عاشت قبرص للحظات قليلة أول أمس، نشوة اكتشاف مخزون ضخم من الغاز أمام شواطئها يكفيها لعقود من الزمن، قبل أن تستفيق على حقيقة الواقع السياسي الإقليمي والمحلي، الذي قد يشكل من الاكتشاف هذا معضلة إضافية تضاف إلى المعادلة الشائكة لهذه الجزيرة المقسّمة. فبين مفاوضات التوحيد العالقة، وعدم الاعتراف التركي بشرعية حكومة قبرص اليونانية، وبين تقارب الأخيرة مع اسرائيل للتنافس على غاز المتوسط بمواجهة تركيا ولبنان من الجهة المقابلة، يبقى 224 مليار متر مكعب من الغاز في الـ«بلوك 12» برسم حلول تبدو بعيدة.

وأعلن الرئيس القبرصي اليوناني ديميتريس خريستوفياس أن شركة «نوبل انرجي» الاميركية تمكنت من اكتشاف مخزون من الغاز قبالة سواحل الجزيرة الجنوبية، يقدر بما بين 5 و8 تريليونات من أقدام الغاز المكعبة أي حوالى 224 مليار متر مكعب. ووصل عمق التنقيب في القاع البحري إلى حوالى 5861 مترا، على عمق 1689 مترا. ومن المقدر أن تمتد مساحة حقل الغاز في الـ«بلوك 12» إلى حوالى 103,6 كيلومترات مربعة.

ويقول الباحث في شؤون الطاقة لدى جامعة قبرص كونستانتينوس حاجيتسو لوكالة «بلومبرغ» للأنباء إن السعر الحالي للغاز هو حوالى 4 دولارات لكل مليون «وحدة حرارية بريطانية»، ما يرفع القيمة المالية التقديرية للحقل المكتشف إلى حوالى 32 مليار دولار.

وتعمل «نوبل انرجي» في الحقل القبرصي على أساس امتلاكها حصة 70 في المئة، مقابل 15 في المئة لكل من «ديليك دريلينيغ ال بي»، و«افنير للتنقيب ال ال بي». و«افنير» هي شركة تابعة لمؤسسة «ديليك» التي يمتلكها المليونير الاسرائيلي اسحق شارون، ويدير «افنير» الثري الاسرائيلي أيضا ديفيد كوهين.

بالطبع، سارع خريستوفياس الذي يقف في موقع سياسي متأزم نتيجة الأزمات الحكومية والتراجع الاقتصادي، إلى الحديث عن «اكتشاف الغاز الطبيعي في المنطقة الاقتصادية الخاصة بنا» الذي «من شأنه أن يفتح إمكانيات عظيمة أمام قبرص وشعبها، الذي سيستخدمه بروح الجماعية والتروي في خدمة مصلحتنا العامة»، مشيرا إلى «آفاق اقتصادية إيجابية فتحت أمام مستقبل البلاد». وتبجّح خريستوفياس مستبقا الأمور بعض الشيء، بالحديث عن «المستثمرين الاجانب الذين أعربوا عن اهتمامهم بالعمل في قبرص، إضافة إلى الاستثمارات المتأتية من تطوير البنى التحتية الضرورية لاستغلال الغاز الطبيعي».

لكن تركيا لا تعترف بالحكومة القبرصية اليونانية وقد أرسلت في أيلول الماضي سفينة استكشاف صاحبتها سفن عسكرية وطائرات مقاتلة إلى منطقة التنقيب بعد انطلاق أعمال «نوبل انرجي». كما أعلنت تركيا أن مشاريع التطوير يجب ان تنتظر حل الوضع السياسي للجزيرة. وقد دعا الأمين العام للامم المتحدة بان كي مون خريستوفياس ونظيره القبرصي التركي درويش ايروغلو إلى جولة جديدة لمحادثات التوحيد في نيويورك خلال كانون الثاني المقبل.

وبالفعل توجه خريستوفياس في حديثه أمس إلى تركيا التي دعاها إلى «إبداء روح السلام والتعاون، لتفادي أية مغامرات واستفزازات قد تؤدي إلى مشاكل في المفاوضات وتوترات في منطقة شرقي البحر المتوسط»، واعتبر أن «اكتشاف الغاز يجب أن يكون محفزاً للحل القبرصي، الذي ينهي الاحتلال غير الشرعي، ويوحد بلدنا وشعبنا، ويعيد حقوق الإنسان والحريات الأساسية لشعبنا، القبارصة اليونانية منه كما القبارصة الأتراك».

لكن الرد القبرصي التركي كان باردا، إذ نقلت صحيفة «سايبرس مايل» عن مساعد ايروغلو قدرت اوزرساي، قوله إنه «في نظرنا على القبارصة اليونانيين أن يستثمروا أكثر في المفاوضات، لا في الأشياء التي تسبب خلافات إضافية».

ويقول الاستشاري في الشؤون النفطية بيار غوديك، إنه بمخزون غازي يكفي قبرص لحوالى 150 عاما، سيكون من الضروري تصدير الغاز من المتوسط إلى أوروبا الغربية، مشيرا إلى أن التصدير سيكون معقداً نتيجة التوتر السياسي التاريخي. ويوضح غوديك أنه سيكون على خط الأنابيب المعد للتصدير أن يتصل بشبكة تمر بتركيا، إضافة إلى محطة لتسييل الغاز من اسرائيل وقبرص قبل تصديره. ويزيد ذلك من تداخل الملف السياسي بالملف الغازي، ما من شأنه أن يعرقل استغلال الحقل المكتشف.

وتقول صحيفة «سايبرس مايل» إنه «قد يستخدم السياسيون والمحللون كلمات لطيفة حول استخدام الاكتشاف لحل أو تعاون مع تركيا، لكن لا وجود لاحتمال كهذا في الوضع الحالي»، وتضيف أن «المفاوضات تراوح مكانها حول قضايا عالقة منذ 37 عاما»، معتبرة أن «بلوغ اتفاق حول الغاز سيتطلب 37 عاما إضافية». كما تؤكد الصحيفة أنه «يجب عدم تجاهل التهديدات التركية، فأنقرة لديها القدرة على إنهاء المحادثات القبرصية أو خلق بلبلة إقليمية تكفي لإنهاء أعمال التنقيب».

كما تتطرق الصحيفة القبرصية إلى الواقع السياسي المحلي، لافتة إلى أن عملية الاستفادة من الغاز المكتشف «تتطلب معرفة سياسية، وتعاوناً وشفافية، وكلها صفات تنقصنا بحدة في ظل نقص الكفاءات وانتشار الفساد اللذين شهدناهما مرات عديدة خلال الأعوام الأخيرة»، ومنوهة إلى تأكيد وزيرة التجارة باركسولا انطونيادو على أن أمام قبرص 3 أعوام قبل أن تتمكن من استغلال الغاز فعليا.

الثلاثي «نوبل» و«افنير» و«ديليك» يشارك الحكومة القبرصية اليونانية حقل الغاز في الـ«بلوك 12» كما يشارك الحكومة الاسرائيلية حقلي «لفيتان» و«تمار» في منطقة شرقي المتوسط أيضا، وهما حقلان تدور حولهما أيضا منافسة شديدة مع الطرف اللبناني الذي تمتد الحقول البحرية إلى قبالة شواطئه. أضف إلى ذلك، الخلاف مع تركيا التي تنتظرها محطات دبلوماسية ساخنة في العام الجديد، والتفكك السياسي الداخلي في قبرص بموازاة الفساد والانكماش الاقتصادي، تكون الحصيلة أن الـ«بلوك 12» سيكون في العام 2012، نقطة توتر جديدة تضاف إلى خريطة المنطقة الواقفة على فوهة بركان.

  • فريق ماسة
  • 2011-12-29
  • 11331
  • من الأرشيف

مصالح مشتركة مع إسرائيل والقلق الأكبر من الموقف التركي ...الغاز القبرصي في «بلوك 12»: نعمة أم نقمة؟

عاشت قبرص للحظات قليلة أول أمس، نشوة اكتشاف مخزون ضخم من الغاز أمام شواطئها يكفيها لعقود من الزمن، قبل أن تستفيق على حقيقة الواقع السياسي الإقليمي والمحلي، الذي قد يشكل من الاكتشاف هذا معضلة إضافية تضاف إلى المعادلة الشائكة لهذه الجزيرة المقسّمة. فبين مفاوضات التوحيد العالقة، وعدم الاعتراف التركي بشرعية حكومة قبرص اليونانية، وبين تقارب الأخيرة مع اسرائيل للتنافس على غاز المتوسط بمواجهة تركيا ولبنان من الجهة المقابلة، يبقى 224 مليار متر مكعب من الغاز في الـ«بلوك 12» برسم حلول تبدو بعيدة. وأعلن الرئيس القبرصي اليوناني ديميتريس خريستوفياس أن شركة «نوبل انرجي» الاميركية تمكنت من اكتشاف مخزون من الغاز قبالة سواحل الجزيرة الجنوبية، يقدر بما بين 5 و8 تريليونات من أقدام الغاز المكعبة أي حوالى 224 مليار متر مكعب. ووصل عمق التنقيب في القاع البحري إلى حوالى 5861 مترا، على عمق 1689 مترا. ومن المقدر أن تمتد مساحة حقل الغاز في الـ«بلوك 12» إلى حوالى 103,6 كيلومترات مربعة. ويقول الباحث في شؤون الطاقة لدى جامعة قبرص كونستانتينوس حاجيتسو لوكالة «بلومبرغ» للأنباء إن السعر الحالي للغاز هو حوالى 4 دولارات لكل مليون «وحدة حرارية بريطانية»، ما يرفع القيمة المالية التقديرية للحقل المكتشف إلى حوالى 32 مليار دولار. وتعمل «نوبل انرجي» في الحقل القبرصي على أساس امتلاكها حصة 70 في المئة، مقابل 15 في المئة لكل من «ديليك دريلينيغ ال بي»، و«افنير للتنقيب ال ال بي». و«افنير» هي شركة تابعة لمؤسسة «ديليك» التي يمتلكها المليونير الاسرائيلي اسحق شارون، ويدير «افنير» الثري الاسرائيلي أيضا ديفيد كوهين. بالطبع، سارع خريستوفياس الذي يقف في موقع سياسي متأزم نتيجة الأزمات الحكومية والتراجع الاقتصادي، إلى الحديث عن «اكتشاف الغاز الطبيعي في المنطقة الاقتصادية الخاصة بنا» الذي «من شأنه أن يفتح إمكانيات عظيمة أمام قبرص وشعبها، الذي سيستخدمه بروح الجماعية والتروي في خدمة مصلحتنا العامة»، مشيرا إلى «آفاق اقتصادية إيجابية فتحت أمام مستقبل البلاد». وتبجّح خريستوفياس مستبقا الأمور بعض الشيء، بالحديث عن «المستثمرين الاجانب الذين أعربوا عن اهتمامهم بالعمل في قبرص، إضافة إلى الاستثمارات المتأتية من تطوير البنى التحتية الضرورية لاستغلال الغاز الطبيعي». لكن تركيا لا تعترف بالحكومة القبرصية اليونانية وقد أرسلت في أيلول الماضي سفينة استكشاف صاحبتها سفن عسكرية وطائرات مقاتلة إلى منطقة التنقيب بعد انطلاق أعمال «نوبل انرجي». كما أعلنت تركيا أن مشاريع التطوير يجب ان تنتظر حل الوضع السياسي للجزيرة. وقد دعا الأمين العام للامم المتحدة بان كي مون خريستوفياس ونظيره القبرصي التركي درويش ايروغلو إلى جولة جديدة لمحادثات التوحيد في نيويورك خلال كانون الثاني المقبل. وبالفعل توجه خريستوفياس في حديثه أمس إلى تركيا التي دعاها إلى «إبداء روح السلام والتعاون، لتفادي أية مغامرات واستفزازات قد تؤدي إلى مشاكل في المفاوضات وتوترات في منطقة شرقي البحر المتوسط»، واعتبر أن «اكتشاف الغاز يجب أن يكون محفزاً للحل القبرصي، الذي ينهي الاحتلال غير الشرعي، ويوحد بلدنا وشعبنا، ويعيد حقوق الإنسان والحريات الأساسية لشعبنا، القبارصة اليونانية منه كما القبارصة الأتراك». لكن الرد القبرصي التركي كان باردا، إذ نقلت صحيفة «سايبرس مايل» عن مساعد ايروغلو قدرت اوزرساي، قوله إنه «في نظرنا على القبارصة اليونانيين أن يستثمروا أكثر في المفاوضات، لا في الأشياء التي تسبب خلافات إضافية». ويقول الاستشاري في الشؤون النفطية بيار غوديك، إنه بمخزون غازي يكفي قبرص لحوالى 150 عاما، سيكون من الضروري تصدير الغاز من المتوسط إلى أوروبا الغربية، مشيرا إلى أن التصدير سيكون معقداً نتيجة التوتر السياسي التاريخي. ويوضح غوديك أنه سيكون على خط الأنابيب المعد للتصدير أن يتصل بشبكة تمر بتركيا، إضافة إلى محطة لتسييل الغاز من اسرائيل وقبرص قبل تصديره. ويزيد ذلك من تداخل الملف السياسي بالملف الغازي، ما من شأنه أن يعرقل استغلال الحقل المكتشف. وتقول صحيفة «سايبرس مايل» إنه «قد يستخدم السياسيون والمحللون كلمات لطيفة حول استخدام الاكتشاف لحل أو تعاون مع تركيا، لكن لا وجود لاحتمال كهذا في الوضع الحالي»، وتضيف أن «المفاوضات تراوح مكانها حول قضايا عالقة منذ 37 عاما»، معتبرة أن «بلوغ اتفاق حول الغاز سيتطلب 37 عاما إضافية». كما تؤكد الصحيفة أنه «يجب عدم تجاهل التهديدات التركية، فأنقرة لديها القدرة على إنهاء المحادثات القبرصية أو خلق بلبلة إقليمية تكفي لإنهاء أعمال التنقيب». كما تتطرق الصحيفة القبرصية إلى الواقع السياسي المحلي، لافتة إلى أن عملية الاستفادة من الغاز المكتشف «تتطلب معرفة سياسية، وتعاوناً وشفافية، وكلها صفات تنقصنا بحدة في ظل نقص الكفاءات وانتشار الفساد اللذين شهدناهما مرات عديدة خلال الأعوام الأخيرة»، ومنوهة إلى تأكيد وزيرة التجارة باركسولا انطونيادو على أن أمام قبرص 3 أعوام قبل أن تتمكن من استغلال الغاز فعليا. الثلاثي «نوبل» و«افنير» و«ديليك» يشارك الحكومة القبرصية اليونانية حقل الغاز في الـ«بلوك 12» كما يشارك الحكومة الاسرائيلية حقلي «لفيتان» و«تمار» في منطقة شرقي المتوسط أيضا، وهما حقلان تدور حولهما أيضا منافسة شديدة مع الطرف اللبناني الذي تمتد الحقول البحرية إلى قبالة شواطئه. أضف إلى ذلك، الخلاف مع تركيا التي تنتظرها محطات دبلوماسية ساخنة في العام الجديد، والتفكك السياسي الداخلي في قبرص بموازاة الفساد والانكماش الاقتصادي، تكون الحصيلة أن الـ«بلوك 12» سيكون في العام 2012، نقطة توتر جديدة تضاف إلى خريطة المنطقة الواقفة على فوهة بركان.

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة