دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
يتمتع جسمنا بنظام مناعة متكامل، ولولا وجود هذا النظام لما بقينا على وجه البسيطة لوجود الثغرات والمداخل والشقوق الكثيرة في مناطق في جسمنا الأكثر استراتيجية والأعقد تركيبا، لما لها من قرب من مراكز التحكم والسيطرة، فمنطقة الحلق والجيوب الأنفية والأذن مثلا هي من أقرب الأعضاء إلى الدماغ والرئة والقلب، وهي أوسع بوابات العبور لكل ما هب وحمل من قبل الهواء والغذاء. ونحن نستقبل الملايين من الجراثيم في كل نفس وكل لقمة نأخذها.
ومثل البشر فإن هذه الكائنات في أغلبيتها طيبة ولا تؤذي أحدا، وقليل منها شريرة في غير مكانها، والنادر منها شريرة أينما كانت، وأن جيناتها برمجتها على التدخل في ما لا يعنيها أو هي بحاجة للمرور بهذه المرحلة التطفلية. ويطول الحديث إذا فصلنا هذه الجراثيم والفيروسات وأين تضرب أهدافها. ولا يوجد أحد على وجه الأرض لم يصب سنويا ولو لمرة واحدة بزكام أو التهاب اللوزتين أو الأذن الوسطى أو التهاب الجيوب الأنفية والتهاب القصبات الهوائية، فالهدف الجرثومي هنا سهل، والطريق إلى المراكز الحساسة غير صعب نتيجة لتركيبة العظام، بل بالأحرى العظيمات المكونة لهذه المناطق من الجسم، فالعظيمات هنا مسننة صغيرة مترابطة عبر الأنسجة المغلفة من غضاريف وأغشية وممرات لعبور الأجهزة الدموية والليمفاوية والأعصاب، وهي أشبه بالجسور المركبة من عدد من القطع، بل وتتخللها مجموعة من الفجوات والجيوب في قاعدة الجمجمة وجوانبها التحتية (لتسمح للأعصاب والأجهزة الدموية بالعبور) مما يتيح للجراثيم والفيروسات مثل فيروسات الهيربز (الذي يتسلل للدماغ عبر الأعصاب) والـ«سي إم في» أو حتى التوكسوبلازما معابر سهلة وواسعة نسبيا للولوج إلى المراكز الحيوية.
«معابر» الجراثيم
* توجد لدى الإنسان تشققات طبيعيه في الجمجمة، وبالخصوص في قاعدتها، كذلك توجد العظيمات ورقائق العظام الهشة في سقف الحلق والنطع وقاعدة العين والجيوب الأنفية. أما في الحلق فهناك اللوزتان اللتان تنتجان خلايا قاتلة للجراثيم هي خلايا «تي» (t-cells). وهناك الغدد الليمفاوية التي تنتشر في شبكة مترابطة لرصد وترشيح الأشياء الدخيلة من فيروسات وجراثيم، قادمة من الفم والأنف وهي التي لا يعوقها شيء في الوصول إلى مراكز القرار والسيطرة، إن لم تكن المناعة والغدد الليمفاوية تحول دون ذلك.
وفي الحلق توجد معابر يمكن أن تعبر منها الجراثيم وتكون خراجا يتحوصل في الحلق على مستويات مختلفة وحتى في الأذن. وفي قاعدة الحلق توجد بداية القصبة الهوائية وأعلاها تقع اللوزتان، وتلتقي معابر الأنف والفم والقصبة الهوائية والبلعوم، وهنا عادة ما تتبقى فضلات لعابية أو غذائية تشرق بها عندما تتخطى حدودها إلى داخل الأحبال الصوتية ومن ثم القصبة الهوائية. وإن كان هذا اللعاب أو البلغم أو الغذاء يحمل جرثوما فعليك الذهاب في اليوم التالي إلى الطبيب. وهذه هي المنطقة بذاتها المعنية بسرطان الحلق عند المدخنين، وغالبا ما يكمن فيروس «إبشتاين – بار» (EBV) هو الذي له الدور المهيمن في التغير السرطاني. وتكمن أهمية هذه الحلقة في تكوين الصوت. هذا بغض النظر عما يحمله الجرثوم أو الفيروس من أدوات تخريب مثل الإنزيمات الهاضمة التي تعمل مثل المشارط كمذيبة ومشلة للأعصاب وموسعة للقنوات.
جراثيم مدمرة
* وإذا أخذنا على سبيل المثال، أولا الجراثيم العنقودية الكروية، فهي تمتلك من الإنزيمات ما يجعلها تسمى جراثيم فائقة أو متفوقة «سوبر» (super bug)، فلها من الإنزيمات والسموم مثل الكواجيوليز والهيالورونيديز والفوسفاتيز ما يؤهلها لأن تكون أكثر فتكا وتذويبا للأنسجة وخلقا لفجوات متقيحة وبؤر، وسما قاتلا.
أول هذه الفئة من الجراثيم هو جرثوم البيتا ستربت الكروي على هيئة سلاسل، فهذه الجراثيم تتألق في الإيذاء لأنها أوسع وأسرع انتشارا، فهي تسمم الدم من قريب ومن بعيد وتدمل الجروح وتذوب أنسجة الرئة والأذن وتلهب الأغشية الدماغية عند المواليد وأرحام النساء بعد الولادة وتضخم اللوز وتحقن الجيوب الأنفية والأذن الوسطى وتهشم صمامات القلب ومصافي الكلى وأغشية المفاصل. وهي الخطر الأول على الأطفال في المراحل الأولى من المدارس لسرعة انتقالها بين الأطفال، فأغلبهم يعودون من المدرسة بحمى واحتقان حلق وفي اللوز وكحة وانتفاخ غدد والتهاب الأذن والتهابات جلدية مختلفة، والقائمة من الأمراض تطول، على سبيل المثال الحمى الروماتيزمية والتهاب عضلة القلب والكلية وغيرها.
ثاني جراثيم هذه الفئة هو جرثوم من عائلة الستربت عادة ما يقبع على جدار الأسنان ويعمل عل تآكلها «streptococcus gordonae». هذا الجرثوم قد يضل طريقه ويدخل إلى الدم ولكي يحمي نفسه من نظام المناعة يخفي حاله بقناع بروتيني يشبه الفيبرونيجين (بروتين ضروري لتخثر الدم). ولذا فإن هذا الفيبرونيجين المقلد ينشط كريات التخثر ويجعلها لزجه تتلاصق وتكون جلطة صغيرة سرعان ما تكبر وقد تلصق على جدار صمامات القلب وتسبب التهابا أو أنها تكبر وتكون جلطة لا تحمد عقباها تسد شريان القلب أو الدماغ.
وإن لم يكن هذا الجرثوم موجودا فلا ننسى جرثوم الهيموفيلوس من نوع «بي» وتراثه المليء بالضحايا من الأطفال ابتداء من التهاب الحلق إلى التهاب الأغشية الدماغية والتهاب الرئة وتسمم الدم إلى التهاب الأذن الوسطى والداخلية. وتبدو اللوزتان وقد انتفختا وغطاهما غشاء سميك من خلايا القيح وتكالب الخلايا الليمفاوية على هيئة عقد حول الجراثيم. ويبدو الوجه وكأنه محترق من تأثير جرثوم البياستربت نوع إيه (erysipelas). كما قد يكون تجمع الجراثيم وخلايا القيح تحت القرنية في العين.
هذه فقط ثلاثة أمثلة من الجراثيم المدمرة وتخريبها الممنهج للجنس البشري. وهناك أيضا جراثيم أخرى مثل جرثوم السحايا والبنويموكوكوس والدفتيريا وغيرها الكثير منا لا يأبه عندما يحتقن له الحلق، بل ويعتقد أن الجرثوم يأتي ويذهب، والبركة في مناعتنا، بل إن البعض يعتقد أنه لا حاجة لأخذ مضاد حيوي كما يرى الطبيب المعالج. لكن علينا بالوعي الصحي وتطبيق طرق العلاج والوقاية غير المكلفة، خصوصا أن الكثير من الناس لديهم أمراض التهابية مزمنة في الحلق والجيوب الأنفية والأذن الوسطى والتهابات المجرى التنفسي العلوي أو التهابات اللثة والأسنان ورائحة الفم والأنف الكريهة.
الجراثيم والجلطة الدماغية
* إن الوسط الميكروبي للحلق هو الوسط الأولي المثالي للجراثيم عندما تدخل من أكبر بوابة في أجسامنا وتبدأ فعاليتها عندما نستقبلها من الهواء والماء والغذاء. وهي إما أن تذهب إلى المعدة إلى غير رجعة فتهضمها إذا كانت نسبتا الحموضة والهضم الإنزيمي فاعلتين، أو أن جزءا من الميكروبات يعلق في أسطح الحلق والنطع واللوز والأسنان واللثة ويستوطن هناك معتمدا على عصارات الجسم اللعابية والأصناف منها المؤذية لتبدأ في تنفيذ مشروعها العدائي في التهاب الحلق واللوز والأذن والجيوب الأنفية واللثة والأسنان.
وإذا تكون ثقب (fistula) فقد يرحل الجرثوم ليتحوصل في جيوب في الرقبة، وربما يصل إلى القفص الصدري، بل احتمال ذهاب الجرثوم إلى أغشية الدماغ والأذن الداخلية وارد. وينصح الأطباء الآباء بمراقبة أطفالهم ذوي الالتهابات الحادة في منطقة الحلق والأذن والجيوب الأنفية باحتمال حدوث جلطة دماغية لإمكانية انفصال قطعة تخثر من المنطقة الملتهبة محتوية على جرثوم تمر عبر الشرايين أو الأوردة أو ربما معابر الأعصاب أو عبر التشققات الطبيعية بعد أن تهضم إنزيمات الجرثوم الأغشية المغلفة (مثل إنزيم الهيالورونيديز والستريبتوكاينيز والإنزيم المخثر: الكواجيوليز).
أهمية الدواء
* يهتم الباحثون بمعرفة حساسية الأدوية ضد الجراثيم وذلك بالتعرف على قطر المساحة الدائرية حول كل قرص من المضادات الحيوية الخالية من الجرثوم. وكلما اتسعت الدائرة كان المضاد فعالا. ويقاس القطر بالمليمترات. وطبعا توجد طرق أخرى تترجم بالكمية الكافية من المضاد لمنع النمو الجرثومي (mic).
لنتصور أن لدينا وسطا وزرعنا عليه جرثوما ثم وضعنا قرصا من ورق الفلتر (الراشح) الحاوي للمضاد الحيوي بهدف التعرف على مدى حساسية هذا الجرثوم. وتتضح هنا قدرة خمسة ميكروغرامات من مضاد السيبروفلوكساسين في منع الجرثوم العنقودي الكروي. وكلما زدنا من الجرعة كبرت المسافة المطهرة من الجرثوم.
ولنبدل الآن الوسط الموجود في الحلق لدى الإنسان وما به من جراثيم. أي أن تضع كسرة من المضاد الحيوي التي تزيد بعض الشيء عن حجم حبة العدس ثم تخلد إلى النوم، ليذوب الدواء في الفم وينتشر مفعولها وأنت نائم، في الحلق والأسنان واللثة وفي الهواء الذي يمر من هناك، ويتسرب الدواء إلى الأنسجة المحيطة من اللوزتين والجيوب الأنفية وحتى يصل إلى أنسجة العين والأذن الداخلية والغدد الليمفاوية المحيطة. وعندما تجلس من النوم تحس أن لعابك مر وحلقك يابس، لكن تحس بأنك أحسن من ذي قبل وتجد أنك تحررت من الأعراض المؤذية. وقد تحتاج إلى أيام من العلاج لأن وجود الخلايا الالتهابية ومؤشراتها من السايتوكاينز لن يذهب تماما حتى يتم رفع أنقاض ورفات الدخلاء من الجراثيم وهذه تستغرق أياما. وهذه الطريقة هي للتخلص من الجراثيم التي لها تأثير عن بعد كما ذكرنا أو تلك التي ترسل سموما إلى صمامات القلب والمفاصل والكلى وتسبب أمراض الروماتزم والفشل الكلوي.
التجربة خير برهان
* لقد قمنا بمحاولة إيجاد ظرف مناسب يتشابه مع وضع الحلق وكسرة المضاد الحيوي في عمل حفرة في الوسط، وزرعنا خليطا من الجراثيم العنقودية والبسويدوموناس، ومن ثم وضعنا كسرة المضاد الحيوي ثم أدخلنا الوسط المزروع بالميكروبات في كيس بلاستيكي لكي يبقى رطبا ودافئا كما هو في الحلق في الحضانة. وقد لاحظنا النتيجة بين تأثير قرص المضاد (5 ميكروغرامات) الذي أخذ مداه بما لا يتعدى 32 ملليمترا، بينما لم تسمح الكسرة التي تزيد على 30 ملليغراما بنمو الجراثيم في الوسط على الإطلاق، وهذا يعني تعقيم الوسط من الجراثيم. أي أن كسرة المضاد ستقوم بالعمل نفسه في الحلق وأنت نائم، ونرى الوسط نظيفا تماما من البكتيريا اللهم إلا من ترسبات المضاد كما يحدث في الحلق أو الفم تماما. وللتأكد من أن عملنا صحيح قمنا بأخذ مسحة من جدار البلاستيك من الداخل لنعرف إذا كان البخار المشبع المضاد قد عقم أيضا جدار الكيس البلاستيكي أم لا، وزرعنا المسحة لنرى أنه لا أثر للجراثيم هناك كما يفعل بخار المضاد في الحلق تماما، حيث يعقم الهواء الداخل إلى القصبة الهوائية.
ولهذا فربما يمكن أن نقترح أن تستخدم هذه الطريقة لكل المنومين من كبار السن أو من هم في الإنعاش أو في وضع حرج في تعقيم الحلق لتجنب تكون الجلطة. وكذلك ربما يوصى كل من يشكو من تآكل في الأسنان بأن يستخدم هذه الطريقة بين الحين والآخر، ليس فقط للتخلص من هذا النوع من الجراثيم وإنما للوقاية فهي خير من العلاج، وهي طريقة ناجعة للتخلص من الرائحة الكريهة.
المصدر :
د. عبد الجبار علي أحمد
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة