يختصر زائر دائم للسعودية طبيعة العلاقة التي تجمع الرياض برئيس الحكومة نجيب ميقاتي بالقول: "مكانك راوح".

عقارب الساعة السعودية في لبنان توقفت عند "الانقلاب على اتفاق الدوحة، وبالتالي على خيار سعد الحريري الذي كان يمثل الترجمة العملية للـ"سين سين". منذ ذلك الحين وقع "الحد السياسي" على ميقاتي، الذي حاول استيعاب الاعتراض العربي والدولي، مراهناً على تغييره. وبالفعل، سريعاً بدأ العمل لينزع عنه الاتهام بترؤسه حكومة حزب الله. وسريعاً أيضاً استطاع الحصول على المشروعية الدولية. كل عواصم القرار أبدت إعجابها برئيس الحكومة الذي موّل المحكمة الدولية وفتحت له أبوابها. لا يترك مساعد وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان مناسبة، إلا ويكثر فيها المديح لميقاتي، ضابطاً خطاب 14 آذار، ومؤكداً أنه لا فائدة من استهدافه شخصياً.

الإنجاز الدولي الذي تعزز مع التمديد للمحكمة، لم يتحول إلى إنجاز عربي. ظلت الحواجز مرتفعة بين رئيس الحكومة و"المشروعية العربية"، التي يصر ميقاتي على أن تكون السعودية بوابتها الأولى.

بعد احتفال ميقاتي باليوبيل الذهبي لجلسات حكومته، لا يزال موقف السعودية على حاله، ولا تزال قيادتها غير جاهزة لاستقباله. هذه المرة، ليس فقط لاشتراكه في "مؤامرة حزب الله على حكومة الحريري". صار الغضب أشد في ظل ما يسمى "الربيع العربي". ولكن هل هذا يعني أنها غير راضية عن أدائه؟

يقول مصدر متابع للعلاقة بين الطرفين، "المملكة راضية نوعاً ما". لكن المملكة، حتى إشعار آخر، قررت اعتماد الدبلوماسية الصامتة في التعامل مع ميقاتي: "أوافق عليه ولكن لا أعطيه المشروعية"، مع ما تعنيه تلك المشروعية لبنانياً وطائفياً. استناداً إلى هذه المعادلة، لا يكون غريباً أن يستقبل ميقاتي دورياً وفوداً سعودية تضم وزراء وشخصيات معروفة، عدا لقاءاته الدائمة بالسفير السعودي علي عواض عسيري. هذه اللقاءات حسب مصدر في "المستقبل" لا تزال محدودة "وهي تتم نتيجة استدعاء ميقاتي لعسيري"، غير أن المقربين من ميقاتي يؤكدون أن التواصل طبيعي، ولا يقتصر على السفارة في بيروت، وثمة وفود تزور بيروت، وهناك اتصالات دائمة، وفي آخر زيارة قام بها وفد سعودي لميقاتي مؤخرا، نوقشت قضايا عدة أبرزها كيفية دعم النازحين السوريين الى لبنان، وتم الاتفاق بين الجانبين على رصد مساعدات تُوزّع عبر "الهيئة العليا للإغاثة المعنية" مباشرة بهذا الملف.

ثمة محطتان رئيسيتان يمكن الركون إليهما لمتابعة التغيرات الميقاتية في التعامل مع الملف السعودي. خلال مقابلته الأولى مع محطة "ال بي سي"، غداة تكليفه، بدا ميقاتي، مثله مثل أي رئيس للوزارة في لبنان، ساعيا الى كسب المشروعية السعودية، عبر إكثاره من كيل المديح لقيادتها وتأكيده على أبوتها الدائمة والتاريخية للبنان. في مقابلته الأخيرة عبر المحطة نفسها، ظل الهدف هو نفسه، ولكن تغيرت الطريقة. بدا ميقاتي أكثر انسجاما مع نفسه ومرتاحا الى ما يقوم به من خطوات، فقد أخذ على عاتقه حماية البلد والاستقرار في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة والتاريخية التي تمر بها المنطقة، وهو يعتقد أنه نجح الى حد كبير في الحد من الضرر الذي كان سيطال "جماعته" قبل الآخرين، وهو أمر كان سيعجز عن القيام به أي رئيس حكومة آخر سواء أكان من 8 أو 14 آذار.

ظلت المشروعية السعودية هدفاً ميقاتياً، وظل الرجل محافظاً على الحدود التي رسمها لنفسه منذ اليوم الأول لتوليه سدة رئاسة الحكومة. يساير جميع الأطراف الدولية والاقليمية والمحلية ويرفض استفزاز أي منها. ويعرف أن ذلك يزعج حلفاءه، ولكنه سرعان ما يقدم تبريراً لا يُناقش: أنا أعمل لآخرتي، وبالتالي عليّ أن أراعي الجميع، وخاصة أبناء جلدتي. تلك القاعدة يستعين بها عند مواجهته كل ملف إشكالي يوضع على الطاولة الحكومية أو السياسية، من التعيينات إلى الكهرباء إلى المحكمة الدولية...

من الواضح أن المملكة لم تخرج من صدمة إخراج الحريري، والتي يستوي فيها ميقاتي كما وليد جنبلاط، الذي بدوره، على الرغم من انقلابه على انقلابه، لم يتلق بعد أي إشارة إيجابية من الرياض. ما زاد الطين بلة، أن المقاربة السعودية للبنان لم تعد محلية بحتة، ففي ظل احتدام الصراع على سوريا، يصعب على القادة السعوديين مقاربة الوضع اللبناني، إلا كجزء من الملف الإقليمي. والسؤال السعودي الذي تتحدد على أساسه مقاربته للشأن المحلي لا يبدو معقداً: هل التركيبة اللبنانية هي جزء من الاشتباك السعودي مع هاتين الدولتين؟ وبما أن الجواب معروف، وبما أن النأي بالنفس لا ينظر إليه إلا بوصفه حماية للنظام السوري، فلا مبرر سعودياً لتغيير النهج المتبع في التعامل مع ميقاتي. وبالتالي، فإن أي مراجعة للملف اللبناني، لن تحصل إلا بعد تبلور صورة الوضع العربي.

الموضوع السوري ـ الايراني هو الميزان. يذكّر زائر الرياض بأن الموقف السعودي مما يجري في سوريا ليس مألوفاً في تاريخ العلاقات الخارجية للمملكة، التي لم تقطع يوماً مع أي نظام مهما اشتدت معارضتها له (جمال عبد الناصر مثالاً). "هذا ليس تفصيلاً"، يقول الزائر نفسه، موضحاً أن ذلك يعني أن المملكة التي كانت تسعى دائماً إلى التسويات، قررت، في ظل الواقع الإقليمي الحالي، وفي ظل ما تسميه "التهديد الايراني"، استلام دفة المواجهة مباشرة.

حتى الآن، وبرغم حرص ميقاتي على عدم زج لبنان في الصراع الدائر حالياً، إلا أن السعودية لم تر فيه إلا جزءاً من المعادلة السورية. يعيد مصدر في الأكثرية الأمور إلى محورها الأول: تكليف ميقاتي رئيساً للحــكومة بديــلا لسعد الحريري.

ومع تأكيد المصدر أن السعودية لا تزال واقعة تحت صدمة ما تصر على اعتباره "انقلاباً سورياً"، فهو يخلص إلى أن "السعودي مربك في لبنان"، موضحاً أنه إذا كان موقفها من ميقاتي مفهوماً، فمن غير المفهوم من قبل جمهورها وجمهور"المستقبل" قبل غيره، لماذا توقفت عن تقديم المساعدات للمؤسسات الخيرية والأهلية والتربوية، ولماذا تسمح بصرف آلاف الموظفين من مؤسسات محسوبة سياسياً ومالياً عليها؟ وإذا كانت الإجابة عن هذا السؤال تبدو صعبة، فالاجابة على: ماذا تريد السعودية من لبنان؟ هي حكماً أصعب.

 

  • فريق ماسة
  • 2012-04-06
  • 9591
  • من الأرشيف

ماذا تريد السعودية من ميقاتي .. لا بل من لبنان؟

يختصر زائر دائم للسعودية طبيعة العلاقة التي تجمع الرياض برئيس الحكومة نجيب ميقاتي بالقول: "مكانك راوح". عقارب الساعة السعودية في لبنان توقفت عند "الانقلاب على اتفاق الدوحة، وبالتالي على خيار سعد الحريري الذي كان يمثل الترجمة العملية للـ"سين سين". منذ ذلك الحين وقع "الحد السياسي" على ميقاتي، الذي حاول استيعاب الاعتراض العربي والدولي، مراهناً على تغييره. وبالفعل، سريعاً بدأ العمل لينزع عنه الاتهام بترؤسه حكومة حزب الله. وسريعاً أيضاً استطاع الحصول على المشروعية الدولية. كل عواصم القرار أبدت إعجابها برئيس الحكومة الذي موّل المحكمة الدولية وفتحت له أبوابها. لا يترك مساعد وزيرة الخارجية الأميركية جيفري فيلتمان مناسبة، إلا ويكثر فيها المديح لميقاتي، ضابطاً خطاب 14 آذار، ومؤكداً أنه لا فائدة من استهدافه شخصياً. الإنجاز الدولي الذي تعزز مع التمديد للمحكمة، لم يتحول إلى إنجاز عربي. ظلت الحواجز مرتفعة بين رئيس الحكومة و"المشروعية العربية"، التي يصر ميقاتي على أن تكون السعودية بوابتها الأولى. بعد احتفال ميقاتي باليوبيل الذهبي لجلسات حكومته، لا يزال موقف السعودية على حاله، ولا تزال قيادتها غير جاهزة لاستقباله. هذه المرة، ليس فقط لاشتراكه في "مؤامرة حزب الله على حكومة الحريري". صار الغضب أشد في ظل ما يسمى "الربيع العربي". ولكن هل هذا يعني أنها غير راضية عن أدائه؟ يقول مصدر متابع للعلاقة بين الطرفين، "المملكة راضية نوعاً ما". لكن المملكة، حتى إشعار آخر، قررت اعتماد الدبلوماسية الصامتة في التعامل مع ميقاتي: "أوافق عليه ولكن لا أعطيه المشروعية"، مع ما تعنيه تلك المشروعية لبنانياً وطائفياً. استناداً إلى هذه المعادلة، لا يكون غريباً أن يستقبل ميقاتي دورياً وفوداً سعودية تضم وزراء وشخصيات معروفة، عدا لقاءاته الدائمة بالسفير السعودي علي عواض عسيري. هذه اللقاءات حسب مصدر في "المستقبل" لا تزال محدودة "وهي تتم نتيجة استدعاء ميقاتي لعسيري"، غير أن المقربين من ميقاتي يؤكدون أن التواصل طبيعي، ولا يقتصر على السفارة في بيروت، وثمة وفود تزور بيروت، وهناك اتصالات دائمة، وفي آخر زيارة قام بها وفد سعودي لميقاتي مؤخرا، نوقشت قضايا عدة أبرزها كيفية دعم النازحين السوريين الى لبنان، وتم الاتفاق بين الجانبين على رصد مساعدات تُوزّع عبر "الهيئة العليا للإغاثة المعنية" مباشرة بهذا الملف. ثمة محطتان رئيسيتان يمكن الركون إليهما لمتابعة التغيرات الميقاتية في التعامل مع الملف السعودي. خلال مقابلته الأولى مع محطة "ال بي سي"، غداة تكليفه، بدا ميقاتي، مثله مثل أي رئيس للوزارة في لبنان، ساعيا الى كسب المشروعية السعودية، عبر إكثاره من كيل المديح لقيادتها وتأكيده على أبوتها الدائمة والتاريخية للبنان. في مقابلته الأخيرة عبر المحطة نفسها، ظل الهدف هو نفسه، ولكن تغيرت الطريقة. بدا ميقاتي أكثر انسجاما مع نفسه ومرتاحا الى ما يقوم به من خطوات، فقد أخذ على عاتقه حماية البلد والاستقرار في هذه المرحلة الانتقالية الصعبة والتاريخية التي تمر بها المنطقة، وهو يعتقد أنه نجح الى حد كبير في الحد من الضرر الذي كان سيطال "جماعته" قبل الآخرين، وهو أمر كان سيعجز عن القيام به أي رئيس حكومة آخر سواء أكان من 8 أو 14 آذار. ظلت المشروعية السعودية هدفاً ميقاتياً، وظل الرجل محافظاً على الحدود التي رسمها لنفسه منذ اليوم الأول لتوليه سدة رئاسة الحكومة. يساير جميع الأطراف الدولية والاقليمية والمحلية ويرفض استفزاز أي منها. ويعرف أن ذلك يزعج حلفاءه، ولكنه سرعان ما يقدم تبريراً لا يُناقش: أنا أعمل لآخرتي، وبالتالي عليّ أن أراعي الجميع، وخاصة أبناء جلدتي. تلك القاعدة يستعين بها عند مواجهته كل ملف إشكالي يوضع على الطاولة الحكومية أو السياسية، من التعيينات إلى الكهرباء إلى المحكمة الدولية... من الواضح أن المملكة لم تخرج من صدمة إخراج الحريري، والتي يستوي فيها ميقاتي كما وليد جنبلاط، الذي بدوره، على الرغم من انقلابه على انقلابه، لم يتلق بعد أي إشارة إيجابية من الرياض. ما زاد الطين بلة، أن المقاربة السعودية للبنان لم تعد محلية بحتة، ففي ظل احتدام الصراع على سوريا، يصعب على القادة السعوديين مقاربة الوضع اللبناني، إلا كجزء من الملف الإقليمي. والسؤال السعودي الذي تتحدد على أساسه مقاربته للشأن المحلي لا يبدو معقداً: هل التركيبة اللبنانية هي جزء من الاشتباك السعودي مع هاتين الدولتين؟ وبما أن الجواب معروف، وبما أن النأي بالنفس لا ينظر إليه إلا بوصفه حماية للنظام السوري، فلا مبرر سعودياً لتغيير النهج المتبع في التعامل مع ميقاتي. وبالتالي، فإن أي مراجعة للملف اللبناني، لن تحصل إلا بعد تبلور صورة الوضع العربي. الموضوع السوري ـ الايراني هو الميزان. يذكّر زائر الرياض بأن الموقف السعودي مما يجري في سوريا ليس مألوفاً في تاريخ العلاقات الخارجية للمملكة، التي لم تقطع يوماً مع أي نظام مهما اشتدت معارضتها له (جمال عبد الناصر مثالاً). "هذا ليس تفصيلاً"، يقول الزائر نفسه، موضحاً أن ذلك يعني أن المملكة التي كانت تسعى دائماً إلى التسويات، قررت، في ظل الواقع الإقليمي الحالي، وفي ظل ما تسميه "التهديد الايراني"، استلام دفة المواجهة مباشرة. حتى الآن، وبرغم حرص ميقاتي على عدم زج لبنان في الصراع الدائر حالياً، إلا أن السعودية لم تر فيه إلا جزءاً من المعادلة السورية. يعيد مصدر في الأكثرية الأمور إلى محورها الأول: تكليف ميقاتي رئيساً للحــكومة بديــلا لسعد الحريري. ومع تأكيد المصدر أن السعودية لا تزال واقعة تحت صدمة ما تصر على اعتباره "انقلاباً سورياً"، فهو يخلص إلى أن "السعودي مربك في لبنان"، موضحاً أنه إذا كان موقفها من ميقاتي مفهوماً، فمن غير المفهوم من قبل جمهورها وجمهور"المستقبل" قبل غيره، لماذا توقفت عن تقديم المساعدات للمؤسسات الخيرية والأهلية والتربوية، ولماذا تسمح بصرف آلاف الموظفين من مؤسسات محسوبة سياسياً ومالياً عليها؟ وإذا كانت الإجابة عن هذا السؤال تبدو صعبة، فالاجابة على: ماذا تريد السعودية من لبنان؟ هي حكماً أصعب.  

المصدر : ايلي الفرزلي\ السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة