حزينة وكئيبة هي بغداد، كأنها تدخل التاريخ مجددا بعد أن صنعت التاريخ آلاف السنين. أفاقت قبل أيام على عاصمة خالية من الأميركيين الذين انسلوا في الليل تاركين عاصمة الرشيد لأقدارها، بعدما استنزفوا منها ومن كل بلاد الرافدين كل الخير ودمروا بلدا عظيما، وأورثوها نزاعات وخلافات وانقسامات تهدد العراق. وصارت أكثر أحياء بغداد تبيت على العتم باكرا، ولا تدري على ماذا ستصحو، بعدما كانت متلألئة ليل نهار منذ نيف وعشر سنوات.

ترى الحزن والخوف على المصير في عيون كل البغداديين، لا كلام إلا الأمنيات، ملوا من الكلام عن الواقع، وباتوا ينتظرون مستقبل قيام الدولة، والدولة الجديدة مقسمة طوائف وأحزابا ومناطق وعرقيات، لكن الأمل باقٍ، على ما يقول بعض الشباب، بأن يكسر المستقبل حواجز الخوف، ويهدم جدران المنطقة الخضراء التي رفعها الأميركيون وتعزل كل العراق عن بعض أحياء بغداد.

فرحت بغداد بقدوم وفود عربية صحافية من 19 دولة، للمشاركة في مؤتمر الأمانة العامة لاتحاد الصحافيين العرب الذي انعقد يومي 17 و18 الشهر الحالي في فندق «الرشيد»، بعد قطيعة للعراق استمرت ثلاثين عاما. فرحوا بعودة العرب إليهم وخطابهم الرسمي والشعبي أن العراق لطالما كان قلب العرب وحامل قضاياهم، وآن لهم أن يعودوا إليه، وهو ما عبر عنه صراحة رئيس الوزراء نوري المالكي في افتتاح المؤتمر، كما عبر عنه رئيس المجلس الإسلامي الأعلى السيد عمار الحكيم، الذي زار المؤتمرين مرحّباً ومثنيا على اختيار بغداد مقراً للمؤتمر.

وأكد الرجلان على عروبة العراق ووحدة أرضه وأبنائه وارتباط مصالحه بمصالح أمته. كما أكدا إصرار العراق على استضافة القمة العربية الدورية المقررة في آذار من العام المقبل. ولاحظا تزامن انعقاد المؤتمر مع جلاء آخر جندي أميركي عن ارض العراق، ما يعني أن العراق يفتح قلبه وذراعيه لإخوانه العرب بديلا للأميركيين، فيما كان الوفد العراقي المكلف من المالكي في اليوم الثاني يزور دمشق في إطار المساعي التي أدت إلى موافقة سوريا على توقيع بروتوكول دخول المراقبين العرب إلى مناطقها. وقد فسر بعض العرب هذا الأمر بأنه «عودة للعراق إلى ممارسة دوره التصالحي والتوفيقي وعلى حساب قطر، وعودة إلى لحظات الفرح القليلة التي أعقبت تشكيل ميثاق العمل القومي المشترك بين سوريا والعراق في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، والذي لم يعمر طويلا».

اعتذر أكثر من مرة، المالكي ونقيب الصحافة الجديد مؤيد اللامي كما كل العراقيين المشرفين على تنظيم المؤتمر وانتقال الوفود من الفندق في قلب المنطقة الخضراء إلى خارجها، بسبب طبيعة الإجراءات الأمنية المشددة فوق العادة التي اتخذت. وبرروها بالحرص على امن المشاركين، ولكن بغداد كلها الآن أشبه بثكنة عسكرية كبيرة، حيث حواجز الجيش والشرطة في كل شارع وعند كل مفرق وتقاطع طرق، يستوي في ذلك شارع أبو النواس بشارع المتنبي وشارع المنصور، وساحة الحرية بساحات بغداد كلها. أما الداخل إلى المنطقة الخضراء فعليه تحمل مشقة «العبور» من البوابات الكثيرة إلى ما يشبه المدينة المحرمة في الصين أيام الأباطرة، لكثرة حواجز التفتيش ضمن مربع لا تتجاوز مساحته عشرة كيلومترات مربعة.

لا يخفي العراقيون فرحتهم بالانسحاب الأميركي، لكنهم قلقون من أكثر من أمر: الوضع الاقتصادي والمعيشي ومكافحة الفقر، استعادة الخدمات الأساسية بشكل كامل وإعادة بناء البنى التحتية، والإمساك بالأمن، فيما لا زالت السلطات الرسمية تعلن عن انفجار سيارات مفخخة، حيث تم الإعلان يوم افتتاح المؤتمر، عبر التلفزيون الرسمي العراقي عن متفجرتين: واحدة في نفق الشرطة وأخرى في منطقة الكرادة. ولم يذع أي تفاصيل عنهما، وصولا إلى الإعلان عن «المؤامرة» التي كان يخطط لها نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي وتم كشفها وبث التلفزيون اعترافات الشخص المكلف تنفيذها.

وثمة مخاوف أكثر من شبح التقسيم، والأرض مهيأة طائفيا ومناطقيا وعرقيا. وجاء إعلان منطقة ديالى رغبتها بإقامة إقليم مستقل ليضفي مزيدا من الخوف والقلق من تنامي الدعوات إلى إقامة أقاليم مستقلة، فتتحول بفعل فاعل إلى كيانات مستقلة أو دول هزيلة، وهذا ما دفع عمار الحكيم خلال اللقاء مع المؤتمرين إلى القول، ردا على سؤال لـ«السفير» حول هذا الموضوع، انه «طلب من الإخوة في مجلس محافظة اربيل التريث في إعلان الإقليم حتى نضوج فكرة الفيدرالية الإدارية لا السياسية، لأن فكرة إقامة إقليم مستقل الآن خطوة متسرعة وقد تأتي بغير نتائجها الإدارية والتنموية المطلوبة».

وتحدث الحكيم، في هذا المجال، عن ضرورة إقامة «الديموقراطية التوافقية» واعتماد سياسة «لا غالب ولا مغلوب» في إدارة العراق، على غرار التجربة اللبنانية «لأن قوة أي طرف عراقي هي بقوة شركائه». وأكد استحالة تقسيم العراق، لأن حجم المصالح بين العراقيين يشدهم بعضا إلى بعض، لكنه المح إلى أن العراق ليس بمعزل عما يجري ويخطط له في المنطقة ما يستلزم الحيطة والوعي، والسعي لمعالجة الأزمات القائمة في المنطقة العربية لتلافي انعكاسها على العراق.

وأكد أيضا وقوفه إلى جانب حق الشعب السوري في الإصلاح، لكنه أشار إلى انه مع الاستقرار في سوريا ومع وحدة سوريا أولا. وقال «نحن ننظر إلى الأجندة الخارجية من زاوية أن مصالحها تتناقض مع مصالح الشعب السوري وبالتالي مع مصالح العراق».

كثيرة هي التفاصيل العراقية المحزنة، لكن بالمقابل ثمة أملا بالمستقبل على قاعدة التفاهم ضمن التعددية، لذلك يرى العراقيون أن المهمة صعبة وشاقة لا على المالكي فقط بل على كل مسؤول سياسي، والمسيرة على ما يبدو طويلة، والمهم البدء بإزالة الجدار العازل الفاصل بين بغداد والعراق، مع بدء ورشة إعادة البناء، والبناء هنا يعني بناء كل شيء، الإنسان والحجر.

 

 

 

 

  • فريق ماسة
  • 2011-12-20
  • 9380
  • من الأرشيف

العراق ما بعد الاحتلال... أمل وقلق

  حزينة وكئيبة هي بغداد، كأنها تدخل التاريخ مجددا بعد أن صنعت التاريخ آلاف السنين. أفاقت قبل أيام على عاصمة خالية من الأميركيين الذين انسلوا في الليل تاركين عاصمة الرشيد لأقدارها، بعدما استنزفوا منها ومن كل بلاد الرافدين كل الخير ودمروا بلدا عظيما، وأورثوها نزاعات وخلافات وانقسامات تهدد العراق. وصارت أكثر أحياء بغداد تبيت على العتم باكرا، ولا تدري على ماذا ستصحو، بعدما كانت متلألئة ليل نهار منذ نيف وعشر سنوات. ترى الحزن والخوف على المصير في عيون كل البغداديين، لا كلام إلا الأمنيات، ملوا من الكلام عن الواقع، وباتوا ينتظرون مستقبل قيام الدولة، والدولة الجديدة مقسمة طوائف وأحزابا ومناطق وعرقيات، لكن الأمل باقٍ، على ما يقول بعض الشباب، بأن يكسر المستقبل حواجز الخوف، ويهدم جدران المنطقة الخضراء التي رفعها الأميركيون وتعزل كل العراق عن بعض أحياء بغداد. فرحت بغداد بقدوم وفود عربية صحافية من 19 دولة، للمشاركة في مؤتمر الأمانة العامة لاتحاد الصحافيين العرب الذي انعقد يومي 17 و18 الشهر الحالي في فندق «الرشيد»، بعد قطيعة للعراق استمرت ثلاثين عاما. فرحوا بعودة العرب إليهم وخطابهم الرسمي والشعبي أن العراق لطالما كان قلب العرب وحامل قضاياهم، وآن لهم أن يعودوا إليه، وهو ما عبر عنه صراحة رئيس الوزراء نوري المالكي في افتتاح المؤتمر، كما عبر عنه رئيس المجلس الإسلامي الأعلى السيد عمار الحكيم، الذي زار المؤتمرين مرحّباً ومثنيا على اختيار بغداد مقراً للمؤتمر. وأكد الرجلان على عروبة العراق ووحدة أرضه وأبنائه وارتباط مصالحه بمصالح أمته. كما أكدا إصرار العراق على استضافة القمة العربية الدورية المقررة في آذار من العام المقبل. ولاحظا تزامن انعقاد المؤتمر مع جلاء آخر جندي أميركي عن ارض العراق، ما يعني أن العراق يفتح قلبه وذراعيه لإخوانه العرب بديلا للأميركيين، فيما كان الوفد العراقي المكلف من المالكي في اليوم الثاني يزور دمشق في إطار المساعي التي أدت إلى موافقة سوريا على توقيع بروتوكول دخول المراقبين العرب إلى مناطقها. وقد فسر بعض العرب هذا الأمر بأنه «عودة للعراق إلى ممارسة دوره التصالحي والتوفيقي وعلى حساب قطر، وعودة إلى لحظات الفرح القليلة التي أعقبت تشكيل ميثاق العمل القومي المشترك بين سوريا والعراق في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، والذي لم يعمر طويلا». اعتذر أكثر من مرة، المالكي ونقيب الصحافة الجديد مؤيد اللامي كما كل العراقيين المشرفين على تنظيم المؤتمر وانتقال الوفود من الفندق في قلب المنطقة الخضراء إلى خارجها، بسبب طبيعة الإجراءات الأمنية المشددة فوق العادة التي اتخذت. وبرروها بالحرص على امن المشاركين، ولكن بغداد كلها الآن أشبه بثكنة عسكرية كبيرة، حيث حواجز الجيش والشرطة في كل شارع وعند كل مفرق وتقاطع طرق، يستوي في ذلك شارع أبو النواس بشارع المتنبي وشارع المنصور، وساحة الحرية بساحات بغداد كلها. أما الداخل إلى المنطقة الخضراء فعليه تحمل مشقة «العبور» من البوابات الكثيرة إلى ما يشبه المدينة المحرمة في الصين أيام الأباطرة، لكثرة حواجز التفتيش ضمن مربع لا تتجاوز مساحته عشرة كيلومترات مربعة. لا يخفي العراقيون فرحتهم بالانسحاب الأميركي، لكنهم قلقون من أكثر من أمر: الوضع الاقتصادي والمعيشي ومكافحة الفقر، استعادة الخدمات الأساسية بشكل كامل وإعادة بناء البنى التحتية، والإمساك بالأمن، فيما لا زالت السلطات الرسمية تعلن عن انفجار سيارات مفخخة، حيث تم الإعلان يوم افتتاح المؤتمر، عبر التلفزيون الرسمي العراقي عن متفجرتين: واحدة في نفق الشرطة وأخرى في منطقة الكرادة. ولم يذع أي تفاصيل عنهما، وصولا إلى الإعلان عن «المؤامرة» التي كان يخطط لها نائب الرئيس العراقي طارق الهاشمي وتم كشفها وبث التلفزيون اعترافات الشخص المكلف تنفيذها. وثمة مخاوف أكثر من شبح التقسيم، والأرض مهيأة طائفيا ومناطقيا وعرقيا. وجاء إعلان منطقة ديالى رغبتها بإقامة إقليم مستقل ليضفي مزيدا من الخوف والقلق من تنامي الدعوات إلى إقامة أقاليم مستقلة، فتتحول بفعل فاعل إلى كيانات مستقلة أو دول هزيلة، وهذا ما دفع عمار الحكيم خلال اللقاء مع المؤتمرين إلى القول، ردا على سؤال لـ«السفير» حول هذا الموضوع، انه «طلب من الإخوة في مجلس محافظة اربيل التريث في إعلان الإقليم حتى نضوج فكرة الفيدرالية الإدارية لا السياسية، لأن فكرة إقامة إقليم مستقل الآن خطوة متسرعة وقد تأتي بغير نتائجها الإدارية والتنموية المطلوبة». وتحدث الحكيم، في هذا المجال، عن ضرورة إقامة «الديموقراطية التوافقية» واعتماد سياسة «لا غالب ولا مغلوب» في إدارة العراق، على غرار التجربة اللبنانية «لأن قوة أي طرف عراقي هي بقوة شركائه». وأكد استحالة تقسيم العراق، لأن حجم المصالح بين العراقيين يشدهم بعضا إلى بعض، لكنه المح إلى أن العراق ليس بمعزل عما يجري ويخطط له في المنطقة ما يستلزم الحيطة والوعي، والسعي لمعالجة الأزمات القائمة في المنطقة العربية لتلافي انعكاسها على العراق. وأكد أيضا وقوفه إلى جانب حق الشعب السوري في الإصلاح، لكنه أشار إلى انه مع الاستقرار في سوريا ومع وحدة سوريا أولا. وقال «نحن ننظر إلى الأجندة الخارجية من زاوية أن مصالحها تتناقض مع مصالح الشعب السوري وبالتالي مع مصالح العراق». كثيرة هي التفاصيل العراقية المحزنة، لكن بالمقابل ثمة أملا بالمستقبل على قاعدة التفاهم ضمن التعددية، لذلك يرى العراقيون أن المهمة صعبة وشاقة لا على المالكي فقط بل على كل مسؤول سياسي، والمسيرة على ما يبدو طويلة، والمهم البدء بإزالة الجدار العازل الفاصل بين بغداد والعراق، مع بدء ورشة إعادة البناء، والبناء هنا يعني بناء كل شيء، الإنسان والحجر.        

المصدر : السفير /غاصب المختار


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة