دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
في البدء كانت «الجزيرة»... ثم كانت قطر. هل يمكن أحداً أن يتذكر قطر السياسية قبل «الجزيرة»، ويخبرنا شيئاً عن توجهاتها وطموحاتها ان وُجِدت؟ واليوم، هل يمكن أحداً تجاهل قطر وسياستها وطموحاتها في المنطقة؟
عبر «الجزيرة»، لعبت قطر دوراً كبيراً في اسقاط زين العابدين بن علي وحسني مبارك، فلو لم تكن تلك المحطة قد نصبت كاميراتها في ساحات الاحتجاج، وكرّست استديوهاتها العربية والانكليزية لدعم المحتجين، لما كان ممكناً خلق رأي عام دولي واحراج دول كبرى لكي تتقمص هي الاخرى مظهر الداعم للاحتجاجات وتدعو مبارك الى التنحي.
ثم هل نتجاهل دور «الجزيرة» في اعداد مسرح المواجهة الليبية عبر خلق القناعة لدى الكثيرين بأنّ الشعب الليبي يجب الا يترك تحت رحمة ديكتاتور مجنون؟ وبعدما كانت القناة التي ينظر اليها على نطاق واسع بأنّها معادية للاحتلال الاميركي في العراق، باتت «الجزيرة» منبراً لتبرير التدخل الخارجي في ليبيا.
في سوريا، صنعت «الجزيرة» معظم السردية التي استندت إليها الدول الخليجية والغربية في نقل الأزمة السورية من حيّزها الداخلي، كحركة احتجاج شعبي ضد سلطة ديكتاتورية فاسدة، الى مفصل صراع جيوسياسي غايته تبرير التدخل الاجنبي لتغيير النظام. وهو تدخل يحتاج الى سردية «الجزيرة» عن سوريا لكي يبرر نفسه اخلاقياً. ولكن عندما حَجَبَت «الجزيرة» كاميراتها واستديوهاتها عن الاحتجاجات البحرينية، فإنّها أسهمت بعدم تكون ضغط دولي، ولا رأي عام شعبي تجاه القضية البحرينية. وبهذا المعنى، فإنّ جزءاً كبيراً من السياسة في المنطقة بات لا يتعاطى مع الحقيقة كما هي، بل مع الحقيقة كما تسردها «الجزيرة».
غير أنّ ذلك لا ينبغي ان يقودنا الى افتراض انّ اقامة «الجزيرة» كان جزءاً من خطة بعيدة المدى كما يميل البعض. الأمر ببساطة انّ الدوحة كانت الطرف الأكثر مشاكسةً للهيمنة السعودية في الخليج، على خلفية التحفظ السعودي على انقلاب الابن على ابيه في قطر (والذي كان يُخشى ان يضع سابقة تقلق شيوخ الاسرة السعودية الحاكمة، وهم محاطون بآلاف الامراء من الأجيال الشابة)، وعلى خلفية نزاع حدودي بين البلدين. أرادت السلطة القطرية عبر «الجزيرة» ومنهجها المناوئ للأمر الواقع والناقد بحدّة لاسرائيل والغرب، والمنادي بتصحيح العلاقة بين الحكام والشعوب، ازعاج السعودية التي مثلت القوة المحافظة الرئيسية في المنطقة. لكن فرادة «الجزيرة» تلك هي التي صنعت نفوذها، ومن ثم نفوذ قطر. كانت السياسة القطرية تتبع خطى «الجزيرة» وتختبئ وراءها، حتى جاءت ليبيا وأزمتها، منذ تلك اللحظة بدأت «الجزيرة» تتبع قطر، وتدريجياً تفقدُ فرادتها.
اليوم هناك قطر، ثم هناك «الجزيرة». قطر موجودة في كل زوايا العالم العربي: في السودان حيث رعت التسوية بين الحكومة ومتمردي دارفور، وموّلت أخيراً بنك دارفور برأسمال يبلغ بليون دولار. في تونس هي الداعم الخارجي الرئيسي لحركة النهضة التي فازت في الانتخابات البرلمانية. وفي مصر تدعم الاخوان وبعض الحركات السلفية. وفي ليبيا أسهمت قطر بالدور الرئيسي في تشكيل المجلس الانتقالي، وفي تسليح وتمويل المعارضة. فلسطينياً، يبدو أنّ الدوحة في طريقها لتصبح الداعم الرئيسي لحركة حماس، وراعي التسوية بينها وبين فتح. اما سورياً، فإنّ قطر لعبت دوراً رئيسياً في تشكيل المجلس الانتقالي المعارض، وفي تحويل القضية السورية إلى الجامعة العربية، ومن ثم الى مجلس الأمن، فضلاً عن دورها في تمويل وتسليح التشكيلات القتالية المعارضة، بحسب التقارير الاخيرة. قطر موجودة ايضاً في العراق ولبنان واليمن وموريتانيا والمغرب.
هذا الدور القطري المتعاظم في تشكيل الواقع الجديد للشرق الاوسط، يمثل تحدياً للنظريات الجيوسياسية الكلاسيكية، وللمفاهيم التقليدية في السياسة الدولية. فقطر هي دولة صغيرة جداً، بعدد سكان لا يتجاوز مليوناً واحداً، وبمساحة جغرافية تقدر بـ11.437 كيلومتراً مربعاً، وقوة مسلحة تتألف من 12.000 رجل. وهي عناصر لا تؤهلها وفق المفاهيم التقليدية لامتلاك طموحات امبراطورية، او وزن اقليمي كبير كالذي تمارسه حالياً. ولكن عندما تعجز النظرية عن تفسير الواقع، فذلك يعني انّها اما قاصرة او قديمة. في عالم اليوم، باتت عوامل القوة الصلبة كحجم الاقليم وعدد السكان وحجم القوة العسكرية، أقل أهمية من قبل، لأنّ طبيعة النشاط الاقتصادي قد تغيّرت كثيراً، وتجاوز المرحلتين الزراعية (حيث لاحتلال الارض قيمة اقتصادية كبيرة)، والصناعية (حيث التوسع الكولونيالي يخدم اهداف مراكمة الثروة الاقتصادية). ونحن اليوم في العصر ما بعد الصناعي او المعلوماتي، حيث النشاط الافتراضي غير الخاضع لشروط المكان هو المهيمن. من هنا يمكن توصيف الدور القطري في اطار ما يمكن تسميته بنفوذ الدولة الافتراضية، كتعبير عن كيان وزنه الافتراضي اكبر من وزنه الحقيقي، وقيمته المتأتية من فعله تتجاوز كثيراً قيمته المتأتية من وجوده. الدور الذي تلعبه قطر اليوم لا يمكن ان يُفَسّر فقط بالمنطق التقليدي بوصفه تعبيراً عن طموحات «دولة» تسعى لمزيدٍ من النفوذ. يمكن أن يصدق ذلك أكثر على تركيا او ايران او السعودية، حيث السياسة الخارجية مدفوعة بطموحات جيوسياسية تقليدية.
يتأتى النفوذ القطري اساساً من عنصرين مترابطين. الأول القوة المالية التي تراكمها صادراتها الغازية والنفطية والتي سمحت بأن يكون دخل الفرد القطري السنوي الأعلى في العالم (حوالي 103 ألف دولار)، مع فائض مالي كبير يُسَهِل للحكومة لعب دور مؤثر خارجياً عبر تمويل الحكومات والأحزاب والميليشيات والاعلام. وهنا يأتي دور العامل الثاني، اي النفوذ الاعلامي الذي تحقق عبر فضائية «الجزيرة» باللغتين العربية والانكليزية، والذي مكّنها من أن تلعب دوراً رئيسياً في ما تُعَرفه الدراسات الإعلامية بـ«تحديد الأجندة»، اي تقرير ما هي المواضيع الرئيسية الجديرة بالانتباه، وايضاً في تحديد كيفية روايتها (ما طبيعة المشكلة، من هم أطرافها، وكيف يمكن حلها). بهذا المعنى تشبه قطر منظمةً دوليةً بوارد مالي ضخم ومكتب للعلاقات العامة تنشط للتأثير على الدول والحكومات، دون ان ينظر اليها بوصفها مضطرة للخضوع للمعايير نفسها التي تريد فرضها على الآخرين.
تمكنت السلطة القطرية من لعب هذا الدور عبر تحررها من القيدين الجيوسياسي والايديولوجي. فقطر تبدو بلا مجتمع. انّها سلطة غنية جداً فقط، وبالتالي لديها مرونة عالية في ازعاج خصومها عبر دعم وتأجيج حركات داخلية دون ان يتمكن خصومها من مواجهتها بالسلاح نفسه. كما انّها لا تمتلك عقيدة سياسية على غرار ايران او تركيا او حتى السعودية، وهي تعاظم نفوذها بوصفها كياناً لا عقيدة ولا هوية محددة له. وهي بهذا المعنى ليست مجرد سلطة براغماتية، لأنّ كل سلطة في العالم هي براغماتية، لكنّها أكثر من ذلك تتحرك بوحي من «كلبية» (Cynicism) حادة. ومن هنا يتسنى لقطر أن تلعب دوراً في التلاقي بين المصالح الغربية وبين التيارات الاسلامية، وأن تقترب من اسرائيل وحماس في الوقت ذاته، وأن تؤوي أكبر قاعدة عسكرية اميركية ومركز العمليات في حرب العراق في 2003 وفي الوقت نفسه تشن أشرس هجوم على الحرب عبر فضائيتها التي لا تبعد كثيراً عن تلك القاعدة، وأن تكون محطة تفاوض مثالية بين الولايات المتحدة وبين حركة طالبان. باختصار، ان تكون نقطة اتصال بين المتضادات.
اخيراً، صعود قطر هو تعبير عن أزمتين: أزمة الدولة «العربية» التي لا تزال كياناً مصطنعاً وهشاً وطيعاً للتدخلات من قبل كل من لديه فائض قوة. وثانياً، أزمة الفراغ الجيوسياسي العربي المتمثل في غياب قوة عربية ذات مشروع يناغم تطلعات الغالبية في المجتمعات العربية. قطر هي تعبير عن الفراغ، بل هي الفراغ وقد اصبح لاعباً جديداً بوزن افتراضي كبير.
* باحث في العلوم السياسية
المصدر :
الاخبار /حارث الحسن
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة