أثارت استقالة المدير العام لقناة «الجزيرة» وضاح خنفر جدلا صاخبا يتلاءم مع دور الرجل في رسم سياسات أهم قناة عربية على الإطلاق، والذي صنفته مجلة «تايم» الأميركية في نيسان العام 2004 من بين أكثر 100 شخص تأثيراً في العالم.

التفسير الأكثر شيوعاً لانسحاب خنفر (43 عاما) الفلسطيني، من المشهد فسر كنتيجة لانتشار برقية بثها موقع «ويكيليكس» والتي تعود للعام 2010 تحدث فيها دبلوماسيون أميركيون عن تعاونه معهم بشأن الأخبار التي تبثها القناة. واحتلت أيضا التكهنات المستعارة من معركة «حرب الايديولوجيات» داخل «الجزيرة» بين التيار «الاخواني» أو الإسلامي المحافظ، الأقرب إلى خنفر، مقابل الليبراليين المناهضين «لديماغوجية» القومية العربية، والأكثر انفتاحاً ومرونة تجاه واشنطن وإسرائيل.

لكن يظل التساؤل المتكرر حول معنى استقالة خنفر بسياسته، هو الأكثر إلحاحاً لدى المتابعين لهذا التطور سواء أيدوا هذا التفسير أو ذاك عن سبب رحيله. وهو سؤال في محله ويقترب أكثر من حقيقة الوضع داخل قناة «الجزيرة» وسياسة الدوحة. اذ حسب مصادر مطلعة وعليمة في الدوحة، فإن السبب الحقيقي لاستقالة خنفر هو تحول تشهده السياسة القطرية بسبب مرض الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني لدرجة لا تسمح له الاستمرار كثيرا في الحكم، واستعداده لتسليم السلطة لنجله ولي العهد تميم خلال عامين.

وحسب تلك المصادر التي تحدثت لـ«السفير» فإن أمير قطر وصف هذا التحول بقوله لاحد ضيوفه إن «لكل مرحلة رجالها»، أي ان سياسة قطر، التي جمعت تناقضات استضافة قاعدة عسكرية أميركية كبيرة، وتتمتع بعلاقات جيدة مع واشنطن وتل أبيب، في الوقت ذاته الذي تبدو قريبة من فصائل المقاومة الفلسطينية و«حزب الله»، لن تستمر في هذه المرحلة.

المؤشرات الآتية من الدوحة، توحي بأن الإمارة الآن تقترب أكثر من الموقف الخليجي بحساسيته تجاه الثورات العربية، واحتجاجات الشيعة في البحرين، وأكثر اتساقاً في علاقتها بواشنطن.

وضاح خنفر الذي فهم جيداً تناقضات السياسة القطرية بتعقيداتها وخصوصية عقلية أميرها (يتحدث عن ميوله الناصرية)، وسار فوق حبالها المعقدة، لم يعد أفضل من يقود سياسة المرحلة الجديدة.

الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني، 31 عاماً، خريج أكاديمية ساندهيرست الملكية ببريطانيا، ظهر في المشهد العربي الجديد بالفعل. وزار القاهرة في 30 حزيران الماضي والتقى القائد العام للقوات المسلحة المشير محمد حسين طنطاوي.

وتفيد المصادر بأن ولي العهد أقرب في رؤيته السياسية إلى والدته الشيخة موزة بنت ناصر آل مسند، التي ينسب إليها فكرة قناة «الجزيرة» الانكليزية التي يديرها طاقم غربي، ويشيد بها الإعلام الأميركي. ويتردد الآن أن الشيخ تميم سيأتي بطاقمه المعبر عنه أكثر، ليس فقط في قناة «الجزيرة»، التي اختير مديراً جديداً لها الشيخ أحمد بن جاسم بن محمد آل ثاني النافذ في شركة قطر للبترول، لكن أيضا في رسم سياسة قطر الخارجية، ما يجعل احتمال الصدام بنفوذ رئيس الوزراء الشيخ حمد بن جبر آل ثاني، وارداً.

كثيرون يتابعون تغطية «الجزيرة» منذ استقالة خنفر، لكن بوادر تحولات القناة سبقت تاريخ استقالته بالفعل. لوحظ، مثلاً، أن «الجزيرة» التي احتفت سابقاً برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عندما ترك منصة منتدى «دافوس» في كانون الثاني العام 2009 احتجاجاً على تصريحات الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز حول حرب غزة، بثت خبراً أكثر أهمية، وهو إعلان أنقرة طرد السفير الإسرائيلي في 2 أيلول، في نشرتها على أنه خبر ثانوي، حيث جاء في المرتبة الرابعة في ترتيب عناوين الأخبار واحتل مساحة قصيرة جداً بشكل لافت.

وفي يوم إعلان استقالة خنفر، ألغى مركز «الجزيرة» للدراسات ندوة كانت معدة سلفاً تحت عنوان «الإسلاميون والثورات العربية» وكان مقررا عقدها في الدوحة في الأول من تشرين الأول المقبل. وليس واضحاً بعد وتيرة السرعة التي ستطبق فيها سياسة «الجزيرة» في المرحلة المقبلة، وإذا كانت، مثلاً، ستعيد النظر في آثار عهد خنفر، ومنها مثلاً قناة «الجزيرة مباشر ـ مصر»، التي أطلقت بسرعة في زخم الثورة المصرية واحتفالاً بها، ويديرها طاقم مصري محسوب على التيار الإسلامي. وتتعرض منذ أسبوعين إلى تعنت السلطات المصرية التي أوقفت بثها المباشر بحجة عدم حصولها على رخصة لهذا الغرض (وامتناعها عن إغلاق قنوات مصرية لا تملك ترخيص البث المباشر) في أعقاب تغطيتها المستمرة لأحداث السفارة الإسرائيلية في القاهرة في 9 أيلول، واقتحام المتظاهرين لها.

مصير «الجزيرة مباشر ـ مصر» التي تبث أغاني الشيخ إمام الثورية ـ أحد رموز معارضة عهد أنور السادات ـ احتفالاً بالثورة المصرية، تعتبر، حتى إشعار آخر، آخر مساهمة من القناة التي أيدت الثورات العربية، وآخر تجليات سياسة قطر ـ الشيخ حمد. مصيرها الذي ستقرره الدوحة في هذه الأجواء سيعكس الكثير بشأن عهد الرجل الجديد. وأياً كان القرار، ليس وارداً على الإطلاق أن تكرر شابة ثورية مثل نوارة نجم، عباراتها الأثيرة «شكرا لتونس، شكرا للجزيرة، مفيش خوف تاني، مفيش ظلم تاني» التي قالتها لـ«الجزيرة» يوم تنحى الرئيس حسني مبارك في 11 شباط الماضي. وكأنها العبارة التي تنهي بها «الجزيرة» مرحلة وضاح خنفر، بكل تعقيداتها ونفوذها، والذي جعل من قناة إخبارية أهم من سياسة الدولة التي أطلقتها.

  • فريق ماسة
  • 2011-09-22
  • 5645
  • من الأرشيف

استقالة وضاح خنفر وتحولات «الجزيرة» هل من تغيير في السياسة والقيادة القطرية؟

أثارت استقالة المدير العام لقناة «الجزيرة» وضاح خنفر جدلا صاخبا يتلاءم مع دور الرجل في رسم سياسات أهم قناة عربية على الإطلاق، والذي صنفته مجلة «تايم» الأميركية في نيسان العام 2004 من بين أكثر 100 شخص تأثيراً في العالم. التفسير الأكثر شيوعاً لانسحاب خنفر (43 عاما) الفلسطيني، من المشهد فسر كنتيجة لانتشار برقية بثها موقع «ويكيليكس» والتي تعود للعام 2010 تحدث فيها دبلوماسيون أميركيون عن تعاونه معهم بشأن الأخبار التي تبثها القناة. واحتلت أيضا التكهنات المستعارة من معركة «حرب الايديولوجيات» داخل «الجزيرة» بين التيار «الاخواني» أو الإسلامي المحافظ، الأقرب إلى خنفر، مقابل الليبراليين المناهضين «لديماغوجية» القومية العربية، والأكثر انفتاحاً ومرونة تجاه واشنطن وإسرائيل. لكن يظل التساؤل المتكرر حول معنى استقالة خنفر بسياسته، هو الأكثر إلحاحاً لدى المتابعين لهذا التطور سواء أيدوا هذا التفسير أو ذاك عن سبب رحيله. وهو سؤال في محله ويقترب أكثر من حقيقة الوضع داخل قناة «الجزيرة» وسياسة الدوحة. اذ حسب مصادر مطلعة وعليمة في الدوحة، فإن السبب الحقيقي لاستقالة خنفر هو تحول تشهده السياسة القطرية بسبب مرض الأمير الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني لدرجة لا تسمح له الاستمرار كثيرا في الحكم، واستعداده لتسليم السلطة لنجله ولي العهد تميم خلال عامين. وحسب تلك المصادر التي تحدثت لـ«السفير» فإن أمير قطر وصف هذا التحول بقوله لاحد ضيوفه إن «لكل مرحلة رجالها»، أي ان سياسة قطر، التي جمعت تناقضات استضافة قاعدة عسكرية أميركية كبيرة، وتتمتع بعلاقات جيدة مع واشنطن وتل أبيب، في الوقت ذاته الذي تبدو قريبة من فصائل المقاومة الفلسطينية و«حزب الله»، لن تستمر في هذه المرحلة. المؤشرات الآتية من الدوحة، توحي بأن الإمارة الآن تقترب أكثر من الموقف الخليجي بحساسيته تجاه الثورات العربية، واحتجاجات الشيعة في البحرين، وأكثر اتساقاً في علاقتها بواشنطن. وضاح خنفر الذي فهم جيداً تناقضات السياسة القطرية بتعقيداتها وخصوصية عقلية أميرها (يتحدث عن ميوله الناصرية)، وسار فوق حبالها المعقدة، لم يعد أفضل من يقود سياسة المرحلة الجديدة. الشيخ تميم بن حمد بن خليفة آل ثاني، 31 عاماً، خريج أكاديمية ساندهيرست الملكية ببريطانيا، ظهر في المشهد العربي الجديد بالفعل. وزار القاهرة في 30 حزيران الماضي والتقى القائد العام للقوات المسلحة المشير محمد حسين طنطاوي. وتفيد المصادر بأن ولي العهد أقرب في رؤيته السياسية إلى والدته الشيخة موزة بنت ناصر آل مسند، التي ينسب إليها فكرة قناة «الجزيرة» الانكليزية التي يديرها طاقم غربي، ويشيد بها الإعلام الأميركي. ويتردد الآن أن الشيخ تميم سيأتي بطاقمه المعبر عنه أكثر، ليس فقط في قناة «الجزيرة»، التي اختير مديراً جديداً لها الشيخ أحمد بن جاسم بن محمد آل ثاني النافذ في شركة قطر للبترول، لكن أيضا في رسم سياسة قطر الخارجية، ما يجعل احتمال الصدام بنفوذ رئيس الوزراء الشيخ حمد بن جبر آل ثاني، وارداً. كثيرون يتابعون تغطية «الجزيرة» منذ استقالة خنفر، لكن بوادر تحولات القناة سبقت تاريخ استقالته بالفعل. لوحظ، مثلاً، أن «الجزيرة» التي احتفت سابقاً برئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان عندما ترك منصة منتدى «دافوس» في كانون الثاني العام 2009 احتجاجاً على تصريحات الرئيس الإسرائيلي شمعون بيريز حول حرب غزة، بثت خبراً أكثر أهمية، وهو إعلان أنقرة طرد السفير الإسرائيلي في 2 أيلول، في نشرتها على أنه خبر ثانوي، حيث جاء في المرتبة الرابعة في ترتيب عناوين الأخبار واحتل مساحة قصيرة جداً بشكل لافت. وفي يوم إعلان استقالة خنفر، ألغى مركز «الجزيرة» للدراسات ندوة كانت معدة سلفاً تحت عنوان «الإسلاميون والثورات العربية» وكان مقررا عقدها في الدوحة في الأول من تشرين الأول المقبل. وليس واضحاً بعد وتيرة السرعة التي ستطبق فيها سياسة «الجزيرة» في المرحلة المقبلة، وإذا كانت، مثلاً، ستعيد النظر في آثار عهد خنفر، ومنها مثلاً قناة «الجزيرة مباشر ـ مصر»، التي أطلقت بسرعة في زخم الثورة المصرية واحتفالاً بها، ويديرها طاقم مصري محسوب على التيار الإسلامي. وتتعرض منذ أسبوعين إلى تعنت السلطات المصرية التي أوقفت بثها المباشر بحجة عدم حصولها على رخصة لهذا الغرض (وامتناعها عن إغلاق قنوات مصرية لا تملك ترخيص البث المباشر) في أعقاب تغطيتها المستمرة لأحداث السفارة الإسرائيلية في القاهرة في 9 أيلول، واقتحام المتظاهرين لها. مصير «الجزيرة مباشر ـ مصر» التي تبث أغاني الشيخ إمام الثورية ـ أحد رموز معارضة عهد أنور السادات ـ احتفالاً بالثورة المصرية، تعتبر، حتى إشعار آخر، آخر مساهمة من القناة التي أيدت الثورات العربية، وآخر تجليات سياسة قطر ـ الشيخ حمد. مصيرها الذي ستقرره الدوحة في هذه الأجواء سيعكس الكثير بشأن عهد الرجل الجديد. وأياً كان القرار، ليس وارداً على الإطلاق أن تكرر شابة ثورية مثل نوارة نجم، عباراتها الأثيرة «شكرا لتونس، شكرا للجزيرة، مفيش خوف تاني، مفيش ظلم تاني» التي قالتها لـ«الجزيرة» يوم تنحى الرئيس حسني مبارك في 11 شباط الماضي. وكأنها العبارة التي تنهي بها «الجزيرة» مرحلة وضاح خنفر، بكل تعقيداتها ونفوذها، والذي جعل من قناة إخبارية أهم من سياسة الدولة التي أطلقتها.

المصدر : السفير


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة