أثارت حوادث العنف الطائفي التي شهدتها شوارع القاهرة في الفترة الأخيرة والتي أدت الى مقتل 23 قبطياً وجرح المئات على أيدي الجيش المصري ومسلحين تابعين له مخاوف عميقة وسط الطائفة القبطية في مصر على مستقبل وجودهم في ظل التغيرات السياسية العميقة التي حملتها ثورة 25 يناير للحياة السياسية في مصر.

طرحت هذه الحوادث الدموية تساؤلات كبيرة بشأن المستقبل السياسي والانتقال السلمي الى الديموقراطية بعد الاطاحة بنظام الرئيس حسني مبارك، في ظل ضعف السلطة المركزية المتمثلة بالمجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة المصرية وعجزه عن مواجهة النفوذ المتزايد للتنظيمات الإسلامية المتشددة لا سيما السلفية منها.  وأكدت الحوادث الأخيرة صحة الشكوك التي تراود مسيحيي مصر الأقباط على مستقبلهم في هذا البلد خاصة في حال فشل مشروع الثورة في بناء الدولة العصرية العلمانية، واحتمال أن تتحول مصر جمهورية إسلامية سلفية يكون فيها الأقباط وسائر العلمانيين واليساريين والقوميين الخاسر الأكبر.

الأقباط من أهل ذمة الى مواطنين في الدولة المصرية الحديثة

 يشكل الأقباط في مصر مكوناً أساسياً وأصيلاً في نسيج المجتمع المصري وتتفاوت أرقام أعدادهم اليوم باختلاف الجهات، فبالاستناد الى السلطات الرسمية المصرية فإن عدد الأقباط هو سبعة الى ثمانية ملايين، أما أرقام الكنيسة فتقول أن العدد يراوح ما بين 10 الى 14 مليوناً.

ومن أبرز الأدلة على رسوخ الوجود القبطي في مصر أن لفظة Egypt مأخوذة عن اليونانية ومشتقة من "قبطي" ومعناها "المصري". وفي كتب التراث فإن التسمية مرادفة لمسيحيي مصر وللمصريين القدماء [للمزيد من المعلومات عن تاريخ الأقباط يمكن مراجعة المقال المهم الذي كتبه الزميل محمود الزيباوي بعنوان "فصول من حياة الأقباط" ونشره "ملحق النهار" بتاريخ 19/1/2011].

 قبل الفتح الإسلامي، كانت غالبية سكان مصر من الأقباط، ومعه  دخلت أعداد كبيرة منهم في الدين الاسلامي. وخلال الحكم الإسلامي مر الأقباط  في فترات من الاستقرار وأخرى من الاضطهاد والقمع الوحشي وفقاً للسياسة التي كان يتبعها الحاكم سواء أكان أموياً أم عباسياً أم فاطمياً. ولم يعرف الأقباط الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي إلا مع مجيء محمد علي وخلال بنائه للدولة المصرية الحديثة ومع الاصلاحات السياسية التي قام بها. لكن التغيير الحقيقي في وضع الأقباط حصل أيام الخديويين سعيد واسماعيل فقد ألغى سعيد نظام الجزية التي فرضها الحكم الاسلامي على الأقباط وسمح بتجنيدهم في الجيش المصري، وازدادت أعدادهم في الإدارات الرسمية وجرى سن قانون انشاء أول مجلس نواب لا يقوم على التفرقة الدينية، كما جرى تعيين قضاة أقباط في المحاكم ومنح لقب باشا لأول قبطي في تلك  الفترة. وبرز دور الأقباط في الحياة العامة مما دشن مرحلة جديدة من العلاقة بالمسلمين، وجعلت الأقباط يشعرون بأنهم مواطنون في الدولة المصرية وليسوا أهل ذمة.

وتورد غادة طنطاوي في دراسة لها بعنوان "جذور المسألة القبطية" أن دور الأقباط تراجع خلال سني الانتداب البريطاني بسبب تخوف البريطانيين من اثارة نقمة المسلمين عليهم، كما أن الأٌقباط أنفسهم أظهروا حذراً في تعاملهم مع الانتداب البريطاني. وبحسب احصاءات النصف الأول من القرن العشرين مثل الأقباط نحو 7% من المصريين وكانوا يسيطرون على 20 % من الثروات و45% من الوظائف الحكومية و40% من الرواتب.

شارك الأٌقباط مشاركة فاعلة في ثورة 1919، لكن ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي شهدت عودة النزاع الطائفي بينهم وبين المسلمين. وعلى الرغم من السياسة الناصرية المناوئة لحركة الإخوان المسلمين فقد تراجعت مشاركة الأقباط في الحياة السياسية، وفي تولي الوظائف القيادية والتمثيل البرلماني وفي وزارت الدولة نتيجة ممارسات النظام الناصري  والذي فرض قيوداً على بناء الكنائس والأديار.

وخلال حكم أنور السادات شهدت العلاقات بين المسلمين والأقباط مرحلة جديدة من التدهور، نتيجة استغلال السادات لنفوذ التنظيمات الإسلامية من أجل محاربة التيارين الناصري واليساري. وكانت الخطوة الأهم تعديله المادة الثانية من الدستور المصري العائد للعام 1971 وجعله "الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". الأمر الذي فاقم في مخاوف الأقباط من ضياع حقوقهم وزاد الاحتكاكات الطائفية. وكان السادات أصدر أمراً بنفي الأنبا شنودة الثالث نتيجة مواقفه المناوئة للسلطة وللعلاقة مع اسرائيل، مما جعله ينجو من القتل أثناء عملية الاغتيال التي تعرض لها السادات على يد التظيمات الأصولية الإسلامية اثناء حضوره العرض العسكري الذي كان على شنودة حضوره لو لم يكن منفياً.

 في عهد حسني مبارك استمر مسلسل الفتنة الطائفية بتدبير من السلطة المصرية التي لعبت دوراً مزدوجاً فكانت من جهة تمارس سياسات التمييز والإقصاء والتحريض غير المباشر من خلال تجاهل الحملات السلفية ضد الأقباط؛ وكانت من جهة أخرى تحاول أن تظهر نفسها المدافع عن هذه الطائفة لدى تعرضها للهجوم على أيدي إسلاميين متطرفين.

 

مظاهر سياسة التمييز ضد الأقباط في مصر اليوم

ثمة شعور لدى الأقباط اليوم أنهم مواطنون من الدرجة الثانية على الرغم من أنهم يشكلون مكوناً  أساسياً وأصيلاً في المجتمع المصري وذلك نتيجة عاملين أساسيين: سياسة التمييز الطائفي والاقصاء التي مارستها السلطات المصرية على مدى عقود طويلة؛ وتنامي ظاهرة أسلمة المجتمع المصري التي أدت إلى تفاقم التوتر بين المسلمين والمسيحيين.

وتظهر سياسة التمييز الرسمية ضد الأقباط في مصر على المستوى القانوني- الحقوقي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني في آن واحد.

 على المستوى القانوني يعتبر الأقباط تغيير المادة الثانية من الدستور المصري وجعل الإسلام دين الدولة الرسمي انتهاكاً لحقوقهم لا سيما جعل الشريعة مصدر القوانين، لأن ذلك ينتهك عدداً من حقوقهم ويعمل على تهميشهم. ويعاني هؤلاء من سيطرة المسلمين على نظام القضاء لاسيما بعد اقدام النظام العام 1955  على الغاء المحاكم الدينية واستبدالها بمحاكم مدنية. لكن القضاة في هذه المحاكم هم في أغلب الأحيان من المسلمين غير الملمين بالديانة المسيحية ويطبقون على أصحاب القضايا من المسيحيين الاجتهادات القرآنية التي هي اجمالاً غير منصفة للمرأة بصورة خاصة في موضوع الإرث.

على صعيد التمثيل السياسي يبدو واضحاً ضعف التمثيل السياسي للأقباط في مجلس الشعب المصري، إذ يوجد حالياً ثلاثة نواب أقباط ينتخبون في مجلس الشعب من أصل 508 نواب، أما النواب الأقباط الآخرين (خمسة تقريباً) فقد عيّنهم الرئيس حسني مبارك. وترى السياسية البارزة القبطية منى مكرم عبيد ابنة مكرم عبيد أن الأقباط لا يعانون الاضطهاد السياسي فقط وإنما التمييز وضعف تمثيلهم في المؤسسات الرسمية وفي الوظائف العامة للدولة. فحصة الأقباط في الوظائف آخذة في التراجع بعد امتناع الجيش المصري نهائياً عن استقبالهم. كما من الصعب تبوء الأقباط مراكز قيادية حساسة في الدولة، وربما من آخر الشخصيات المصرية القبطية كان بطرس غالي الذي لعب دوراً كبيراً في الحياة السياسية لكنه لم يتخط منصب وزير دولة. ولم يحقق بطرس غالي انجازاته السياسية الا خارج مصر لدى تعيينه العام 1992 أميناً عاماً للأمم المتحدة.

ومن الأمثلة الأخرى على التمييز في التوظيف أنه منذ العام 1940 لا يحق للقبطي تعليم اللغة العربية لأنها تتطلب معرفة بالقرآن حتى في المدن ذات الأكثرية القبطية عدداً. الأمر الذي دفع منظمة العمل الدولية الى الاحتجاج على سياسة التمييز في العمل في تقريرها لعام 2007.

لكن سياسة  التمييز ضد الأٌقباط الأكثر حدة تبرز على صعيد بناء أماكن العبادة وهي تشكل السبب الأساسي للمواجهات الدموية الطائفية. إذ يحظر القانون المصري بناء أي كنيسة قبل الحصول على موافقة السلطات. وتضع السلطات المصرية مجموعة من العقبات للحصول على ترخيص لتصبح شبه مستحيلة، الأمر الذي يدفع القيمين على الكنيسة الى البدء بأعمال البناء قبل الحصول على الترخيص مما يؤدي الى انفجار الخلافات التي تتحول مواجهات دموية مع المسلمين بحجة عدم قانونية الكنيسة. ناهيك بأن أي مشروع بناء كنيسة يواجه  بمشروع بناء مسجد في جواره او قبالته. وخلال أيام الرئيس حسني مبارك جرى قفل أكثر من 58 كنيسة، وحتى الآن لم يستطع الجيش اعادة فتح سوى ثلاث منها وذلك نتيجة ضغط التنظيمات الإسلامية. كما أن ترميم الكنائس يواجه المصاعب عينها، كل ذلك يجعل الأقباط يشعرون أنهم محاصرون داخل أماكن عباداتهم القليلة.

 

أسلمة المجتمع المصري

الأكيد أن الضائقة التي يعانيها الأقباط في مصر هي أيضاً نتيجة أسلمة المجتمع المصري وصعود نفوذ التنظيمات الأصولية السلفية التي كان النظام السابق يحاول شراء دعمها بغض النظر عن مواقفها المعادية للأقباط. يقول عدد من الأقباط أنهم باتوا يشعرون بأنهم غرباء وسط المجتمع المصري السائر في موجة الأسلمة إذ بات يحظر على القبطي الأكل او الشرب أيام رمضان كي لا يتعرض للمضايقة، وفي بعض الأحيان تضطر الفتيات القبطيات الى ارتداء الحجاب واخفاء الصلبان  لمنع  المضايقات اللواتي يتعرضن لها في الأماكن العامة.

ومن بين المسائل التي تشكل سبباً لاشتعال نيران المواجهات بين المسلمين والأقباط في مصر تغيير الديانة أو تحول فتاة قبطية الى الإسلام أو العكس الأمر الذي يؤدي غالباً الى مطالبة عائلتها باستردادها من الطائفة الأخرى ويخلق الاحتكاكات والتوترات، ومن أبرز القضايا التي أثارت الكثير من الاشكالات قضية وفاء قسطنطين زوجة كاهن في محافظة البحيرة التي أشهرت اسلامها، وقضية كاميليا شحاته زوجة كاهن دير مواس التي شغلت قضيتها الرأي العام المصري لا سيما بعد ادعاء الأزهر أن شحاتة خطفت من قوى الأمن بطلب من الكنيسة القبطية قبل دخولها المركز لإشهار اسلامها.

 

تأثير الربيع العربي في اشتداد وعي الأقباط بحقوقهم

تأخرت الكنيسة القبطية في مصر في اعلان دعمها لثورة 25 يناير، فبعد موقف البابا شنودة الثالث في 27 كانون الأول المؤيد للرئيس حسني مبارك ودعوته المسيحيين الى عدم المشاركة في التظاهرات، أصدرت الكنيسة القبطية بياناً في 15 شباط تحيي فيه شباب 25 يناير و"ثورتهم البيضاء". لكن على ما يبدو لم ينتظر الأقباط تغير موقف كنيستهم اذ شاركوا في تظاهرات ميدان التحرير منذ أيامها الأولى.

أيقظت الثورة المصرية آمال الأقباط بتحقيق العدالة لقضيتهم وشجعتهم أيضاً على كسر حاجز الخوف والخنوع والضعف والجهر بمطالبتهم بالعدالة والمساواة في الحقوق وحرية ممارسة الشعائر الدينية من دون تضييق أو إكراه. وتشير الخبيرة في الشؤون المصرية صوفيا بومييه في مقابلة أجرتها معها مجلة "أكسبرس" الى أن الربيع العربي غيّر موقف الطائفة المسيحية ودفعها الى أن تكون أكثر مواجهة ومطالبة بحقوقها، شعوراً منها بأن اللحظة التاريخية حانت لتصحيح الغبن اللاحق بها عبر قيام دولة مصرية عصرية علمانية لجميع مواطنيها.

لكن الصعود الكبير في نفوذ التيارات الإسلامية لا سيما السلفية منها التي تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية وتقف مواقف متشددة من المسيحيين اجمالاً وبروز أكثر من حزب سياسي يمثلها في الأشهر الأخيرة واحتمال أن يؤدي تحالفها مع حركة الإخوان المسلمين، الأخصام التقليديين والحلفاء اليوم، والصدامات الطائفية التي اندلعت بعد الثورة، زادت من مخاوف الأقباط على مستقبلهم في مصر التي قد تتحوّل دولة إسلامية سلفية.

 في مواجهة هذا الواقع الجديد يبرز تياران وسط الأقباط في مصر: واحد يتمسك بمبادىء الثورة ويدعو الى الوحدة مع سائر أطياف المجتمع المصري من أجل تحقيق الدولة العلمانية الحديثة، وآخر متطرف يرى أن وجود الأقباط في خطر ويدعو الى مطالبة المجتمع الدولي بحماية المسيحيين في مصر وسائر دول المشرق.

ما الحل؟ يقول أستاذ العلوم السياسية رودولف القارح في مقال له في "الموند ديبلوماتيك " عن مستقبل مسييحي الشرق أن الحل هو في قدرة الثورات العربية على ايجاد"عقد اجتماعي دستوري جديد يعطي الأولوية للمواطنة من دون تجاهل الهويات والانتماءات الخاصة".

يبقى ألا يدفع الأقباط بعد أعوام طويلة من سياسة العزل والاقصاء والتهميش والتمييز ثمناً جديداً للصراع على الهوية السياسية للدولة المصرية الجديدة ما بعد الثورة

  • فريق ماسة
  • 2011-10-15
  • 11575
  • من الأرشيف

أقباط أهل مصر الأصليين يعاملون كالغرباء ويحظّر عليهم دخول الجيش

  أثارت حوادث العنف الطائفي التي شهدتها شوارع القاهرة في الفترة الأخيرة والتي أدت الى مقتل 23 قبطياً وجرح المئات على أيدي الجيش المصري ومسلحين تابعين له مخاوف عميقة وسط الطائفة القبطية في مصر على مستقبل وجودهم في ظل التغيرات السياسية العميقة التي حملتها ثورة 25 يناير للحياة السياسية في مصر. طرحت هذه الحوادث الدموية تساؤلات كبيرة بشأن المستقبل السياسي والانتقال السلمي الى الديموقراطية بعد الاطاحة بنظام الرئيس حسني مبارك، في ظل ضعف السلطة المركزية المتمثلة بالمجلس العسكري الأعلى للقوات المسلحة المصرية وعجزه عن مواجهة النفوذ المتزايد للتنظيمات الإسلامية المتشددة لا سيما السلفية منها.  وأكدت الحوادث الأخيرة صحة الشكوك التي تراود مسيحيي مصر الأقباط على مستقبلهم في هذا البلد خاصة في حال فشل مشروع الثورة في بناء الدولة العصرية العلمانية، واحتمال أن تتحول مصر جمهورية إسلامية سلفية يكون فيها الأقباط وسائر العلمانيين واليساريين والقوميين الخاسر الأكبر. الأقباط من أهل ذمة الى مواطنين في الدولة المصرية الحديثة  يشكل الأقباط في مصر مكوناً أساسياً وأصيلاً في نسيج المجتمع المصري وتتفاوت أرقام أعدادهم اليوم باختلاف الجهات، فبالاستناد الى السلطات الرسمية المصرية فإن عدد الأقباط هو سبعة الى ثمانية ملايين، أما أرقام الكنيسة فتقول أن العدد يراوح ما بين 10 الى 14 مليوناً. ومن أبرز الأدلة على رسوخ الوجود القبطي في مصر أن لفظة Egypt مأخوذة عن اليونانية ومشتقة من "قبطي" ومعناها "المصري". وفي كتب التراث فإن التسمية مرادفة لمسيحيي مصر وللمصريين القدماء [للمزيد من المعلومات عن تاريخ الأقباط يمكن مراجعة المقال المهم الذي كتبه الزميل محمود الزيباوي بعنوان "فصول من حياة الأقباط" ونشره "ملحق النهار" بتاريخ 19/1/2011].  قبل الفتح الإسلامي، كانت غالبية سكان مصر من الأقباط، ومعه  دخلت أعداد كبيرة منهم في الدين الاسلامي. وخلال الحكم الإسلامي مر الأقباط  في فترات من الاستقرار وأخرى من الاضطهاد والقمع الوحشي وفقاً للسياسة التي كان يتبعها الحاكم سواء أكان أموياً أم عباسياً أم فاطمياً. ولم يعرف الأقباط الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي إلا مع مجيء محمد علي وخلال بنائه للدولة المصرية الحديثة ومع الاصلاحات السياسية التي قام بها. لكن التغيير الحقيقي في وضع الأقباط حصل أيام الخديويين سعيد واسماعيل فقد ألغى سعيد نظام الجزية التي فرضها الحكم الاسلامي على الأقباط وسمح بتجنيدهم في الجيش المصري، وازدادت أعدادهم في الإدارات الرسمية وجرى سن قانون انشاء أول مجلس نواب لا يقوم على التفرقة الدينية، كما جرى تعيين قضاة أقباط في المحاكم ومنح لقب باشا لأول قبطي في تلك  الفترة. وبرز دور الأقباط في الحياة العامة مما دشن مرحلة جديدة من العلاقة بالمسلمين، وجعلت الأقباط يشعرون بأنهم مواطنون في الدولة المصرية وليسوا أهل ذمة. وتورد غادة طنطاوي في دراسة لها بعنوان "جذور المسألة القبطية" أن دور الأقباط تراجع خلال سني الانتداب البريطاني بسبب تخوف البريطانيين من اثارة نقمة المسلمين عليهم، كما أن الأٌقباط أنفسهم أظهروا حذراً في تعاملهم مع الانتداب البريطاني. وبحسب احصاءات النصف الأول من القرن العشرين مثل الأقباط نحو 7% من المصريين وكانوا يسيطرون على 20 % من الثروات و45% من الوظائف الحكومية و40% من الرواتب. شارك الأٌقباط مشاركة فاعلة في ثورة 1919، لكن ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي شهدت عودة النزاع الطائفي بينهم وبين المسلمين. وعلى الرغم من السياسة الناصرية المناوئة لحركة الإخوان المسلمين فقد تراجعت مشاركة الأقباط في الحياة السياسية، وفي تولي الوظائف القيادية والتمثيل البرلماني وفي وزارت الدولة نتيجة ممارسات النظام الناصري  والذي فرض قيوداً على بناء الكنائس والأديار. وخلال حكم أنور السادات شهدت العلاقات بين المسلمين والأقباط مرحلة جديدة من التدهور، نتيجة استغلال السادات لنفوذ التنظيمات الإسلامية من أجل محاربة التيارين الناصري واليساري. وكانت الخطوة الأهم تعديله المادة الثانية من الدستور المصري العائد للعام 1971 وجعله "الإسلام دين الدولة والشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع". الأمر الذي فاقم في مخاوف الأقباط من ضياع حقوقهم وزاد الاحتكاكات الطائفية. وكان السادات أصدر أمراً بنفي الأنبا شنودة الثالث نتيجة مواقفه المناوئة للسلطة وللعلاقة مع اسرائيل، مما جعله ينجو من القتل أثناء عملية الاغتيال التي تعرض لها السادات على يد التظيمات الأصولية الإسلامية اثناء حضوره العرض العسكري الذي كان على شنودة حضوره لو لم يكن منفياً.  في عهد حسني مبارك استمر مسلسل الفتنة الطائفية بتدبير من السلطة المصرية التي لعبت دوراً مزدوجاً فكانت من جهة تمارس سياسات التمييز والإقصاء والتحريض غير المباشر من خلال تجاهل الحملات السلفية ضد الأقباط؛ وكانت من جهة أخرى تحاول أن تظهر نفسها المدافع عن هذه الطائفة لدى تعرضها للهجوم على أيدي إسلاميين متطرفين.   مظاهر سياسة التمييز ضد الأقباط في مصر اليوم ثمة شعور لدى الأقباط اليوم أنهم مواطنون من الدرجة الثانية على الرغم من أنهم يشكلون مكوناً  أساسياً وأصيلاً في المجتمع المصري وذلك نتيجة عاملين أساسيين: سياسة التمييز الطائفي والاقصاء التي مارستها السلطات المصرية على مدى عقود طويلة؛ وتنامي ظاهرة أسلمة المجتمع المصري التي أدت إلى تفاقم التوتر بين المسلمين والمسيحيين. وتظهر سياسة التمييز الرسمية ضد الأقباط في مصر على المستوى القانوني- الحقوقي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والديني في آن واحد.  على المستوى القانوني يعتبر الأقباط تغيير المادة الثانية من الدستور المصري وجعل الإسلام دين الدولة الرسمي انتهاكاً لحقوقهم لا سيما جعل الشريعة مصدر القوانين، لأن ذلك ينتهك عدداً من حقوقهم ويعمل على تهميشهم. ويعاني هؤلاء من سيطرة المسلمين على نظام القضاء لاسيما بعد اقدام النظام العام 1955  على الغاء المحاكم الدينية واستبدالها بمحاكم مدنية. لكن القضاة في هذه المحاكم هم في أغلب الأحيان من المسلمين غير الملمين بالديانة المسيحية ويطبقون على أصحاب القضايا من المسيحيين الاجتهادات القرآنية التي هي اجمالاً غير منصفة للمرأة بصورة خاصة في موضوع الإرث. على صعيد التمثيل السياسي يبدو واضحاً ضعف التمثيل السياسي للأقباط في مجلس الشعب المصري، إذ يوجد حالياً ثلاثة نواب أقباط ينتخبون في مجلس الشعب من أصل 508 نواب، أما النواب الأقباط الآخرين (خمسة تقريباً) فقد عيّنهم الرئيس حسني مبارك. وترى السياسية البارزة القبطية منى مكرم عبيد ابنة مكرم عبيد أن الأقباط لا يعانون الاضطهاد السياسي فقط وإنما التمييز وضعف تمثيلهم في المؤسسات الرسمية وفي الوظائف العامة للدولة. فحصة الأقباط في الوظائف آخذة في التراجع بعد امتناع الجيش المصري نهائياً عن استقبالهم. كما من الصعب تبوء الأقباط مراكز قيادية حساسة في الدولة، وربما من آخر الشخصيات المصرية القبطية كان بطرس غالي الذي لعب دوراً كبيراً في الحياة السياسية لكنه لم يتخط منصب وزير دولة. ولم يحقق بطرس غالي انجازاته السياسية الا خارج مصر لدى تعيينه العام 1992 أميناً عاماً للأمم المتحدة. ومن الأمثلة الأخرى على التمييز في التوظيف أنه منذ العام 1940 لا يحق للقبطي تعليم اللغة العربية لأنها تتطلب معرفة بالقرآن حتى في المدن ذات الأكثرية القبطية عدداً. الأمر الذي دفع منظمة العمل الدولية الى الاحتجاج على سياسة التمييز في العمل في تقريرها لعام 2007. لكن سياسة  التمييز ضد الأٌقباط الأكثر حدة تبرز على صعيد بناء أماكن العبادة وهي تشكل السبب الأساسي للمواجهات الدموية الطائفية. إذ يحظر القانون المصري بناء أي كنيسة قبل الحصول على موافقة السلطات. وتضع السلطات المصرية مجموعة من العقبات للحصول على ترخيص لتصبح شبه مستحيلة، الأمر الذي يدفع القيمين على الكنيسة الى البدء بأعمال البناء قبل الحصول على الترخيص مما يؤدي الى انفجار الخلافات التي تتحول مواجهات دموية مع المسلمين بحجة عدم قانونية الكنيسة. ناهيك بأن أي مشروع بناء كنيسة يواجه  بمشروع بناء مسجد في جواره او قبالته. وخلال أيام الرئيس حسني مبارك جرى قفل أكثر من 58 كنيسة، وحتى الآن لم يستطع الجيش اعادة فتح سوى ثلاث منها وذلك نتيجة ضغط التنظيمات الإسلامية. كما أن ترميم الكنائس يواجه المصاعب عينها، كل ذلك يجعل الأقباط يشعرون أنهم محاصرون داخل أماكن عباداتهم القليلة.   أسلمة المجتمع المصري الأكيد أن الضائقة التي يعانيها الأقباط في مصر هي أيضاً نتيجة أسلمة المجتمع المصري وصعود نفوذ التنظيمات الأصولية السلفية التي كان النظام السابق يحاول شراء دعمها بغض النظر عن مواقفها المعادية للأقباط. يقول عدد من الأقباط أنهم باتوا يشعرون بأنهم غرباء وسط المجتمع المصري السائر في موجة الأسلمة إذ بات يحظر على القبطي الأكل او الشرب أيام رمضان كي لا يتعرض للمضايقة، وفي بعض الأحيان تضطر الفتيات القبطيات الى ارتداء الحجاب واخفاء الصلبان  لمنع  المضايقات اللواتي يتعرضن لها في الأماكن العامة. ومن بين المسائل التي تشكل سبباً لاشتعال نيران المواجهات بين المسلمين والأقباط في مصر تغيير الديانة أو تحول فتاة قبطية الى الإسلام أو العكس الأمر الذي يؤدي غالباً الى مطالبة عائلتها باستردادها من الطائفة الأخرى ويخلق الاحتكاكات والتوترات، ومن أبرز القضايا التي أثارت الكثير من الاشكالات قضية وفاء قسطنطين زوجة كاهن في محافظة البحيرة التي أشهرت اسلامها، وقضية كاميليا شحاته زوجة كاهن دير مواس التي شغلت قضيتها الرأي العام المصري لا سيما بعد ادعاء الأزهر أن شحاتة خطفت من قوى الأمن بطلب من الكنيسة القبطية قبل دخولها المركز لإشهار اسلامها.   تأثير الربيع العربي في اشتداد وعي الأقباط بحقوقهم تأخرت الكنيسة القبطية في مصر في اعلان دعمها لثورة 25 يناير، فبعد موقف البابا شنودة الثالث في 27 كانون الأول المؤيد للرئيس حسني مبارك ودعوته المسيحيين الى عدم المشاركة في التظاهرات، أصدرت الكنيسة القبطية بياناً في 15 شباط تحيي فيه شباب 25 يناير و"ثورتهم البيضاء". لكن على ما يبدو لم ينتظر الأقباط تغير موقف كنيستهم اذ شاركوا في تظاهرات ميدان التحرير منذ أيامها الأولى. أيقظت الثورة المصرية آمال الأقباط بتحقيق العدالة لقضيتهم وشجعتهم أيضاً على كسر حاجز الخوف والخنوع والضعف والجهر بمطالبتهم بالعدالة والمساواة في الحقوق وحرية ممارسة الشعائر الدينية من دون تضييق أو إكراه. وتشير الخبيرة في الشؤون المصرية صوفيا بومييه في مقابلة أجرتها معها مجلة "أكسبرس" الى أن الربيع العربي غيّر موقف الطائفة المسيحية ودفعها الى أن تكون أكثر مواجهة ومطالبة بحقوقها، شعوراً منها بأن اللحظة التاريخية حانت لتصحيح الغبن اللاحق بها عبر قيام دولة مصرية عصرية علمانية لجميع مواطنيها. لكن الصعود الكبير في نفوذ التيارات الإسلامية لا سيما السلفية منها التي تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية وتقف مواقف متشددة من المسيحيين اجمالاً وبروز أكثر من حزب سياسي يمثلها في الأشهر الأخيرة واحتمال أن يؤدي تحالفها مع حركة الإخوان المسلمين، الأخصام التقليديين والحلفاء اليوم، والصدامات الطائفية التي اندلعت بعد الثورة، زادت من مخاوف الأقباط على مستقبلهم في مصر التي قد تتحوّل دولة إسلامية سلفية.  في مواجهة هذا الواقع الجديد يبرز تياران وسط الأقباط في مصر: واحد يتمسك بمبادىء الثورة ويدعو الى الوحدة مع سائر أطياف المجتمع المصري من أجل تحقيق الدولة العلمانية الحديثة، وآخر متطرف يرى أن وجود الأقباط في خطر ويدعو الى مطالبة المجتمع الدولي بحماية المسيحيين في مصر وسائر دول المشرق. ما الحل؟ يقول أستاذ العلوم السياسية رودولف القارح في مقال له في "الموند ديبلوماتيك " عن مستقبل مسييحي الشرق أن الحل هو في قدرة الثورات العربية على ايجاد"عقد اجتماعي دستوري جديد يعطي الأولوية للمواطنة من دون تجاهل الهويات والانتماءات الخاصة". يبقى ألا يدفع الأقباط بعد أعوام طويلة من سياسة العزل والاقصاء والتهميش والتمييز ثمناً جديداً للصراع على الهوية السياسية للدولة المصرية الجديدة ما بعد الثورة

المصدر : الماسة السورية


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة