مرّت الذكرى التاسعة بصمت، وسقط أبطالها وضحاياها من الذاكرة، التي حُفِرَت بوقائع تجعل مما جرى في مثل هذه الايام من العام ٢٠٠٣، مجرّد لحظة عابرة في التاريخ العراقي والعربي والإسلامي الذي لا يقيم اعتبارا خاصا للغزو والاحتلال والاستعباد، المدوّن في الكتب بصفته تراثا وتقليدا وديوان شعر.

ما عادت الذكرى تخص أحدا. وما عادت تهم أحدا ايضا. لم يجد الغزاة الذين كانوا هناك ما يستحق الذكر. ولم يجد اهل الارض المغزوة ما يستدعي التذكر. الجميع يريد النسيان ويطلب طي تلك الصفحة السوداء... التي لا يضيرها سوى أن الصفحات التي تلتها كانت ولا تزال اشد سوادا.

كان يمكن لتظاهرة البصرة الحاشدة التي نظّمها التيار الصدري امس الأول الاثنين، أن تكون للتبرؤ من أن المدينة لم تقاتل الغزو ولم تقاوم الاحتلال كما ينبغي، بدل أن تكون للتأكيد على أن التيار عاد بقوة الى تلك المدينة التي أُخرج منها قبل خمس سنوات، وشرع في محاسبة خصومه في الحكومة تحت شعار الأحوال المعيشية والخدمية المتردية.

كان يتوقع أن يخرج الوسط والغرب العراقي في تظاهرات مماثلة تمحو الغزو وتنكر انها قاتلت الغالبية المحلية الحاكمة اكثر بكثير مما قاومت الفئة الاجنبية الغازية، وتعلن البراءة من تلك الجماعات والتيارات التي كانت ولا تزال تعيث فسادا في ارض العراق وفي مجتمعه وفي تكوينه القومي والطائفي، كما فعلت بالأمس عندما وزّعت متفجراتها على سبع مدن عراقية ورفعت عدد القتلى العراقيين الى أضعاف ما قتل الأميركيون على مدى ثماني سنوات.

لكنها الذاكرة المريضة بمزاعم قومية ووطنية ودينية واهية، حيّرت الغزاة واربكت حساباتهم، وربما ساهمت بإخراجهم من العراق، ولا تزال تلقي بظلال الشك على مستقبل ذلك البلد، الذي يختصر أمة ويكشف عن عاهاتها المتأصلة عبر العصور، ويفسّر الكثير مما يجري في سوريا ولبنان واليمن والبحرين وحتى فلسطين.

كان يمكن على الاقل تجديد الاتهام لأميركا بأنها هي التي كانت سبب خراب العراق ودماره، وايضا فتنته المذهبية على ما يردد المبتدئون في قراءة التاريخ العراقي والعربي والإسلامي... كان يمكن أن يقال على سبيل المثال أن احدا لم يكن يتوقع أن يترك الأميركيون العراق قبل عشرات السنين. كان يمكن أن يشاع أنهم لم يغادروا العراق نهائيا، ولن يغادروه أبدا.

لم يكن ما جرى قبل تسع سنوات بداية لأي فصل جوهري من التاريخ، العراقي او العربي او الاسلامي. الأغلب أنه سيقال، إن الأميركيين مرّوا من هناك، في طريق عودتهم من افغانستان حيث كانوا وما زالوا يلاحقون الأشرار... لكنهم اكتشفوا أن تلك البلاد لا تغري بالاحتلال، لأن شعبها لا يتحدى المحتلين!

كانت الذكرى التاسعة للغزو الاميركي للعراق فرصة تاريخية للاحتفال بهزيمة سياسية حقيقية لاميركا، التي لم تقدّر معنى المرور من هناك.

  • فريق ماسة
  • 2012-03-20
  • 10860
  • من الأرشيف

أميركا مرّت من هناك

مرّت الذكرى التاسعة بصمت، وسقط أبطالها وضحاياها من الذاكرة، التي حُفِرَت بوقائع تجعل مما جرى في مثل هذه الايام من العام ٢٠٠٣، مجرّد لحظة عابرة في التاريخ العراقي والعربي والإسلامي الذي لا يقيم اعتبارا خاصا للغزو والاحتلال والاستعباد، المدوّن في الكتب بصفته تراثا وتقليدا وديوان شعر. ما عادت الذكرى تخص أحدا. وما عادت تهم أحدا ايضا. لم يجد الغزاة الذين كانوا هناك ما يستحق الذكر. ولم يجد اهل الارض المغزوة ما يستدعي التذكر. الجميع يريد النسيان ويطلب طي تلك الصفحة السوداء... التي لا يضيرها سوى أن الصفحات التي تلتها كانت ولا تزال اشد سوادا. كان يمكن لتظاهرة البصرة الحاشدة التي نظّمها التيار الصدري امس الأول الاثنين، أن تكون للتبرؤ من أن المدينة لم تقاتل الغزو ولم تقاوم الاحتلال كما ينبغي، بدل أن تكون للتأكيد على أن التيار عاد بقوة الى تلك المدينة التي أُخرج منها قبل خمس سنوات، وشرع في محاسبة خصومه في الحكومة تحت شعار الأحوال المعيشية والخدمية المتردية. كان يتوقع أن يخرج الوسط والغرب العراقي في تظاهرات مماثلة تمحو الغزو وتنكر انها قاتلت الغالبية المحلية الحاكمة اكثر بكثير مما قاومت الفئة الاجنبية الغازية، وتعلن البراءة من تلك الجماعات والتيارات التي كانت ولا تزال تعيث فسادا في ارض العراق وفي مجتمعه وفي تكوينه القومي والطائفي، كما فعلت بالأمس عندما وزّعت متفجراتها على سبع مدن عراقية ورفعت عدد القتلى العراقيين الى أضعاف ما قتل الأميركيون على مدى ثماني سنوات. لكنها الذاكرة المريضة بمزاعم قومية ووطنية ودينية واهية، حيّرت الغزاة واربكت حساباتهم، وربما ساهمت بإخراجهم من العراق، ولا تزال تلقي بظلال الشك على مستقبل ذلك البلد، الذي يختصر أمة ويكشف عن عاهاتها المتأصلة عبر العصور، ويفسّر الكثير مما يجري في سوريا ولبنان واليمن والبحرين وحتى فلسطين. كان يمكن على الاقل تجديد الاتهام لأميركا بأنها هي التي كانت سبب خراب العراق ودماره، وايضا فتنته المذهبية على ما يردد المبتدئون في قراءة التاريخ العراقي والعربي والإسلامي... كان يمكن أن يقال على سبيل المثال أن احدا لم يكن يتوقع أن يترك الأميركيون العراق قبل عشرات السنين. كان يمكن أن يشاع أنهم لم يغادروا العراق نهائيا، ولن يغادروه أبدا. لم يكن ما جرى قبل تسع سنوات بداية لأي فصل جوهري من التاريخ، العراقي او العربي او الاسلامي. الأغلب أنه سيقال، إن الأميركيين مرّوا من هناك، في طريق عودتهم من افغانستان حيث كانوا وما زالوا يلاحقون الأشرار... لكنهم اكتشفوا أن تلك البلاد لا تغري بالاحتلال، لأن شعبها لا يتحدى المحتلين! كانت الذكرى التاسعة للغزو الاميركي للعراق فرصة تاريخية للاحتفال بهزيمة سياسية حقيقية لاميركا، التي لم تقدّر معنى المرور من هناك.

المصدر : السفير /ساطع نور الدين


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة