يبدو أن خيال العلماء لا تحده سوى المشاكل التقنية التي تمنعهم، إلى حين، من تنفيذ أفكارهم، المتطرفة بنظر البعض، والعبقرية بنظر آخرين. لكن، وفي كل الحالات، فإن ما أعلنه أمس علماء أميركيون عن تمكنهم من تصنيع أول «خلية صناعية حية» يشكل خطوة كبيرة في اتجاه استخدام الكائنات الحية لأغراض صناعية أو طبية، وإن كان يطرح أيضا الكثير من الأسئلة الأخلاقية

فقد تمكن الفريق البحثي في مؤسسة «جي. غريغ فانتر» للأبحاث من تشكيل جرثومة حية باستخدام مواد كيميائية تحاكي الجينوم الخاص بهذه الجرثومة، ثم إدخالها في جرثومة أخرى تم إفراغها من محتواها الوراثي لتعود إلى الحياة والتكاثر طبيعيا

لكن من المهم، التأكيد على أن تشكيل الجرثومة الاصطناعية لم يأت من الصفر أي أن العلماء لم «يخلقوا» جرثومة جديدة بل اعتمدوا على فهم طبيعة جرثومة حية موجودة أصلا ومحاكاتها بشكل اصطناعي

وقد وصف العالم الأميركي غريغ فانتر نتيجة ذلك بأنه «أول خلية حية ولدت من الكومبيوتر وهي قادرة على التكاثر بشكل طبيعي»!. وهو أمر برغم بساطة شرحه تطلب 15 سنة من العمل و40 مليون دولار للوصول إليه. والملفت في هذا الانجاز الذي نشرت دورية «ساينس» تفاصيله أمس، أنه اعتمد على تقنيات مشروع الجينوم الذي مكّن العلماء من وضع خريطة الجينوم الخاص بجرثومة "ميكوبلازما"

البسيط والمؤلف من كروموزوم (صبغية) واحد، ثم إدخال المعطيات إلى قاعدة بيانات في كومبيوتر قام من خلال برنامج خاص بالتحكم في تصنيع جينات الجرثومة باستخدام مواد كيميائية شبيهة بالمواد التي تشكل قواعد الحمض الريبي النووي، وصولا إلى تشكيل جينوم كامل اصطناعي يحتوي على أكثر من ألف جينة

لاحقا تم إدخال الجينوم الاصطناعي في خلية جرثومة من نوع آخر أفرغت من محتواها الوراثي، لتشكل بذلك مجرد وعاء استقبال للجينوم الاصطناعي، المكون من حوالي مليون زوج من القواعد الريبية. والمعلوم أن تنظيم الأحماض النووية بشكل معين داخل نواة الخلية الحية هو الذي يؤدي إلى تشكيل الجينات ومجموع الجينات يسمى الجينوم. لكن المفارقة هي في الدقة العالية التي يحتاجها هذا العمل فبحسب العلماء، وعند إجراء الاختبار أول مرة، لم يحصلوا على نتيجة واعتقدوا ان التجربة فشلت لكنهم أعادوا مراجعة تشكيلة الكروموزوم ليكتشفوا ان خطأ في نقطة واحدة من مليون نقطة فيه، هي التي أوقفت العملية

وفانتر كان أحد أركان مشروع وضع خريطة الجينوم البشري والكثير من الأبحاث والتقنيات الأخرى التي استندت على ذلك المشروع الضخم. وهو تمكن وفريقه قبل سنوات قليلة أيضا من تحويل أحد أنواع الجراثيم الموجودة لدى الماعز إلى أخرى موجودة لدى الماشية من خلال زرع الجينوم الكامل لجرثومة الأبقار في نواة جرثومة الأغنام

ويتوقع العلماء أن يكون لهذا الانجاز تأثيرات كبيرة وإيجابية لجهة فهم أساسيات الخلايا الحية وستؤدي إلى ظهور تقنيات جديدة وأدوات لتطوير اللقاحات والأدوية كما ستمكنهم من توظيف هذه الخلايا أو الكائنات الحية البسيطة كالجراثيم في مجالات عدة مثل تنقية المياه أو إنتاج الأغذية أو الوقود الحيوي وغيرها. والحال أن غريغ فانتر نفسه بحسب وكالة «أسوشيتد برس» دخل في اتفاق مع شركة «إكسون - موبيل» للنفط من أجل تحويل أحد أنواع الطحالب إلى الوقود

غير أن القلق الذي برز من نجاح تجربة فانتر وفريقه كان لجهة إمكانية استخدام هذه التقنية في إنتاج أسلحة بيولوجية كما لجهة التأثيرات الضارة على الصحة والبيئة. وهو نقاش يتكرر عند كل نقلة علمية مهمة. وقالت وكالة «رويترز» أن الرئيس الأميركي باراك أوباما طلب من مستشاريه في اللجنة الرئاسية لأخلاقيات علوم الأحياء أن يعدوا له تقريرا حول إيجابيات وسلبيات هذا المشروع على الصحة والبيئة والأمن تمهيدا لوضع توصيات حول الإجراءات الواجب اتخاذها من أجل تأمين احترام الأخلاقيات عند استخدام هذه التقنية. كما أن لجنة الطاقة والتجارة في مجلس النواب الأميركي ستعقد جلسة الأسبوع المقبل لمناقشة التجربة وتبعاتها. في المقابل أعلن فانتر أنه وفريقه استشاروا على مدى السنوات الماضية العديد من الخبراء في مجال الأخلاقيات منذ بدء التجربة

ورأى الخبير في أخلاقيات علوم الأحياء آرثر كابلان في تعليق نشرته مجلة «نايتشر» حول الموضوع أن هذه التجربة «هي واحدة من أهم الانجازات العلمية في تاريخ البشرية لأنها تجادل فكرة أن الحياة تحتاج لقوة خاصة لتوجد كما تغير نظرتنا لأنفسنا وللكون.» وهو ما يناقضه أستاذ الهندسة الوراثية في جامعة بوسطن جيم كولينز في «نايتشر» أيضا فيعتبر أن «العلماء لا يعرفون الكثير عن علم الأحياء كي يخلقوا حياة. وعمل فانتر وزملاؤه هو تقدم مهم في قدرتنا على إعادة هندسة الكائنات الحية ولكن من دون أن نتمكن من صناعة حياة من لا شيء

من جهته، أعلن الفاتيكان ان توصل العلماء إلى إنتاج خلية حية اصطناعية مخبرياً محرك ممتاز لكنه «ليس الحياة». وفي أول رد فعل للفاتيكان على هذا الانجاز العلمي، كتب كارلو بيليني في صحيفة «أوسيرفاتوري رومانو»، لسان حال دولة الفاتيكان: «بعيداً عن التهويل الإعلامي وعناوين الصحف، فإن نتيجة مثيرة للاهتمام قد تحققت، ويمكن ان تجد مساحة للتطبيق كما يجب أن تكون لها قواعد، مثل سائر المسائل التي تمس صميم الحياة». ولفت بيليني إلى أن «الهندسة الوراثية يمكن أن تجلب الخير، إذ يكفي مجرد التفكير باحتمال علاج أمراض الكروموزومات». وأضاف "إن الأمر يتلخص في التحلي بالشجاعة والحذر في آن واحد"
  • فريق ماسة
  • 2010-05-21
  • 12481
  • من الأرشيف

أول خلية اصطناعية نحو هندسة الحياة جرثومة حية .. والدها..جهاز كومبيوتر

يبدو أن خيال العلماء لا تحده سوى المشاكل التقنية التي تمنعهم، إلى حين، من تنفيذ أفكارهم، المتطرفة بنظر البعض، والعبقرية بنظر آخرين. لكن، وفي كل الحالات، فإن ما أعلنه أمس علماء أميركيون عن تمكنهم من تصنيع أول «خلية صناعية حية» يشكل خطوة كبيرة في اتجاه استخدام الكائنات الحية لأغراض صناعية أو طبية، وإن كان يطرح أيضا الكثير من الأسئلة الأخلاقية فقد تمكن الفريق البحثي في مؤسسة «جي. غريغ فانتر» للأبحاث من تشكيل جرثومة حية باستخدام مواد كيميائية تحاكي الجينوم الخاص بهذه الجرثومة، ثم إدخالها في جرثومة أخرى تم إفراغها من محتواها الوراثي لتعود إلى الحياة والتكاثر طبيعيا لكن من المهم، التأكيد على أن تشكيل الجرثومة الاصطناعية لم يأت من الصفر أي أن العلماء لم «يخلقوا» جرثومة جديدة بل اعتمدوا على فهم طبيعة جرثومة حية موجودة أصلا ومحاكاتها بشكل اصطناعي وقد وصف العالم الأميركي غريغ فانتر نتيجة ذلك بأنه «أول خلية حية ولدت من الكومبيوتر وهي قادرة على التكاثر بشكل طبيعي»!. وهو أمر برغم بساطة شرحه تطلب 15 سنة من العمل و40 مليون دولار للوصول إليه. والملفت في هذا الانجاز الذي نشرت دورية «ساينس» تفاصيله أمس، أنه اعتمد على تقنيات مشروع الجينوم الذي مكّن العلماء من وضع خريطة الجينوم الخاص بجرثومة "ميكوبلازما" البسيط والمؤلف من كروموزوم (صبغية) واحد، ثم إدخال المعطيات إلى قاعدة بيانات في كومبيوتر قام من خلال برنامج خاص بالتحكم في تصنيع جينات الجرثومة باستخدام مواد كيميائية شبيهة بالمواد التي تشكل قواعد الحمض الريبي النووي، وصولا إلى تشكيل جينوم كامل اصطناعي يحتوي على أكثر من ألف جينة لاحقا تم إدخال الجينوم الاصطناعي في خلية جرثومة من نوع آخر أفرغت من محتواها الوراثي، لتشكل بذلك مجرد وعاء استقبال للجينوم الاصطناعي، المكون من حوالي مليون زوج من القواعد الريبية. والمعلوم أن تنظيم الأحماض النووية بشكل معين داخل نواة الخلية الحية هو الذي يؤدي إلى تشكيل الجينات ومجموع الجينات يسمى الجينوم. لكن المفارقة هي في الدقة العالية التي يحتاجها هذا العمل فبحسب العلماء، وعند إجراء الاختبار أول مرة، لم يحصلوا على نتيجة واعتقدوا ان التجربة فشلت لكنهم أعادوا مراجعة تشكيلة الكروموزوم ليكتشفوا ان خطأ في نقطة واحدة من مليون نقطة فيه، هي التي أوقفت العملية وفانتر كان أحد أركان مشروع وضع خريطة الجينوم البشري والكثير من الأبحاث والتقنيات الأخرى التي استندت على ذلك المشروع الضخم. وهو تمكن وفريقه قبل سنوات قليلة أيضا من تحويل أحد أنواع الجراثيم الموجودة لدى الماعز إلى أخرى موجودة لدى الماشية من خلال زرع الجينوم الكامل لجرثومة الأبقار في نواة جرثومة الأغنام ويتوقع العلماء أن يكون لهذا الانجاز تأثيرات كبيرة وإيجابية لجهة فهم أساسيات الخلايا الحية وستؤدي إلى ظهور تقنيات جديدة وأدوات لتطوير اللقاحات والأدوية كما ستمكنهم من توظيف هذه الخلايا أو الكائنات الحية البسيطة كالجراثيم في مجالات عدة مثل تنقية المياه أو إنتاج الأغذية أو الوقود الحيوي وغيرها. والحال أن غريغ فانتر نفسه بحسب وكالة «أسوشيتد برس» دخل في اتفاق مع شركة «إكسون - موبيل» للنفط من أجل تحويل أحد أنواع الطحالب إلى الوقود غير أن القلق الذي برز من نجاح تجربة فانتر وفريقه كان لجهة إمكانية استخدام هذه التقنية في إنتاج أسلحة بيولوجية كما لجهة التأثيرات الضارة على الصحة والبيئة. وهو نقاش يتكرر عند كل نقلة علمية مهمة. وقالت وكالة «رويترز» أن الرئيس الأميركي باراك أوباما طلب من مستشاريه في اللجنة الرئاسية لأخلاقيات علوم الأحياء أن يعدوا له تقريرا حول إيجابيات وسلبيات هذا المشروع على الصحة والبيئة والأمن تمهيدا لوضع توصيات حول الإجراءات الواجب اتخاذها من أجل تأمين احترام الأخلاقيات عند استخدام هذه التقنية. كما أن لجنة الطاقة والتجارة في مجلس النواب الأميركي ستعقد جلسة الأسبوع المقبل لمناقشة التجربة وتبعاتها. في المقابل أعلن فانتر أنه وفريقه استشاروا على مدى السنوات الماضية العديد من الخبراء في مجال الأخلاقيات منذ بدء التجربة ورأى الخبير في أخلاقيات علوم الأحياء آرثر كابلان في تعليق نشرته مجلة «نايتشر» حول الموضوع أن هذه التجربة «هي واحدة من أهم الانجازات العلمية في تاريخ البشرية لأنها تجادل فكرة أن الحياة تحتاج لقوة خاصة لتوجد كما تغير نظرتنا لأنفسنا وللكون.» وهو ما يناقضه أستاذ الهندسة الوراثية في جامعة بوسطن جيم كولينز في «نايتشر» أيضا فيعتبر أن «العلماء لا يعرفون الكثير عن علم الأحياء كي يخلقوا حياة. وعمل فانتر وزملاؤه هو تقدم مهم في قدرتنا على إعادة هندسة الكائنات الحية ولكن من دون أن نتمكن من صناعة حياة من لا شيء من جهته، أعلن الفاتيكان ان توصل العلماء إلى إنتاج خلية حية اصطناعية مخبرياً محرك ممتاز لكنه «ليس الحياة». وفي أول رد فعل للفاتيكان على هذا الانجاز العلمي، كتب كارلو بيليني في صحيفة «أوسيرفاتوري رومانو»، لسان حال دولة الفاتيكان: «بعيداً عن التهويل الإعلامي وعناوين الصحف، فإن نتيجة مثيرة للاهتمام قد تحققت، ويمكن ان تجد مساحة للتطبيق كما يجب أن تكون لها قواعد، مثل سائر المسائل التي تمس صميم الحياة». ولفت بيليني إلى أن «الهندسة الوراثية يمكن أن تجلب الخير، إذ يكفي مجرد التفكير باحتمال علاج أمراض الكروموزومات». وأضاف "إن الأمر يتلخص في التحلي بالشجاعة والحذر في آن واحد"


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة