دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
في مثل هذه الأيام من العام 1952، طوت مصر بالانقلاب العسكري الذي طورته المواجهة مع الغرب الاستعماري، ومن ضمنه إسرائيل التي كانت قد أقامت كيانها السياسي بالقوة العسكرية على ارض فلسطين، إلى ثورة شعبية عارمة، سرعان ما امتد تأثيرها إلى الوطن العربي، مشرقاً ومغرباً، ومعه أفريقيا جميعاً ومعظم دول آسيا البعيدة على قرب.
كانت الخطوة الأولى على طريق الثورة إسقاط النظام الملكي، وإعادة الاعتبار إلى "الشعب" باعتباره مصدر الشرعية، ثم توالت الخطوات نحو بناء الدولة القادرة ذات الدور الحاسم عربياً، والأساسي على المستوى الدولي وعبر منظومة عدم الانحياز التي شكلت رافعة لنضال الشعوب في آسيا وأفريقيا من اجل التحرر والاستقلال.
صارت القاهرة عاصمة كونية، وصار لقيادتها في شخص رئيسها جمال عبد الناصر، الموقع الممتاز في السياسة الدولية، خصوصاً بعد الانتصار في معركة تأميم قناة السويس (في مثل هذه الأيام من العام 1956) ثم في صدّ العدوان الثلاثي الذي شاركت فيه بريطانيا وفرنسا مع العدو الإسرائيلي، وكان هدفه الفعلي القضاء على الثورة قبل أن يشتد عودها وتتولى قيادة حركة تحرير الشعوب التي استطالت عهود استعبادها وحرمانها من أن تكون أوطانها لها.
ولقد أنجزت "ثورة 23 يوليو"، بقيادة جمال عبد الناصر، ما كان في مستوى الأحلام، على صعيد إنصاف جموع الشعب المصري وتخليصه من أسباب القهر الاجتماعي، وما كان يتجاوز الأماني على مستوى تحقيق حلم الوحدة بين شعوب الأمة العربية الواحدة، عبر تحدي قوى الهيمنة الأجنبية..، خصوصاً وقد جاءت الولايات المتحدة الاميركية إلى سدة القيادة في الغرب مقدمة نفسها كنصير للشعوب، في حين لم تفعل غير تحديث الاستعمار واستبداله بالهيمنة الاقتصادية والتحكم بالقرار السياسي من موقعها كقوة عظمى كونية "مؤهلة" لقيادة العالم!
وهكذا قاتلت الإدارة الاميركية "دولة الوحدة"، منذ لحظة إعلانها، وحرضت قيادة ثورة العراق في 14 تموز ( يوليو) 1958، ضدها، مشتركة في الجهد لمحاربتها مع "عدوها" الاتحاد السوفياتي... واستمر التحريض حتى نجح "الانفصاليون" في سوريا، بالتواطؤ مع مختلف أعداء الغد العربي الأفضل، يساراً ويميناً، على فك عرى الوحدة بين مصر وسوريا، مستفيدين من أخطاء فادحة في التطبيق، ومن مناعة الشعور الكياني في "إقليمي" الدولة الجديدة.
كانت "فلسطين"، التي جاءت "ثورة 23 يوليو" من رحمها، احد عناوين النضال في معركة تحرير إرادة الأمة... وهكذا ساعد جمال عبد الناصر على استيلاد كيان سياسي لهذه القضية المقدسة، فتم إنشاء منظمة التحرير الوطني الفلسطيني بمؤسساتها السياسية والعسكرية (جيش التحرير).
وبرغم "النكسة" التي تسببت بها غفلة القيادات العسكرية وابتعادها عن مسؤولياتها، فسرعان ما عادت مصر جمال عبد الناصر إلى الميدان، وخاضت حرب الاستنزاف، تمهيداً واستعداداً للمواجهة مع العدو الإسرائيلي، التي شاء القدر أن يكون موعدها بعد رحيل مَن وضع خطتها وأعدّ لها القوة المؤهلة لأن تحقق "العبور" العظيم في 6 تشرين الأول - أكتوبر - العاشر من رمضان - 1973.
ولقد كان أمراً طيباً أن يستذكر الرئيس المصري الدكتور محمد مرسي ثورة 23 يوليو، باعتبارها الجمهورية الأولى، وإن هو أغفل أي ذكر لقائدها جمال عبد الناصر... ولكنه لم يستطع أن يتجاهل الإنجازات العظيمة مثل التمكين لاستقلال القرار الوطني، واعتماد سياسة اجتماعية تهدف إلى إنصاف المواطنين والمساعدة على إخراجهم من ليل الفقر والجهل والمرض.
كذلك كان أمراً طيباً أن يعترف الرئيس مرسي بنجاح ثورة 23 يوليو في جعل الشعب المصري مصدر السلطة والشرعية، ودعم حركات التحرير في العالم العربي والإسلامي... وأن يخلص إلى أنها نجحت في أهداف وقصّرت عن إنجاز أهدافها كاملة.
على أن الاعتراف بثورة بـ "23 يوليو" كان لا بد أن يستتبع إدانة نظام الطغيان الذي أسقطه الميدان "ليعيد الأمور إلى نصابها"، مقراً بأن "ثورة يناير 2011" هي امتداد للتاريخ النضالي للشعب المصري.
ولم يكن مفاجئاً أن يقفز الرئيس مرسي عن مسؤوليات مصر العربية، وأن يخلو خطابه من أي ذكر للعدو الإسرائيلي، وأن يتجاهل أن "ثورة 23 يوليو" 1952 كانت في اخطر جوانبها رداً على الهزيمة التي ألحقها هذا العدو بالأمة جميعاً، معززاً بقدرات جاءته من أقوى الدول وأعتاها، في الغرب والشرق معاً.
كذلك لم يكن مفاجئاً أن يحصر الرئيس مرسي كلماته المكتوبة في الهموم المصرية الداخلية، وكأن مصر جزيرة معزولة في المحيط، وأن زيارات كبار المسؤولين الاميركيين خصوصاً، مدنيين وعسكريين، والغربيين عموماً، إنما تمت للقيام بواجب التهنئة على انتصار الدكتور مرسي بالرئاسة كبشارة بتولي الإخوان المسلمين زمام الأمور في مصر المفصولة عن العدو الإسرائيلي برمال سيناء المجردة من السلاح، والمعزولة عن الهموم العربية الثقيلة لانشغالها بذاتها.
وإذا كان يذكر للرئيس محمد مرسي انه لم يتجاهل "الثورة" التي أقامت "الجمهورية الأولى"، فان إصراره على الابتعاد عن الهموم العربية التي تدق أبواب القاهرة، كل صباح، أمر لا يتسق مع مبادرته الى تخصيص المملكة العربية السعودية التي لم تشتهر بالكرم مع مصر عموماً، ومع مصر الثورة خصوصاً، بزيارته الرسمية الأولى.
ربما يرى البعض في هذه الملاحظات تزيداً عربياً على الموقف المصري الرسمي، لكن العرب في مختلف أقطارهم كانوا، وما زالوا، وسيبقون ينظرون إلى القاهرة على أنها عاصمة قرارهم، وصاحبة الحق الشرعي في أن تكون قيادتهم، ما دامت تريد أن تتشرف بهذا الدور الحيوي والضروري والذي لا غنى عنه ولا بديل منه، في أي تصور لغد عربي أفضل.
إن أحداً من العرب لا يريد إحراج مصر، وهي لما تفرغ من إعادة بناء نظامها بالثورة... لكن هذا المواطن يتوقع أن يسمع من القيادة الجديدة في مصر، ومن الرئيس مرسي شخصياً، ما يطمئنه إلى أن مصر لن تتخلى عن دورها القيادي وعن مسؤولياتها القومية، وفي الطليعة منها فلسطين. وكان لافتاً للنظر أن يستقبل الرئيس المصري القيادات الفلسطينية المختلفة في ما بينها، من دون نتائج تذكر لهذه اللقاءات. ولعل ما يزيد في غموض الموقف الرسمي المصري حالياً القفز من فوق تحديد أي موقف من إسرائيل التي لا تتوقف عن "مصادرة" الأرض الفلسطينية المحتلة وعن زرعها بالمستوطنات التي التهمت معظم أراضيها، وبالذات القدس، حيث بات المسجد الأقصى جزيرة معزولة في بحر من المستوطنات التي تكاد تحجب عنه نور الشمس.. فضلاً عن المصلين.
نقطة البداية في العمل الثوري في مصر معروفة لم ينسها احد ولا يغفل عن ذكرها احد، إنها: يوم 23 يوليو 1952.
وذلك هو يوم العيد في هذه الأمة المحرومة من الأعياد حتى إشعار آخر.
السفير
المصدر :
الماسة السورية
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة