دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
تقف دمشق الآن وهي تحاول مع حلفائها استيعاب الهجوم الشامل عليها، وتدرك أن المدة الزمنية الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية هي أصعب المعارك.
لم تنطلق بعد الانتخابات الرئاسية السورية المقررة في العام 2021، ولكن ما يراد منها أطلق مجموعة من المعارك، وعلى المستويات كافة، ما دفع بالضغوط الدولية على السوريين إلى مستوى غير مسبوق.
ولا يمكننا أن ننظر إلى ذلك إلا ضمن سياق المشهد العالمي، فالحرب التي امتدّت على أغلب الأراضي السورية منذ منتصف شهر آذار/مارس من العام 2011، لم تكن سوى رأس جبل الجليد من صراع دوليّ وإقليميّ كبير تدخّلت فيه كلّ القوى الكبرى بشكل عسكري مباشر، وخصوصاً الولايات المتحدة وروسيا وفرنسا وبريطانيا، أو بشكل دعم استخباراتي وسياسي ومالي، كما هو حال ألمانيا ومعظم دول الاتحاد الأوروبي في مقابل الصين.
وكذلك الأمر على المستوى الإقليمي، الذي اصطدمت فيه القوى الإقليمية في الساحة السورية بأحلاف متبدلة تبعاً للمتغيرات الميدانية والمصالح والصراعات البينية على الأدوار بين الدول التي اشتركت في الحرب على سوريا.
وهنا، تقف إيران كقوة إقليمية كبرى حليفة لسوريا في مواجهة كل من تركيا و”إسرائيل” والسعودية وقطر والأردن وبقية الدول.
هذا المشهد العام انعكس على صورة الصراع الداخلي، إذ ظهر الانكفاء الأميركي وعجزه عن حسم الحرب وتحقيق أهدافه منها، وخصوصاً أنه عمل على ترتيب الأوضاع في المنطقة بشكل مبكر، للتفرغ لمواجهة الصين والانتقال إلى جنوب شرق آسيا، ما انعكس بدوره على بقية القوى الإقليمية وقبولها بانسحاب كامل من ريف دمشق وحمص وريفها، وانسحاب شبه كامل من درعا، مع الإبقاء على بعض المجموعات المسلحة بعنوان المصالحة، مع الإبقاء على أسلحتها المتوسّطة.
تدخّلت مجموعة من العوامل في تسريع الانكفاء الأميركي على المستوى العالمي، وأهمها انتشار الوباء العالمي بآثاره المدمرة في اقتصاد القوى الكبرى، وخصوصاً الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا، ما أقلق الغرب عموماً من سرعة التحولات العالمية لمصلحة كل من الصين وروسيا، إضافة إلى إيران، التي ترتبط مع هاتين القوتين بتحالف غير معلن، غايته إخراج الولايات المتحدة من قارة آسيا كلها، فدُفعَت القوى الغربية عموماً وتركيا و”إسرائيل” لمحاولة منع هذه التحولات، والعمل على ترتيب خارطة القوى الإقليمية، بما يخدم أمن “إسرائيل” وقابليتها للاستمرار بالبقاء الذي يرتبط بدور وظيفي ما زالت تُعوِّل عليه، فعملت على خيارات متعددة سياسية وعسكرية، وفي مناطق ومستويات متعددة، والغاية الأساس من ذلك الحصول على مكتسبات جيوسياسية لم تستطع تحقيقها بالحرب العسكرية، فقامت بالتدمير الكبير للبنية الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية لسوريا القابلة لإعادة البناء خلال عقد من الزمن.
لم تكن المعركة الإعلامية السياسية بعيدة من هذه المعارك، وهي تعتبر أشدها على الإطلاق، لأنها انطلقت من بعض القوى الروسية التي ترتبط بالمراكز المالية الغربية، وبالتنسيق الكامل مع المُقرر الأميركي الذي يقود حملة التنسيق المبرمجة على دمشق، وبالاشتراك الكامل للإعلام الغربي والإسرائيلي والعربي الخليجي، وذلك لممارسة أقصى أشكال الابتزاز للضغط على دمشق، لسحب شرعية وجود المستشارين العسكريين الإيرانيين وإغلاق الحدود بين العراق وسوريا، مع ممارسة الضغوط الاقتصادية القصوى على لبنان لإغلاق المعابر البرية.
لم تكتفِ الإدارة الأميركية بذلك، بل بدأت بالتصعيد في إدلب، بما يدعم التوجّهات التركية فيها، وأمّنت الدعم الكامل للمجموعات المسلّحة المصنّفة في مجلس الأمن الدولي وبموافقتها، ضمن التنظيمات الإرهابية، فعاد جيمس جيفري ليلقي بالحُرم على إدلب، ويعتبرها قلعة للمعارضة السورية غير المتواجدة فيها أصلاً، ويطلق إطاراً للحل السياسي يعزل دمشق عن طهران وبغداد وبيروت.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، فقد سارعت الولايات المتحدة الأميركية، بالتعاون مع فرنسا، إلى إيجاد منظومة سياسية كردية مشتركة تؤمن عملية بقائها في شمال شرق سوريا ضمن قواعد عسكرية بديلة من العراق، الذي يطالب بخروج قوات التحالف الدولي بعد اغتيال كل من قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، فجيء بقيادات من المجلس الوطني الكردي العائد إلى أربيل وأنقرة، وفرض على القيادات الكردية الدخول في مفاوضات قسرية للوصول إلى اتفاق سياسي يرضي جميع الأطراف، وبما يخرج شمال شرق سوريا الذي يعد السلة الغذائية ومصدر الطاقة الرئيسي، ما يزيد الضغط الاقتصادي والسياسي على دمشق.
ترافقت هذه الضغوط السياسية والإعلامية مع تشديد العقوبات على سوريا، بمحاصرة لبنان مالياً، والذي يعتبر الرئة الوحيدة التي تتنفس منها، والاستيلاء على الأموال السورية المودعة فيه، بعد إدخال المصارف في المعركة على محور طهران دمشق.
وقد استثمرت الدول الضاغطة بشكل كبير ضعف بنية الدولة السورية بعد الحرب المديدة وتعمّق الفساد على كل المستويات، ما انعكس بشكل كبير وواسع على الحياة المعيشية للسكان الذين تجاوزوا خط الفقر بنسبة تزيد على 83%. ومن المتوقع تخطّي هذا الرقم، مع استمرار الضغوط وعدم تغيير السياسات الاقتصادية والإدارية المتبعة حتى الآن.
وفِي المنطقة الجنوبية التي تعتبر الخاصرة الرخوة لدمشق، تمت إعادة إحياء غرفة الموك في الأردن، وإعطاء الأوامر للتحرك الأمني باتباع أسلوب الاغتيالات، والأسلوب المدني بتحريك التظاهرات في مناطق درعا التي تمت فيها تسويات ملتبسة، وخصوصاً في مثلث الموت على الحدود مع الجولان المحتل والأردن، والرفع من الاضطرابات الأمنية في محافظة السويداء، والعمل على إيقاظ الحساسيات بين حوران وجبل العرب، ومحاولة التمدد إلى محافظة القنيطرة، برسالة واضحة إلى كل من طهران وموسكو للابتعاد عن دمشق، وقبول موسكو بانتخابات رئاسية لا يكون فيها دور للرئيس الأسد المُصرّ على بقاء سوريا ضمن محور طهران بغداد دمشق بيروت.
وقد حاولت هذه السياسات المتّبعة زرع الشكوك بين هذه العواصم، التي تدرك أنها لا تستطيع فك عرى الترابط بينها بحكم المصالح الاستراتيجية الكبرى فيما بينها، وهو ما دفع القيادة السورية إلى إرسال تعزيزات عسكرية كبيرة إلى المناطق الساخنة في محافظة درعا، بدعم روسي إيراني واضح لخيار دمشق للسيطرة الكاملة على كل المناطق، وإنهاء مفعول المصالحة الملتبسة، والذهاب إلى اتفاق جديد لا دور فيه للمجموعات المسلحة، وإنهاء الدور الأميركي الإسرائيلي في الجنوب السوري، وهو ما يصب في مصالح الدول الثلاث ويعمّق المصالح الاستراتيجية العليا.
تقف دمشق الآن وهي تحاول مع حلفائها استيعاب الهجوم الشامل عليها، وتدرك أن المدة الزمنية الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية هي أصعب المعارك، وستستعمل الإدارة الأميركية والإسرائيلية كل الوسائل والأدوات لإحداث ضغط هائل يتيح تغيير الموقع الجيوسياسي لسوريا، ولو تطلّب الأمر إعطاء موسكو مكتسبات كبيرة، بما في ذلك الإقرار بدورها المهيمن على إدارة شؤون المنطقة، بما في ذلك “إسرائيل”، مقابل أن تتحوّل الدولة السورية إلى دولة حيادية بتعديلات دستورية على النمط العراقي واللبناني، فهل ستقبل موسكو بذلك؟
المصدر :
الماسة السورية/الميادين
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة