اختفت كلمة العروبة من الأدبيات السياسية: أُسقطت عمداً من الخطاب الرسمي للقادة الإسلاميين من راكبي موجة الربيع العربي، كما أسقطها قادة المرحلة السابقة من أهل النظام العربي خوفاً أو نفاقاً، وصار الربيع العربي "يتيماً": لا أب له ولا عائلة... بل إن تنسيب هذا الربيع الى أي نوع من الهوية العربية يبدو مفتعلاً ويقصد به التضليل.

لم يحدث أن نطق من ركب موجة الانتفاضات، التي أسقطت أنظـمة وبدلت، في أوضاع دول عربية عديدة، كلمة واحدة حول "العروبة" او أعلن التزامه بمقتضياتها، بل إن مجموع القيادات التي وصلت الى السلطة نتيجة انتصار الانتفاضات تتجنب تحديد هويتها القومية، وتفضل استيلاد هوية جديدة هي خليط من الإسلام السياسي المدجن اميركياً ومن "الوطنيات المحلية" التي تؤكد استقلاليتها عن الهوية الجامعة تاريخياً وجغرافياً وبموجب مقتضيات الأمن القومي، بمعزل عن اللسان العربي وعن الارتباط العضوي بين الإسلام والعروبة في هذه المجتمعات التي تظل في عيون العالم "عربية".

وليس من المصادفات ان يغلب تعبير "الشرق الأوسط" على تعبير "العروبة"، وأن يصير مجلس الأمن او المجتمع الدولي هو البديل العملي عن الجامعة العربية وكل ما استولدته هذه المؤسسة العربية من مجالس وهيئات كانت تؤكد المستقبل الواحد لهذه الأمة بالاستناد لوحدة الطموحات التي تحرك جماهير شعوبها مشرقاً ومغرباً.

وبديهي أن تحل إسرائيل محل فلسطين إذا كان اسم المنطقة جغرافياً يتمدد قياساً الى الغرب، أوروبياً وأميركياً، والى الشرقين الأدنى والأقصى، حيث تلغى الهويات الوطنية جميعاً، ويحدد موقع كل "جهة" بغض النظر عن شعوبها، قياساً الى الغرب بوصفه "المركز".

من قبل ولادة الربيع، الذي أعطته واشنطن الهوية العربية، كانت الجامعة العربية بدولها جميعاً قد استقالت من مسؤوليتها عن فلسطين، شعباً وأرضاً، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، تاركة مصيرها في أيدي "المجتمع الدولي" بدءاً بالأمم المتحدة ومجلس أمنها والهيئات المتفرعة عنها والمتخصصة بحقوق الإنسان، وانتهاءً باللجنة الرباعية وضمنها الاتحاد الأوروبي.

...وعندما توالت الانتفاضات الشعبية في العديد من الأقطار العربية فأسقطت بعض أنظمة الطغيان وهددت بإسقاط أنظمة أخرى، وجدت جامعة الدول العربية نفسها محاصرة بالجماهير الغاضبة بحكم المصادفة الجغرافية، إذ إن مبناها العريق - الذي أقيم في الأصل مكان ثكنة لجنود الاحتلال البريطاني قبل إجلائه عن مصر - يقع عند باب الميدان، مع أن الموقع السياسي يكاد يجعله نقيضاً لتطلعاته.. ولم تكن تملك ما تقدمه او حتى ما تقوله لتلك الجماهير... وإن كان أمينها العام السابق قد تمشى الى ميدان التحرير القريب وحيّا الجماهير، ولكن بوصفه مرشحاً للرئاسة في "العهد الجديد"، وليس بصفته الرسمية.

على أن هذا التودد الى جماهير الميدان لم يمنع الأمين العام نفسه من مجاملة الرئيس المذهب لدورة انعقاد مجلس الجامعة وموافقته على إحالة قضية ليبيا وانتفاضة شعبها ضد دكتاتورها الأبدي معمر القذافي الى مجلس الأمن، الذي أحالها بدوره الى الحلف الأطلسي الذي أرسل طيرانه الحربي ومدمراته لتحرير الليبيين من أعباء ثروتهم النفطية بآبارها وأنابيبها ومرافئ التصدير، حتى وإن انتهى الأمر بوضع هذه البلاد ذات الانتماء العربي الصريح على عتبة الحرب الأهلية.

...ولقد تكرر الأمر ذاته مع الأمين العام الجديد للجامعة، الذي واجهته فور تسلمه موقعه السامي التطورات الدموية المخيفة للمواجهات اليومية بين السلطة في سوريا وبين حركة الاعتراض التي أخذت في التوسع.. ولقد اندفع النظام الى عنف غير مبرر في البدايات في مواجهة فصائل معارضة أطلت سلمية.. لكن هذا العنف سرعان ما فتح الحدود امام مجموعات مسلحة آتية من جهات عديدة، مزودة بعقيدة أشد فتكاً من الأسلحة التي تحملها، وقد تسبب ذلك كله بإلحاق أضرار جسيمة بالمجتمع السوري وقدراته، فضلاً عن تاريخه المشرف في إعادة الاعتبار الى مفهوم العروبة كإطار قومي جامع بين أهل هذه الأرض، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم، مع احترام الإسلام بوصفه دين الأكثرية الساحقة، والارتفاع فوق ترسبات الصراعات المذهبية والعرقية عبر التلاقي على المشروع السياسي للغد الأفضل.

ونتيجة لاستغلال بعض الدول المذهبة تزايد حدة المواجهات الدموية بين النظام ومعارضيه في الداخل السوري، ارتكبت سابقة تعليق عضوية دولة مؤسسة للجامعة، وأخرج ممثل سوريا من حضن هذه المؤسسة التي كانت سوريا مهد ولادتها (مؤتمر بلودان).

ثم مع استمرار ولاية الرئيس المذهب لدور انعقاد مجلس الجامعة العربية، لم يجد الأمين العام الجديد للجامعة مخرجاً يعفيه من أداء مهمة لا تتفق مع طبيعة دوره وموقع المؤسسة التي يمثل، فكان ان ذهب الى مجلس الأمن في مهمة لم يكن ليقبلها في ظل مناخ طبيعي أسقطته الهيمنة النفطية على القرار العربي.

وكان ذلك إعلاناً بأنه لم يعد للجامعة العربية من دور، وبأنها فقدت مكانتها كمرجعية بعدما تأكد عجزها عن المعالجة بل وسقوطها في موقع الطرف، مع انتشار مناخ مسموم يتهمها بما يتجاوز العجز الى التورط.

صارت أشبه بدائرة تصديق على قرارات تتخذها الأكثرية النفطية.

ولما فشل مجلس الأمن في تبني قرار إعلان الحرب على النظام السوري "المطرود" من الجامعة، تم ابتداع "مؤتمر أصدقاء سوريا" كمرجعية بديلة... وكانت المفارقة ان الجامعة العربية قد تصدرت الصف الأول جنباً الى جنب مع الدول الإمبريالية (سابقاً)، في حين أكملت الجبهة النفطية العربية هجومها الشرس، فذهب بعضها الى أبعد مما تطالب به المعارضات السورية التي تعذر توحيدها.. وهكذا سمعنا الأمير سعود الفيصل يطالب بتسليح "المنشقين" معتبراً النظام سلطة احتلال.

انتبه بعض العرب الى خطورة المنزلق الذي يدفعون اليه مع الجامعة العربية، وكانت مصر أول المتنبهين، ومن هنا أنها لعبت مع تونس دوراً طيباً في كبح جماح الخارجين على العروبة ومنها الى مطلب التدخل الخارجي ـ ولو بالسلاح الإسرائيلي... ولعلها، اكتشفت أن "العرب" باتوا أقلية وسط هؤلاء "الأصدقاء" الذين تكاثروا وكادوا يمسكون بالقرار ويحددون مستقبل هذه الأمة عبر تفتيت مكوناتها، ومن ثم دولها، بحيث لا يتبقى من رباط بين مئات الملايين من أبنائها المنتشرين بين الخليج والمحيط.

تبدت سوريا وكأنها بلا أهل. صار للمعارضة - وليس للدولة فيها او لشعبها مجتمعاً- "أصدقاء" فقط، لا علاقة لهم لا بهويتها ولا بتاريخها، وليس في ذاكرة العلاقات بينها وبينهم إلا الحروب الصليبية وإقامة إسرائيل بالقوة على جزء من أرضها الطبيعية.

ولم تكن الجامعة العربية، الى ما قبل الحرب الاميركية على العراق بذريعة تحرير الكويت، تقبل مثل هذا القرار. لكن الجامعة سقطت ضحية اولى في تلك الحرب التي اغتالت العراق بدولته وشعبه، ناشرة مناخ الفتنة في المنطقة جميعاً.

صار "أصدقاء سوريا" هم البديل من الجامعة ومن العرب كلهم.

أسقط أخوة سوريا إخوتهم والتحقوا بذلك الرهط من "الأصدقاء" الذين اثبتوا صدق التزامهم بثوابت الصداقة من خلال موقفهم من القضية الفلسطينية... كما اثبتوا حرارة تأييدهم للانتفاضات العريقة من خلال محاصرتهم ثورة مصر والضغط عليها سياسياً واقتصادياً وعبر المؤسسات الدولية التي يتحكمون بقراراتها لإخضاعها وامتهان كرامة شعبها.

هنا تطرح مجموعة من الأسئلة نفسها على أي مهتم بالحاضر كما بالمستقبل العربي:

هل هي مصادفة أن يتزامن وصول الإسلاميين الى السلطة مع اندثار دور جامعة الدول العربية، وتجاوز مجلس الأمن ذاته ـ بسبب التحسّب للفيتو الروسي - لتصير مرجعية العرب موزعة بين الحلف الأطلسي (للتدخل العسكري كما في ليبيا) و«أصدقاء سوريا» للتدخل غير الحربي في الداخل السوري وعبر الحدود، (مالياً واقتصادياً وسياسيا)؟.

وما هذه الخلطة التي تضيع الهوية السياسية المطلوب إسباغها على الربيع العربي؟ من هم أهله الشرعيون؟ وما حدود التطابق بين إرادة الجماهير في التغيير وبين إرادة الغرب بالقيادة الاميركية في تدجين الشعوب المنتفضة وإلزامها بالعودة الى بيت الطاعة بعد إسقاط الطاغية الذي بات عبئاً ولا بد من الخلاص منه لاحتواء الغضبة الجماهيرية من دون إسقاط النظام بسياساته المرضي عنها؟

لعله كان ينقص أن تضم إسرائيل الى هؤلاء "الأصدقاء".

ولماذا لم يحتشد هؤلاء "الأصدقاء" وتحت راية الجامعة العربية او معها من اجل فلسطين قبل ان تمحوها مشاريع الاستيطان في دولة يهود العالم، إضافة الى التخلي العربي وتيه القيادة الفلسطينية؟

ولماذا لم يحتشدوا من اجل العراق في مواجهة الاحتلال الاميركي عام 2003؟

ولماذا لم يحتشدوا من اجل لبنان في مواجهة الحرب الإسرائيلية عليه في صيف عام 2006، حتى لا نستذكر الاجتياحات الإسرائيلية ومجازرها في جنوبه (قانا كمثال) وبعض عاصمته وسائر المناطق؟!

ومع ان الأمين العام للجامعة العربية حاول جاهداً استنقاذ ما يمكن إنقاذه من كرامة موقفه ومن حصانة موقعه إلا أن الأكثرية خذلته لأسباب تتراوح بين إغراءات الذهب وتهيب السيوف و"خيانات" الرفاق القدامى، الذين افترضوا ان الموجة أعلى من ان يمكن مقاومتها فلجأوا الى الحكمة القائلة "عند اجتماع الدول إحفظ رأسك"!

لقد بات العرب أقلية غير مؤثرة في جامعة الدول العربية، وصار النفطيون "أكثرية" بقوة ذهبهم ونفوذهم في هذه اللحظة الانتقالية بين الميدان والديوان.

وهذا يعني غياب العرب عن القرار، حتى يعود القرار الى مصدره في الميدان

 

السفير

  • فريق ماسة
  • 2012-02-28
  • 11720
  • من الأرشيف

"الأصدقاء" يغيّبون "الأهل": اغتيال العروبة بالإسلام السياسي؟

اختفت كلمة العروبة من الأدبيات السياسية: أُسقطت عمداً من الخطاب الرسمي للقادة الإسلاميين من راكبي موجة الربيع العربي، كما أسقطها قادة المرحلة السابقة من أهل النظام العربي خوفاً أو نفاقاً، وصار الربيع العربي "يتيماً": لا أب له ولا عائلة... بل إن تنسيب هذا الربيع الى أي نوع من الهوية العربية يبدو مفتعلاً ويقصد به التضليل. لم يحدث أن نطق من ركب موجة الانتفاضات، التي أسقطت أنظـمة وبدلت، في أوضاع دول عربية عديدة، كلمة واحدة حول "العروبة" او أعلن التزامه بمقتضياتها، بل إن مجموع القيادات التي وصلت الى السلطة نتيجة انتصار الانتفاضات تتجنب تحديد هويتها القومية، وتفضل استيلاد هوية جديدة هي خليط من الإسلام السياسي المدجن اميركياً ومن "الوطنيات المحلية" التي تؤكد استقلاليتها عن الهوية الجامعة تاريخياً وجغرافياً وبموجب مقتضيات الأمن القومي، بمعزل عن اللسان العربي وعن الارتباط العضوي بين الإسلام والعروبة في هذه المجتمعات التي تظل في عيون العالم "عربية". وليس من المصادفات ان يغلب تعبير "الشرق الأوسط" على تعبير "العروبة"، وأن يصير مجلس الأمن او المجتمع الدولي هو البديل العملي عن الجامعة العربية وكل ما استولدته هذه المؤسسة العربية من مجالس وهيئات كانت تؤكد المستقبل الواحد لهذه الأمة بالاستناد لوحدة الطموحات التي تحرك جماهير شعوبها مشرقاً ومغرباً. وبديهي أن تحل إسرائيل محل فلسطين إذا كان اسم المنطقة جغرافياً يتمدد قياساً الى الغرب، أوروبياً وأميركياً، والى الشرقين الأدنى والأقصى، حيث تلغى الهويات الوطنية جميعاً، ويحدد موقع كل "جهة" بغض النظر عن شعوبها، قياساً الى الغرب بوصفه "المركز". من قبل ولادة الربيع، الذي أعطته واشنطن الهوية العربية، كانت الجامعة العربية بدولها جميعاً قد استقالت من مسؤوليتها عن فلسطين، شعباً وأرضاً، ماضياً وحاضراً ومستقبلاً، تاركة مصيرها في أيدي "المجتمع الدولي" بدءاً بالأمم المتحدة ومجلس أمنها والهيئات المتفرعة عنها والمتخصصة بحقوق الإنسان، وانتهاءً باللجنة الرباعية وضمنها الاتحاد الأوروبي. ...وعندما توالت الانتفاضات الشعبية في العديد من الأقطار العربية فأسقطت بعض أنظمة الطغيان وهددت بإسقاط أنظمة أخرى، وجدت جامعة الدول العربية نفسها محاصرة بالجماهير الغاضبة بحكم المصادفة الجغرافية، إذ إن مبناها العريق - الذي أقيم في الأصل مكان ثكنة لجنود الاحتلال البريطاني قبل إجلائه عن مصر - يقع عند باب الميدان، مع أن الموقع السياسي يكاد يجعله نقيضاً لتطلعاته.. ولم تكن تملك ما تقدمه او حتى ما تقوله لتلك الجماهير... وإن كان أمينها العام السابق قد تمشى الى ميدان التحرير القريب وحيّا الجماهير، ولكن بوصفه مرشحاً للرئاسة في "العهد الجديد"، وليس بصفته الرسمية. على أن هذا التودد الى جماهير الميدان لم يمنع الأمين العام نفسه من مجاملة الرئيس المذهب لدورة انعقاد مجلس الجامعة وموافقته على إحالة قضية ليبيا وانتفاضة شعبها ضد دكتاتورها الأبدي معمر القذافي الى مجلس الأمن، الذي أحالها بدوره الى الحلف الأطلسي الذي أرسل طيرانه الحربي ومدمراته لتحرير الليبيين من أعباء ثروتهم النفطية بآبارها وأنابيبها ومرافئ التصدير، حتى وإن انتهى الأمر بوضع هذه البلاد ذات الانتماء العربي الصريح على عتبة الحرب الأهلية. ...ولقد تكرر الأمر ذاته مع الأمين العام الجديد للجامعة، الذي واجهته فور تسلمه موقعه السامي التطورات الدموية المخيفة للمواجهات اليومية بين السلطة في سوريا وبين حركة الاعتراض التي أخذت في التوسع.. ولقد اندفع النظام الى عنف غير مبرر في البدايات في مواجهة فصائل معارضة أطلت سلمية.. لكن هذا العنف سرعان ما فتح الحدود امام مجموعات مسلحة آتية من جهات عديدة، مزودة بعقيدة أشد فتكاً من الأسلحة التي تحملها، وقد تسبب ذلك كله بإلحاق أضرار جسيمة بالمجتمع السوري وقدراته، فضلاً عن تاريخه المشرف في إعادة الاعتبار الى مفهوم العروبة كإطار قومي جامع بين أهل هذه الأرض، على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم، مع احترام الإسلام بوصفه دين الأكثرية الساحقة، والارتفاع فوق ترسبات الصراعات المذهبية والعرقية عبر التلاقي على المشروع السياسي للغد الأفضل. ونتيجة لاستغلال بعض الدول المذهبة تزايد حدة المواجهات الدموية بين النظام ومعارضيه في الداخل السوري، ارتكبت سابقة تعليق عضوية دولة مؤسسة للجامعة، وأخرج ممثل سوريا من حضن هذه المؤسسة التي كانت سوريا مهد ولادتها (مؤتمر بلودان). ثم مع استمرار ولاية الرئيس المذهب لدور انعقاد مجلس الجامعة العربية، لم يجد الأمين العام الجديد للجامعة مخرجاً يعفيه من أداء مهمة لا تتفق مع طبيعة دوره وموقع المؤسسة التي يمثل، فكان ان ذهب الى مجلس الأمن في مهمة لم يكن ليقبلها في ظل مناخ طبيعي أسقطته الهيمنة النفطية على القرار العربي. وكان ذلك إعلاناً بأنه لم يعد للجامعة العربية من دور، وبأنها فقدت مكانتها كمرجعية بعدما تأكد عجزها عن المعالجة بل وسقوطها في موقع الطرف، مع انتشار مناخ مسموم يتهمها بما يتجاوز العجز الى التورط. صارت أشبه بدائرة تصديق على قرارات تتخذها الأكثرية النفطية. ولما فشل مجلس الأمن في تبني قرار إعلان الحرب على النظام السوري "المطرود" من الجامعة، تم ابتداع "مؤتمر أصدقاء سوريا" كمرجعية بديلة... وكانت المفارقة ان الجامعة العربية قد تصدرت الصف الأول جنباً الى جنب مع الدول الإمبريالية (سابقاً)، في حين أكملت الجبهة النفطية العربية هجومها الشرس، فذهب بعضها الى أبعد مما تطالب به المعارضات السورية التي تعذر توحيدها.. وهكذا سمعنا الأمير سعود الفيصل يطالب بتسليح "المنشقين" معتبراً النظام سلطة احتلال. انتبه بعض العرب الى خطورة المنزلق الذي يدفعون اليه مع الجامعة العربية، وكانت مصر أول المتنبهين، ومن هنا أنها لعبت مع تونس دوراً طيباً في كبح جماح الخارجين على العروبة ومنها الى مطلب التدخل الخارجي ـ ولو بالسلاح الإسرائيلي... ولعلها، اكتشفت أن "العرب" باتوا أقلية وسط هؤلاء "الأصدقاء" الذين تكاثروا وكادوا يمسكون بالقرار ويحددون مستقبل هذه الأمة عبر تفتيت مكوناتها، ومن ثم دولها، بحيث لا يتبقى من رباط بين مئات الملايين من أبنائها المنتشرين بين الخليج والمحيط. تبدت سوريا وكأنها بلا أهل. صار للمعارضة - وليس للدولة فيها او لشعبها مجتمعاً- "أصدقاء" فقط، لا علاقة لهم لا بهويتها ولا بتاريخها، وليس في ذاكرة العلاقات بينها وبينهم إلا الحروب الصليبية وإقامة إسرائيل بالقوة على جزء من أرضها الطبيعية. ولم تكن الجامعة العربية، الى ما قبل الحرب الاميركية على العراق بذريعة تحرير الكويت، تقبل مثل هذا القرار. لكن الجامعة سقطت ضحية اولى في تلك الحرب التي اغتالت العراق بدولته وشعبه، ناشرة مناخ الفتنة في المنطقة جميعاً. صار "أصدقاء سوريا" هم البديل من الجامعة ومن العرب كلهم. أسقط أخوة سوريا إخوتهم والتحقوا بذلك الرهط من "الأصدقاء" الذين اثبتوا صدق التزامهم بثوابت الصداقة من خلال موقفهم من القضية الفلسطينية... كما اثبتوا حرارة تأييدهم للانتفاضات العريقة من خلال محاصرتهم ثورة مصر والضغط عليها سياسياً واقتصادياً وعبر المؤسسات الدولية التي يتحكمون بقراراتها لإخضاعها وامتهان كرامة شعبها. هنا تطرح مجموعة من الأسئلة نفسها على أي مهتم بالحاضر كما بالمستقبل العربي: هل هي مصادفة أن يتزامن وصول الإسلاميين الى السلطة مع اندثار دور جامعة الدول العربية، وتجاوز مجلس الأمن ذاته ـ بسبب التحسّب للفيتو الروسي - لتصير مرجعية العرب موزعة بين الحلف الأطلسي (للتدخل العسكري كما في ليبيا) و«أصدقاء سوريا» للتدخل غير الحربي في الداخل السوري وعبر الحدود، (مالياً واقتصادياً وسياسيا)؟. وما هذه الخلطة التي تضيع الهوية السياسية المطلوب إسباغها على الربيع العربي؟ من هم أهله الشرعيون؟ وما حدود التطابق بين إرادة الجماهير في التغيير وبين إرادة الغرب بالقيادة الاميركية في تدجين الشعوب المنتفضة وإلزامها بالعودة الى بيت الطاعة بعد إسقاط الطاغية الذي بات عبئاً ولا بد من الخلاص منه لاحتواء الغضبة الجماهيرية من دون إسقاط النظام بسياساته المرضي عنها؟ لعله كان ينقص أن تضم إسرائيل الى هؤلاء "الأصدقاء". ولماذا لم يحتشد هؤلاء "الأصدقاء" وتحت راية الجامعة العربية او معها من اجل فلسطين قبل ان تمحوها مشاريع الاستيطان في دولة يهود العالم، إضافة الى التخلي العربي وتيه القيادة الفلسطينية؟ ولماذا لم يحتشدوا من اجل العراق في مواجهة الاحتلال الاميركي عام 2003؟ ولماذا لم يحتشدوا من اجل لبنان في مواجهة الحرب الإسرائيلية عليه في صيف عام 2006، حتى لا نستذكر الاجتياحات الإسرائيلية ومجازرها في جنوبه (قانا كمثال) وبعض عاصمته وسائر المناطق؟! ومع ان الأمين العام للجامعة العربية حاول جاهداً استنقاذ ما يمكن إنقاذه من كرامة موقفه ومن حصانة موقعه إلا أن الأكثرية خذلته لأسباب تتراوح بين إغراءات الذهب وتهيب السيوف و"خيانات" الرفاق القدامى، الذين افترضوا ان الموجة أعلى من ان يمكن مقاومتها فلجأوا الى الحكمة القائلة "عند اجتماع الدول إحفظ رأسك"! لقد بات العرب أقلية غير مؤثرة في جامعة الدول العربية، وصار النفطيون "أكثرية" بقوة ذهبهم ونفوذهم في هذه اللحظة الانتقالية بين الميدان والديوان. وهذا يعني غياب العرب عن القرار، حتى يعود القرار الى مصدره في الميدان   السفير

المصدر : طلال سلمان \السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة