظر عن فكرة مهاجمة ايران عسكرياً اقتناعاً منها بأن العقوبات الاقتصادية التي تتابع اميركا اطلاقها ضد ايران تكفي لإثناء إيران عن خططها لامتلاك القدرة النووية.

نعود الى سؤالنا او فرضيتنا الاساسية في هذه المناقشة: لو كانت ايران هدفا سهلا بهذا الشكل او الى هذا الحد الذي راود افكار القيادات الاميركية والاسرائيلية، هل كان من الممكن لهذه القيادات ان تضيّع فرصة للإيقاع بإيران في مأزق عسكري او في هزيمة عسكرية تطيح بمكانتها الإقليمية التي تؤرق اسرائيل الآن اكثر مما يؤرقها اي مصدر آخر. لو كانت ايران هدفا سهلا لتهديدات الضربات العسكرية او لتأثيرات العقوبات الاقتصادية، هل كان من الممكن ان تتذرع الولايات المتحدة وإسرائيل أو إحداهما بما يظهر على كل منهما الآن من صبر او تردد امام ظروف تبدو مواتية؟ ويصدق هذا السؤال خاصة أن الولايات المتحدة وإسرائيل يعزوان الى ايران كل ما يواجههما ويواجه اصدقاءهما من حكام منطقة الشرق الاوسط من مشكلات ومصاعب، حتى ماهو داخلي منها. ايران تبدو من وجهة نظر صهيونية ـ وهذا التعبير كاف لضم تعبيري الولايات المتحدة واسرائيل ـ السبب المباشر الذي لا يوجد سبب غيره لمشكلات البحرين وقطر والسعودية ولبنان. كما تبدو ايران من وجهة نظر صهيونية مسؤولة عن مأساة سوريا الدموية وعن مأساة التخبط السياسي الذي لم تلوثه الدماء في مصر، وعن متاعب التخبط الدامي في ليبيا وغير الدامي في تونس، وعن اتجاه الاردن نحو مازق يوقعه في مآزق الربيع العربي. وهذا الاتجاه نحو تحميل ايران مسؤولية احداث المنطقة ككل ينطوي على نسيان متعمد لحقيقة تدخل اميركا وحلف الاطلسي في ليبيا، وحقيقة تزويد التنظيمات المتطرفة في سوريا بالاسلحة الاميركية والبريطانية والفرنسية، وكذلك بالمقاتلين من كل حدب وصوب.

لعل القيادة الحاكمة في اميركا تحتاج في هذه الآونة، اكثر ما تحتاج، الى الاطلاع على ما يكتبه المفكرون اليساريون الاميركيون والاوروبيون عن حقائق الاوضاع التي خلقها هؤلاء الحكام في المنطقة العربية. فهؤلاء يكتبون من المعلومات والآراء ما يؤكد ان اميركا واسرائيل هما المسؤولتان أولاً وأخيراً عن الصدامات الدموية التي تكاد تغطي المنطقة العربية بأكملها. ويكتبون في الوقت نفسه ما يؤكد ان ايران ابعد ما تكون عن أداء اي دور في هذا المسلسل الرهيب الذي تصفق له اسرائيل. وهم بطبيعة الحال ابعد ما يكونون عن الانحياز لإيران لأسباب دينية او عقائدية من اي نوع.

لو ان ايران كانت هدفا سهلا لما ترددت اميركا في غزوها بصدام دموي من النوع الذي تعاني منه سوريا وتخشى منه مصر، ولما تقاعست اسرائيل عن تنفيذ تهديداتها العسكرية ضدها.

 

  • فريق ماسة
  • 2012-10-25
  • 9694
  • من الأرشيف

ماذا لو كانت إيران هدفاً سهلاً

هل تستحق «عمليات» اسر السفن المدنية التي تبحر الى غزة محملة بالمساعدات الاساسية لسكانها ان تجري اسرائيل للتدرب عليها اكبر المناورات العسكرية مع الولايات المتحدة؟ بالطبع لا. فإن اسر سفينة مساعدات مدنية كل ركابها ـ بل وطاقمها ـ من المدنيين لا يحتاج لأكثر من سفينة حربية صغيرة الحجم ذات طاقم عسكري قليل العدد وأسلحة خفيفة، فلا صواريخ ولا مدفعية ولا أسلحة متفوقة في عيارها وتأثيرها. اذن فربما تحتاج اسرائيل الى هذه المناورات الضخمة المشتركة مع اميركا للتدرب على شن غارات بقاذفات القنابل والمقاتلات على الأهداف المدنية في غزة، حيث لا تواجه اسلحة مضادة للطائرات وحيث لم تتمكن الدفاعات البسيطة الفلسطينية في القطاع من إسقاط طائرة واحدة. مرة اخرى فإن الإجابة هي بالطبع لا. ولكن برامج المناورات التدريبية المشتركة بين اسرائيل والولايات المتحدة مستمرة في التصاعد والتضخم، موحية بأن ثمة هدفاً «مشتركاً» يستحق كل هذا الجهد وكل هذه النفقات (التي تتحملها اميركا من اجل إرضاء إسرائيل). غير ان نظرة الى الواقع الفعلي للامور تؤكد من دون عناء ان اسرائيل منذ حربها على لبنان في صيف العام 2006 لم تخض معركة حربية بالمفهوم التقليدي الحديث للكلمة. كل مجهود اسرائيل الحربي متوقف عند حدود اسر سفن المساعدات المدنية المتجهة الى غزة وقصف وإلقاء القنابل على غزة المحاصرة التي نكاد نقول إنها مغلوبة على امرها. لقد ذاقت اسرائيل في هذه الحرب طعم الهزيمة ولهذا تتجنب الوقوع مرة اخرى. واذا فهم هذا اللغز الغريب في سلوك اسرائيل، فإنه لا يبدو مفهوماً أبداً من جانب الولايات المتحدة، الشريك الكبير والقوي. ولكن وجود هذا الشريك في عمليات المناورات التدريبية المشتركة يضطرنا لأن نتذكر ان اسرائيل ـ وأحيانا اميركا معها ـ لا تكفان ابدا عن اطلاق التهديدات الحربية في اعلى لهجاتها ضد ايران منذ فترة طويلة. وهذه التهديدات تستوجب ان يكون مصاحباً لها اقوى استعراضات القوة العسكرية. وهذه تظهر في اقوى صورها في المناورات العسكرية التدريبية سواء كانت انفرادية او مشتركة. مع ذلك فقد طالت فترة التهديدات الاميركية – الاسرائيلية لإيران الى حد انها لم تعد تؤخذ من معظم دول العالم بجدية، ومن الواضح انها لم تفلح في إخافة إيران أو بث الذعر في نفوس الايرانيين. في الوقت نفسه تواصل الولايات المتحدة إظهار نفورها من فكرة عمل عسكري مشترك مع اسرائيل لمهاجمة ايران، وتحديد اهداف بعينها في ايران لوقف الجهد النووي، بصرف النظر عن تأكيدات ايران بأنه جهد نووي مدني خالص. ولكن الولايات المتحدة لا تلبث ان تعود فتشارك في هذه التهديدات ضد ايران وكأنما لترفع معنويات اسرائيل وتؤازرها، كما هي العادة، في جهود ترمي بالتأكيد الى تحجيم ايران وإثنائها عن عزمها بناء قوة نووية خاصة بها حتى لو كانت مدنية القصد. لو كانت إيران هدفاً سهلاً أحدث طائرة بدون طيار امريكية   ، اسقتطها ايران الكترونيا  وبحالة سليمة وأما عن العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة على ايران، يؤازرها الاتحاد الاوروبي، فإن الدعايات الغربية المصاحبة لها تبدو اقوى وأعلى صوتاً من تأثيرهذه العقوبات، حتى ليبدو ان انضمام الولايات المتحدة الى حليفتها اسرائيل في التهديد بين حين وآخر بمهاجمة ايران عسكرياً، لا يعدو ان يكون تعضيداً للقوة التي تتحدث عنها اميركا لتأثيرات العقوبات الاقتصادية. والامر المؤكد ان ايران تأخذ التهديدات الاميركية والاسرائيلية والاوروبية معاً بكل جدية. إن إيران قد اظهرت منذ بداية ثورتها في اواخر سبعينيات القرن الماضي انها تتعامل بكل جدية مع التهديدات التي تواجهها من القوى المعادية لهذه الثورة. ولكن ايران لا تبالغ في اظهار ردود أفعالها ازاء التهديدات الخارجية وأيضاً ازاء العقوبات الاقتصادية. وسط هذه الظروف الصعبة والمعقدة نجحت الولايات المتحدة ـ وبالتحديد خلال فترة رئاسة باراك اوباما ـ في ان تبدو في معظم الوقت في موقف المتنصل من مواقف اسرائيل تجاه ايران. وقد يتغير المشهد فتزداد الولايات المتحدة اقترابا من اسرائيل حتى في تهديداتها لإيران الى حد مشاركتها في هجوم عسكري على اهداف ايرانية محددة، في حال ما اذا نجح ميت رومني المرشح الجمهوري لرئاسة اميركا في الفوز بهذا المنصب. ولكن فوز رومني الجمهوري قد لا يؤدي بالضرورة الى هذه النتيجة، بل قد يؤدي الى عكسها، فنجد الرئيس الجمهوري اقل من المرشح الجمهوري، وهو الشخص نفسه، حماساً لإسرائيل وأهدافها العسكرية ضد إيران وضد غيرها. وفي كل الاحوال وبغض النظر عن الوجهة التي سيتخذها رئيس اميركا القادم فإن ايران نجحت طوال السنوات من التهديدات الاسرائيلية، والاميركية احيانا، في المحافظة على هيبتها العسكرية والسياسية وعلى تماسكها الاقتصادي في وجه العقوبات الاقتصادية القاسية. ولكن لهذه المسألة جانباً آخر يتضح لنا بجلاء اذا استطعنا ان نجيب على سؤال اساسي نطرحه على الطريقة التي طرحنا بها اسئلة اخرى بدأنا بها هذا المقال. والسؤال هو: ما الذي استطاعت ايران ان تفعله بالعلاقات الاميركية ـ الاسرئيلية على مدى السنوات الماضية؟ وتبدأ الإجابة الجادة على هذا السؤال بفرضية بالغة الأهمية تتمثل في التأكيد بأنه لو ان ايران كانت هدفاً سهلاً لأي من عدويها الرئيسين اسرائيل وأميركا لما امكن ان يستمر الوضع منذ سنوات طويلة. لقد استطاعت ايران ان تبرهن لأصدقائها وأعدائها في العالم على السواء انها ليست هدفاً سهلاً. اي انها استطاعت ان تطمئن الدول الصديقة الى قدرتها على مواجهة التهديدات والعقوبات مع الوفاء الكامل بكل واجباتها التي تفرضها العلاقات الدولية. واستطاعت بالمثل ان تنبه الدول غير الصديقة، مثل دول الاتحاد الاوروبي، الى انها لا تستسلم للضغوط العسكرية او الاقتصادية او السياسية. والنتيجة ان علاقات ايران التجارية مع الدول الاوروبية استمرت ولم تنقطع على الرغم من الضغوط التي تمارسها اميركا لتطبيق عقوباتها الاقتصادية على ايران بحذافيرها. وأما بالنسبة للأعداء فإن إيران تمكنت من إلزامهم حالة من التردد في المواجهة العسكرية. وقد تبدو اميركا اكثر تردداً من اسرائيل في وضع تهديداتها ضد ايران موضع التنفيذ لاعتبارات تتعلق بمركز الدولة الاقوى في العالم الذي تحتله، وما يمكن ان يلحق به اذا فشلت في مواجهة عسكرية ضد إيران، او اذا نالها من الاضرار المادية كرد من الجانب الايراني الى الحد الذي لا تتوقعه ولا تحتمله. تعمل اسرائيل طوال الوقت على الاستمرار في تهديداتها العسكرية ضد ايران. وهي تريد ان تبدو اقل تردداً من اميركا من ناحية مهاجمة ايران او اهداف محددة فيها. ولكن الا تنطق الحقيقة الواضحة الصريحة بأن اسرائيل مترددة مثل اميركا وأن ترددها لا يزال مستمراً للمدة نفسها التي يستمر فيها التردد الاميركي؟ ان الحذر يلازم اسرائيل ويصل الى حد تكبيلها. بل وصل الى حد ان اسرائيل تبدو في الآونة الاخيرة في موقف من يريد إقناع العالم بأنها قد صرفت النظر عن فكرة مهاجمة ايران عسكرياً اقتناعاً منها بأن العقوبات الاقتصادية التي تتابع اميركا اطلاقها ضد ايران تكفي لإثناء إيران عن خططها لامتلاك القدرة النووية. نعود الى سؤالنا او فرضيتنا الاساسية في هذه المناقشة: لو كانت ايران هدفا سهلا بهذا الشكل او الى هذا الحد الذي راود افكار القيادات الاميركية والاسرائيلية، هل كان من الممكن لهذه القيادات ان تضيّع فرصة للإيقاع بإيران في مأزق عسكري او في هزيمة عسكرية تطيح بمكانتها الإقليمية التي تؤرق اسرائيل الآن اكثر مما يؤرقها اي مصدر آخر. لو كانت ايران هدفا سهلا لتهديدات الضربات العسكرية او لتأثيرات العقوبات الاقتصادية، هل كان من الممكن ان تتذرع الولايات المتحدة وإسرائيل أو إحداهما بما يظهر على كل منهما الآن من صبر او تردد امام ظروف تبدو مواتية؟ ويصدق هذا السؤال خاصة أن الولايات المتحدة وإسرائيل يعزوان الى ايران كل ما يواجههما ويواجه اصدقاءهما من حكام منطقة الشرق الاوسط من مشكلات ومصاعب، حتى ماهو داخلي منها. ايران تبدو من وجهة نظر صهيونية ـ وهذا التعبير كاف لضم تعبيري الولايات المتحدة واسرائيل ـ السبب المباشر الذي لا يوجد سبب غيره لمشكلات البحرين وقطر والسعودية ولبنان. كما تبدو ايران من وجهة نظر صهيونية مسؤولة عن مأساة سوريا الدموية وعن مأساة التخبط السياسي الذي لم تلوثه الدماء في مصر، وعن متاعب التخبط الدامي في ليبيا وغير الدامي في تونس، وعن اتجاه الاردن نحو مازق يوقعه في مآزق الربيع العربي. وهذا الاتجاه نحو تحميل ايران مسؤولية احداث المنطقة ككل ينطوي على نسيان متعمد لحقيقة تدخل اميركا وحلف الاطلسي في ليبيا، وحقيقة تزويد التنظيمات المتطرفة في سوريا بالاسلحة الاميركية والبريطانية والفرنسية، وكذلك بالمقاتلين من كل حدب وصوب. لعل القيادة الحاكمة في اميركا تحتاج في هذه الآونة، اكثر ما تحتاج، الى الاطلاع على ما يكتبه المفكرون اليساريون الاميركيون والاوروبيون عن حقائق الاوضاع التي خلقها هؤلاء الحكام في المنطقة العربية. فهؤلاء يكتبون من المعلومات والآراء ما يؤكد ان اميركا واسرائيل هما المسؤولتان أولاً وأخيراً عن الصدامات الدموية التي تكاد تغطي المنطقة العربية بأكملها. ويكتبون في الوقت نفسه ما يؤكد ان ايران ابعد ما تكون عن أداء اي دور في هذا المسلسل الرهيب الذي تصفق له اسرائيل. وهم بطبيعة الحال ابعد ما يكونون عن الانحياز لإيران لأسباب دينية او عقائدية من اي نوع. لو ان ايران كانت هدفا سهلا لما ترددت اميركا في غزوها بصدام دموي من النوع الذي تعاني منه سوريا وتخشى منه مصر، ولما تقاعست اسرائيل عن تنفيذ تهديداتها العسكرية ضدها.  

المصدر : السفير/ سمير كرم


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة