دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
في الوقت الذي تستعدّ فيه إسرائيل لإنجاز المناورة الأكبر في تاريخها للجبهة الداخلية، تشعر أن المخاطر تتعاظم على هذه الجبهة، خصوصاً من لبنان، أكثر من أي وقت مضى. وليس صدفة أن القادة والمعلقين الإسرائيليين يدورون ويحومون حول رقم الأربعين ألف صاروخ التي يقولون إن «حزب الله» يمتلكها، والتي بتعزيزها بصواريخ نوعية ودقيقة، غدت ردعاً يردع الردع الإسرائيلي المعهود. ولم يعد الخوف من الحرب سمة يمكن أن تعثر عليها فقط في أحد جانبي الجبهة، بل بات بديهياً أن تراه في الجانبين، مما يجعل وقوعها أكثر صعوبة من أي وقت مضى
ويثير الواقع المستجد هذا، سجالاً لا يتوقف بين ساسة وعسكريين ومعلقين في إسرائيل حول ما جرى وما الذي قاد إلى هذا الوضع. ثمة من يستغل ذكرى مرور عشر سنوات على الانسحاب الإسرائيلي من الجنوب اللبناني في العام 2000 مناسبة لمراجعة عميقة ولحساب نفس عسير
فالعميد احتياط نوعم بن تسفي، آخر قادة اللواء الغربي للجيش الإسرائيلي في الجنوب اللبناني، يستذكر مع صحيفة «هآرتس» تلك الأيام ولا يشك في طبيعة ما جرى قبل عشر سنوات. «لم يكن الأمر خروجاً، ولم يكن انسحاباً. لقد كان هروباً بكل بساطة». وبن تسفي هو من أشرف على الانسحاب يوم 24 أيار العام 2000 بعدما قاد هذا اللواء لأربع سنوات تقريباً
وكان بن تسفي يتخذ من بنت جبيل مقراً لقيادة لوائه، مما خلق في حرب لبنان الثانية ( 2006) مفارقة مهمة وهي ان إحدى أشرس المعارك دارت حول المقر السابق لقيادة اللواء الغربي هذا. وتكمن المفارقة في أن الجيش الإسرائيلي أراد من العودة إلى مقر هذا اللواء إثبات قدرته على تحقيق «صورة النصر»، لكنه في الواقع عجز عن رفع العلم الإسرائيلي هناك واضطر لرفعه على بيت مجاور
كان بن تسفي بين كبار الضباط الذين أيّدوا قرار الانسحاب من طرف واحد من لبنان. وأشار إلى أن قسماً من كبار الضباط كان يتجنّب إبداء رأي. ويقول «أعتقد أن تشيكو تامير، شموئيل زكاي، أفيف كوخابي، ألون فريدمان، أيال آيزنبرغ، جميعهم فهموا أنه ينبغي الخروج. كلهم أحسوا على أجسادهم الإخفاق، قلة الحول على مواصلة المهمة في لبنان. وكثير من القادة الأعلى كانوا يشعرون هكذا. المشكلة هي أنك كلما كنت أعلى مرتبة وتعتقد أن ارتقاءك في سلم الرتب يصعب عليك الوقوف ضد المؤسسة. ليس صدفة أن القائدين الوحيدين اللذين أعربا عن رأيهما بوجوب الخروج كانا الجنرالين عميرام ليفين وشاي أفيتال قبل وقت قصير من تسريحهما من الجيش
ويميز بن تسفي بين تأييد الخروج وبين طريقة التنفيذ. وفي نظره فإن «التنفيذ كان فشلاً عملياتياً. والجيش الإسرائيلي لم يحقق بشكل عميق في الانسحاب، لأنه كان سيظهر أن كثيراً من كبار الضباط سمحوا للمسألة بالانهيار. لقد حققوا في عمليات اختطاف الجنود لكنهم لم يحققوا في الانسحاب». ولا يتأثر بن تسفي بما يشاع حول أن أي جندي لم يجرح في الانسحاب ويؤكد أن صورة الانسحاب فسرت في الشرق الأوسط على أنها «هروب. فقد أبقينا خلفنا معدات وآليات. وفي العديد من الحالات نهب جنودنا عتاداً.. وكانت مذلة كبرى في احتشاد رجال جيش لبنان الجنوبي على بوابة فاطمة. لقد كان هذا هروباً غير مخطط، حيث لم يطلق حزب الله علينا نيراناً جوهرية. الجنود فهموا الأمر وقالوا ذلك. كان هناك تنازل عن قيم تربينا عليها كجنود
ويكتب المعلق السياسي في «معاريف» بن كسبيت تحت عنوان «بكاء للأجيال»، ليستعيد الظروف السياسية التي أملت على رئيس الحكومة الجديد آنذاك، إيهود باراك، تنفيذ الانسحاب من طرف واحد. ويشير إلى جلسة عقدت في العشرين من أيار العام 2000 للمجلس الوزاري المصغر في مقر وزارة الدفاع الإسرائيلية في تل أبيب. وكان باراك قد وعد في معركته الانتخابية بسحب القوات الإسرائيلية من لبنان خلال عام. وحينها ازداد ضغط «حزب الله» وبدأ جيش لبنان الجنوبي في التفكك
في ذلك الاجتماع، أخذ قائد المنطقة الشمالية حينها، الجنرال غابي أشكنازي، الذي يرأس الأركان الإسرائيلية حالياً، أحد الوزراء جانباً وقال له قبل أن تبدأ الجلسة «يجب الخروج الآن. هذه الليلة حقاً». وشرح اشكنازي أن «الحزام الأمني قد ينهار في كل لحظة. الصفقة على وشك التفكك، وجيش لبنان الجنوبي يدرك الوضع، قد يحدث هذا في كل ثانية وسينهار كل شيء آنذاك مثل برج من أوراق اللعب
أثناء الجلسة، أثير اقتراح المغادرة الفورية. ولكن هناك من أشار إلى انه اذا تم الخروج في إثناء الليل، فسيكون من الممكن الخروج على نحو منظم، وإجراء مسيرة عسكرية، ونقل مسؤولية ولو رمزية الى جيش لبنان الجنوبي والمغادرة برأس مرفوع. كان رأس المعارضين وزير الخارجية دافيد ليفي الذي كان يؤمن بالاتصالات في الامم المتحدة، وتبنى باراك موقفه وهو ألا يخرجوا في هذه الأثناء ويستنفدوا الاتصالات السياسية
«كان ذلك قراراً سيئاً. فمن الغد، في يوم الأحد 21 ايار، بدأ انهيار جيش لبنان الجنوبي. اثارت حقيقة أنه لم يكن هناك مقر قيادة منظم قبل الانسحاب، بسبب خوف باراك من التسريبات، عدم يقين ويأساً عند رجال جيش لبنان الجنوبي. لقد خافوا ان تتركهم اسرائيل في جنح الليل (وهو ما تبينت صحته)، وبدأوا يبحثون لأنفسهم عن ملاذٍ. في يوم الأحد ظهر اول التصدعات وبدأت تتسع سريعاً. بدأت تسقط مواقع جيش لبنان الجنوبي. علموا في جيش لبنان الجنوبي أنه لا يمكن وقف الانهيار. أخذ الشريط الأمني ينهار. بعد ذلك بيومين، في الليلة بين 23 الى 24 ايار، خرج الجيش الإسرائيلي من لبنان في إجراء بدا شبيهاً بهرب مذعور. أضاعت اسرائيل فرصة الخروج على نحو كريم مع خروج السبت. ضرب حزب الله القوات الخارجة من الخلف، وكان نصر الله يستطيع ان يظهر لنفسه انتصاراً بطولياً. فقد نجح هو مع بضع مئات من المقاتلين في ان يهزم أعظم جيش في الشرق الاوسط ويجعله يهرب من لبنان. حصدت اسرائيل ثمار هذا الاضطراب بعد ذلك بعشر سنوات
ويشير كسبيت إلى أن باراك «حاول في الأسابيع الأخيرة ان يحصل لنفسه على فضل الخروج من لبنان. أي إجراء قيادي، وأي رؤيا وأي قدرة على اتخاذ قرار وتنفيذه. أما الواقع بطبيعة الأمر فهو معاكس تماماً. جلب باراك على اسرائيل كارثة باهظة. أجل، كان يجب الخروج من لبنان. كان من الواجب الخروج من لبنان. لكن ليس على هذا النحو. ان خروج باراك من لبنان، وطريقة إعلان ذلك وشكل تنفيذه، نجمت عنه جميع المشكلات والضربات التي حلّت بنا في السنين التي تلت ذلك. الحديث عن حقائق تاريخية لا يستطيع الاعتراض عليها حتى مراسلو البلاط الذين يحيطون بباراك. إن إعلان باراك في ذاك البرنامج الإذاعي جعل الأوراق كلها خاسرة. وكانت حقيقة أنه قيّد نفسه بموعد قاتل. حاول ان يجمع نقاطاً لدى الرأي العام لكنه انشأ واقعاً صعباً. فقد عدّ الشرق الاوسط كله أيامه. مع دخوله عمل رئيس الحكومة، ظهر على الفور ذلك العنوان عن القلعة على الجبل البركاني ومع عدد الأيام بدأ الصحافيون أعمدتهم الصحافية الأسبوعية بالعدّ التنازلي
ويبين كسبيت أنه عشية انسحاب الجيش الاسرائيلي، نقلت جهات فلسطينية رفيعة المستوى «رسائل يائسة الى اسرائيل. ونشرت رسالة كهذه ايضاً بهذه الصفحات. قام من ورائها ابو علاء الذي كان آنذاك رئيس فريق التفاوض الفلسطيني. قالت الرسالة إن خروج الجيش الاسرائيلي من لبنان من جانب واحد حتى الحدود الدولية سيكون خطأ شديداً. فقد يفضي الى نشوب انتفاضة. وقال الفلسطينيون: كيف تتوقعون منا الهوادة معكم بعد ذلك؟ اذا كان بضع مئات من المحاربين يطردون اسرائيل حتى الخط الدولي فكيف يستطيع الشعب الفلسطيني أن يقبل أقل من ذلك؟ بعد سابقة سيناء والسلام مع الاردن والخروج من لبنان حتى آخر سنتيمتر، لن يكون للفلسطينيين مناص، قالوا. سيكونون مضطرين ببساطة الى الثبات على خطوط 1967. لكن لم يصغ أحد الى هذه الرسالة
كان باراك قد تحدث عن «اتفاق» لكن أحداً لم يفهم أي اتفاق يقصد. يبين كسبيت أنه في النهاية، حاول بشكل بائس عرض الاتفاق على أنه «اتفاق» مع الامم المتحدة على رسم الحدود. «هذا انفعالي بقدر كبير. بالمناسبة، استمر الجدل في خط الحدود الى اليوم (انظروا مزارع شبعا). لو أن باراك فكر بالأمر قبل ذلك، لعلم انه يمكن إحراز مكاسب مناسبة من الانسحاب، ويمكن إملاء جزء من خط الحدود، ويمكن استعمال فرنسا في مواجهة لبنان على نحو سرّي. لكن باراك مثل ارييل شارون بالضبط بعد ثلاث سنين من ذلك، فضل الخروج فحسب. أن يرمي المفاتيح الى لا مكان، ليكسب من يمسك بها. وفي حالته أمسك حزب الله بها. وفي حالة شارون أمسكت حماس بها. من الذي ربح؟ المؤكد لسنا نحن
«إن الأجل الذي سمّاه للخروج، في غضون سنة، احدث أضراراً أخرى من جملتها إفشال التفاوض مع سوريا. في كانون الثاني 2000، في شبردستاون، اعتقد باراك انه ما زال يملك نصف سنة آخر حتى حزيران ولم يسارع لمحادثات السوريين في الخط الحدودي. أما السوريون من جهتهم، فاستشاطوا غضباً. لقد تخلوا سريعاً ووافقوا على أكثر مطالب اسرائيل المتعلقة بالترتيبات الأمنية والمياه والتطبيع
والآن، عندما أرادوا الحديث عن الخط الحدودي رفضهم باراك. لقد انتظر «انسحابه مع اتفاق» في حزيران. لكن السوريين استشاطوا غضباً وفجّروا الصفقة. ضُيّعت فرصة تاريخية لمرة واحدة. لو أن باراك فعل الفعل الصائب، فعقد سلاماً مع سوريا، أرفقه بالخروج من لبنان لأمكن آنذاك تحطيم ذراع حزب الله (عندما كانت ما تزال صغيرة نسبياً)، وان ينقض محور الشر بين طهران ودمشق (في حين كان ما يزال ضعيفاً نسبياً)، وان يسكت الجبهة الشمالية (في حين كانت ما تزال في مهدها) وان يعزل ايران. كان ذلك يحدث انقلاباً استراتيجياً ضخماً في الشرق الاوسط ولربما ما كان ليحدث انتقاد العالم الحالي من مواجهة المشروع الذري الايراني. لكن باراك كما قلنا آنفاً تمسك بمبادئه وتصريحاته وجداوله الزمنية. هكذا تكون الحال عندما تعمل الحياة كلها مع الساعات لا مع البوصلة
ويعرض كسبيت للنقاشات التي دارت في إسرائيل حول اليوم التالي. وأشار إلى أن السجال دار عملياً بين مذهبين. «قال الاول إنه في اللحظة التي نخرج فيها، سيصبح حزب الله حزباً سياسياً. ويفقد من تأثيره وقوته. وقال الثاني عكس ذلك، وهو أنه لا صلة بين الانسحاب الاسرائيلي ووجود حزب الله. فوجوده مشروط باستمرار الجهاد. الصلة عكسية. اذا انقطع الجهاد ضعفت المنظمة واختفت. إن من اعتقد ذلك كانوا قلة ضئيلة طوردت قبل الانسحاب وتبين بعده أنها كانت على حق، فقد أحرزت إيران لنفسها موقعاً ثميناً على جدارنا الشمالي. ولن تتخلى عن هذا الموقع بسهولة. بين سنتي 2000 الى 2006 (حرب لبنان الثانية) جال على جدارنا جنرالات إيرانيون من الحرس الثوري مع نواظير. لم يعودوا هناك الآن، لكن حزب الله أصبح أقرب من أي وقت مضى الى السيطرة المطلقة على لبنان
ويواصل كسبيت كلامه «ماذا حدث لنا في العقد الأخير؟ من جهة إحصائية، نحن نوفر 25 جندياً كل سنة (عدد القتلى في لبنان). ومن جهة ثانية، دفعنا عن ذلك قتلى حرب لبنان الثانية، ويقول آخرون إننا دفعنا قتلى الانتفاضة. وحدث اختطافان قاتلان أيضاً (خمسة قتلى) على الجدار. تحوّل حزب الله من حركة هامشية الى منظمة عظيمة القوة تملي السياسة اللبنانية. ويحاصر نصر الله رئيس لبنان ويسيطر على مجلس النواب والحكومة. إنه الرجل الأقوى في لبنان، ممثل خامنئي الذي بيده تدبير الامر
ويخلص إلى أن «محور الشر يسيطر على المنطقة. لو حدث السلام مع سوريا ولبنان والخروج مع اتفاق حقيقي وتفكيك الجبهة الشمالية لوفرنا على أنفسنا الواقع الصعب اليوم، حيث توجد فرقة ايرانية على الحدود وعشرات آلاف الصواريخ الموجّهة الى قلب تل أبيب. يسيطر على لبنان اليوم ذراعان قويتان لسوريا وايران. لو أن اسرائيل أدركت عقد تسوية سلمية مع سوريا لما وجد هذا النظام كله. ولكان خيار بنائه من جديد وتوزيع أوراق اللعب من جديد، ونقض محور الشر وإكمال دائرة السلام حول اسرائيل. لكن كل هذا لم يحدث. حدثت أمور أخرى سيئة مظلمة جداً، وهي في الحصيلة العامة الشيء الضئيل قياساً بما قد يقع بعد ذلك. لأن البطلين نتنياهو وباراك لا يزالان في الموقع نفسه الآن أيضاً
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة