دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
الشعر في انحسار، في تراجع. العالم الآن هو عالم الرواية الضخمة بأحداثها التراجيدية العاصفة ووقائعها السحرية الأسطورية وما يكتنفها من مفاجآت وإدهاشات وعرض جذاب في السرد وأسلوب شعري في التقانة ووسائل فنية مستحدثة في الإغواء والإغراء،
وعالم الرواية الملحمية ذات الأبعاد المتشابكة والشخصيات الكثيرة وفنون المونولوجات الداخلية والأزمنة المتقاطعة والوثائق المثبتة والتسجيلية الحوارية والبيانات التعبيرية عن واقع الحال وغد المآل...وكلام كثير يقال في هذا المضمار ولا ينتهي إلى قرار...يبدو أن عصر الشعر يا شقيق القصيدة قد ولّى في المجتمع الغربي الرأسمالي بسبب سيطرة النزعة الصناعية المادية على أنساق حياته الاجتماعية ووقائعها، وأنه مازال يتنفس إلى حد ما في مجتمعاتنا العربية، وفي مجتمعات الدول التي لا تزال تنحو نحواً اشتراكياً، وفي مجتمعات «العالم الثالث» الخائب.
قال لي هذا صديق كان في جولة ثقافية أوروبية ثم أردف:
تصوّر مثلاً، في فرنسا.. الشاعر المعروف يطبع من ديوانه ثلاثة آلاف نسخة فقط. والدار التي تصدر له هذا الديوان تضع يدها على قلبها وتعد حتى الثلاثة آلاف مرة قبل أن تفعل ذلك، كأنها تقوم بمغامرة غير محمودة العواقب على الأغلب وتنتظر سنوات ليغطي تكاليف طبعه أو ريع ابتياعه، أما الشاعر الناشئ الجديد المجهول الاسم والإنتاج، فيطبع من ديوانه على نفقته الخاصة خمسمئة نسخة توزع غالباً على الأقرباء والأصدقاء والمعارف والمعجبين كهدايا أو بسعر تشجيعي، ولا يكتب عنه على الأغلب الأعم حرف واحد في الصحافة الأدبية، وإن كُتب فقدحاً وذماً قد يكون، أو مدحاً مجاملاً فارغاً من القيمة والمعنى.
ودّعت صديقي وأنا أتساءل بحسرة بيني وبين نفسي:
متى تهجس الجماهير العربية بالكتاب أياً كان نوعه شعراً أم رواية أم نقداً أدبياً أم ثقافة أم علماً كما تهجس بالخبز؟
(2)
قال لي صديقي الشاعر وهو في حالة يأس وإحباط، شكا بحرقة افتقاد وحزن فراق وهلع من قادم موشك أو مصيبة طارئة: خائف أنا خائف. لقد جف النبع وغاض الماء. أحس بالمفازة في صدري. أتنفس الرمل والجنون. أمضغ الصبّار والشوك، أزدردالحصى والزجاج. لقد انتهيت كشاعر.. منذ سنة لم أكتب سطراً في قصيدة. وداعاً للحروف والكلمات، والفواصل والإشارات. وداعاً للذة العذاب المعطاءة ونشوة الجهد المخصب ومخاض الخلق الفني. وداعاً لكنوز حياتي النورانية ومسرّاتي الإبداعية، تؤول إلى ظلمة مدلهمّة وحزن بلا مخاض.
وغصّ حلقه بريقه، فأشفقت عليه حنوّاً...
قلت له مطمئناً: يا صديقي أنت في تجربة المصهر الآن تعاني مكابدة الجدب والمحل. وتتقلب على نار احتراق الفراغ وما يخلفه من رماد اليأس. لكنك منبثق ذات لحظة كبركان تنتظر زلزالاً يهزّك حتى القاع أو طوفاناً تنداح في أمواجه ولا منقذ. إنها أشهر حمل الأفكار والعواطف والأخيلة والأساطير وأشهر اكتناز التجارب والمواقف والأحلام والذكريات. أشهر دوار الموسيقا والأنغام ودورانها في دورة أوردتك الدموية وشرايينك الشعرية. أشهر اختزان التجليات والصور والتعلّات والفكر. وغداً، ستكون الولادة كالنهر مندفعاً، والعاصفة هبوباً أو الصباح ألقاً والنسمة بوحاً.
وغادرني صديقي الشاعر مبتسماً وطيف قصيدة على شفتيه...!
(3)
لوكان المتنبي يحيا في هذا الزمان لخصى كل الشعراء سلفيين ومحدثين. ما أحمق الذين قتلوه وما أغبى فعلهم... ينبغي أن يكون لكل عصر متنبيه حتى يُخمل شعراء مرحلته بروعة شاعريته وقوة إبداعه.
هتف أحد المثقفين (التراداثيين) -كلمة من صياغتي منحوتة من التراثيين والحداثيين - هتافه السابق هذا و سألني: ما رأيك... ما دفاعك؟ لويت وجهي عنه وتمتمت: لا شيء... لكَ منطقك وعصرك ولي منطقي وعصري.
(4)
-تعال بنا، إنه شاعر يُسمع.
- لا، لا أرجوك. مثلما أقسمت بالمقدسات ألا أشاهد أفلاماً عربيةً ضحلة مضموناً وشكلاً وتمثيلاً وعرضاً لأنها تشوه التفكير وتسطح الذائقة وتروج للتفاهة، أقسمت كذلك ألا أحضر أمسية شعرية لشاعر تقليدي يجترّ الماضي بكل تقاليده الشعرية البائسة في النظم الغث ونادراً جداً ما يضيف إليه المستقبل بجماع استشرافاته وإرهاصاته أو بملامح منها على أقل طموح
بقلم ممدوح سكاف
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة