دليل ماسة
أكثر الروابط استخداما
أن تبقى مشدوداً إلى الشاشة طوال عشرين دقيقة من دون أن ترفّ عيناك بسبب أي تفصيل زائد، أو جملة لا معنى لها، أو لقطة فائضة عن الحاجة ولا تؤدي دلالتها بالمستوى المطلوب، لهو إنجاز لصناع فيلم «الحبل السري» (تأليف: رامي كوسا، إخراج: الليث حجو، إنتاج الاتحاد الأوروبي مع شركة «سامة» بالتنسيق مع منظمتي مدني والبحث عن أرضية مشتركة)، الذي اعتمد معادلة سينمائية من نوع السهل الممتنع، تقوم على تأصيل الواقع فنياً، بالاتكاء على التكثيف في كل شيء، وضخّ المعنى في جميع التفاصيل.
الحكاية بسيطة: زوجة حامل «نانسي خوري» تعيش مع زوجها «يزن الخليل» في منزلهما على خط النار، وهما محاصران بالحدود التي يرسمها القنّاص، لدرجة أنه يمنعهما من تقطيع الشارع للانضمام إلى جيرانهما، فيصبح حبلٌ مشدودٌ على بكرتين بمنزلة وريد لحياتهما، يتم من خلاله نقل «رغيف العيش»، ولو وصلهما بطعم البارود، لكنهما اعتادا أن يُنَكِّهاه بالنعناع من أصيص على شرفتهما، وبرغم أن الموت والدمار يحيطان بهما، لكنهما يحيكان مستقبلهما من نعومة الماضي أحياناً، (مشهد خياطة ملابس الطفل من ثوب قديم)، وفي مرَّات أخرى بالحبّ المُطَعَّم بالخوف والعزلة وقلَّة كل شيء، وفي ظل هذا العبث، ومع عدم رحمة القنّاص، برغم جميع توسُّلات الزوج المُتَرَقِّب لأبوّته بالسماح لهما بتقطيع الشارع فقط، لأن زوجته تعاني مخاضاً مبكِّراً، هذه الأزمة الوجودية المتزامنة مع إرادة الحياة جعلت الأب ينجح في تطبيق تعليمات القابلة «ضحى الدبس»، على الطرف المقابل من الشارع ويقوم بتوليد زوجته في صندوق سيارته المعطَّلة، وأن يقطع حبل السّرّة بسكِّينه، ناقلاً ابنته من عتمة الرَّحم إلى ضوء البيت الذي ازداد جمالاً بوجودها.. معارضة وجودية بين حصار الموت المفروض والانعتاق نحو الحياة، وفق مقاربة سينمائية استطاعت أن تنقل لنا بحساسية عالية حالة الولادة التي أدَّتها باقتدار «نانسي»، و«يزن» المتمكِّن من أدواته فأبدع في رسم الانطباعات المختلفة على وجهه بعدما تحوَّل بفعل الضرورة إلى «قابلة قانونية» لزوجته بكل ما يعنيه ذلك من مسؤولية مضاعفة، طبعاً كل ذلك مع حركة كاميرا تنفذ إلى روح الشخصية ضمن الموقف الدرامي الذي تعيشه، وفي تأكيد على فلسفة المسافة بين القريب والبعيد، وحساسية الزمن الفاصل بين الموت والحياة، الركون والاستمرار، السكون والحركة،… في سعي لتعزيز صورة الضحية، ورسم ملامحها بدقة، على عكس الجاني الذي اكتفى «الليث» بتصوير عينه فقط من وراء منظار القناصة المُقرِّب، إذ ليس المهم الاصطفافات والتخندقات الإيديولوجية، بقدر توسيع عدسة الكاميرا إلى أقصاها على ألم الضحايا وعذاباتهم وأنينهم المستمر، وكنوع من رد الاعتبار للمتألمين مكَّن السيناريست «رامي» الزوجَ من إصلاح سيارته، ليكتب على غطائها القماشي رسالةً بأن زوجته قامت بالسلامة مع شتيمة لائقة بقلّة وجدان القنَّاص وعدم إنسانيته، ثم يدفعها لتصبح في مرمى بندقيته غير عابئ برسائل النار التي تلقّاها بلور السيارة وجسدها المعدني. الشتيمة هنا جاءت تعبيراً عن التحرر من الضغط النفسي الهائل الذي عايشته الشخصيات ضمن الظرف والموقف البذيء الذي وضعهما فيه القناص، وفسحة تسمح لمشاعر الزوج بالتألق، مشاعر انتقلت إلينا في مقاعد الصالة، تعاطفاً مع ابتسامة المُتألِّم والمُنتَصِر على الموت، ونكايةً في مُسبِّبه
«الليث» لم ينجح فقط في رسم ملامح شخوصه ونقل مشاعرها إلينا، بل ترك بصمته الخاصة في رسم ملامح المكان بأصواته وروائحه ومكوِّناته، ولم يرتضِ لكاميرته أن تحظى بموقع القناص إلا مرّات قليلة، لأن رغبته واضحة في التأثيث للواقع والالتصاق بتفاصيله: زجاج النافذة المثقوب، دعسة ماكينة الخياطة، البراعة في تصوير غريزة الرضاعة بكامل دهشتها، كيس النارنج في مواجهة القناص، لهفة الجيران في نظرات «جمال العلي» وصوت «ضحى الدبس» مثلاً،… إذ إن كل كادر كان مملوءاً بالبساطة والجَمال، مع دوزنة كميَّات الضوء المناسبة، وزاوية ورودِها، فضلاً عن الإيقاع الممسوك والمتصاعد نحو ذروته بدقة، بمساعدة مونتاج متقن لـ«عمار العاني»، كل ذلك جعل من «الحبل السري» حبلاً متيناً قادراً على شد المتابعين إلى حيث تبزغ «بلاغة البساطة» بكامل ألقها وعفويتها.
.
أن تبقى مشدوداً إلى الشاشة طوال عشرين دقيقة من دون أن ترفّ عيناك بسبب أي تفصيل زائد، أو جملة لا معنى لها، أو لقطة فائضة عن الحاجة ولا تؤدي دلالتها بالمستوى المطلوب، لهو إنجاز لصناع فيلم «الحبل السري» (تأليف: رامي كوسا، إخراج: الليث حجو، إنتاج الاتحاد الأوروبي مع شركة «سامة» بالتنسيق مع منظمتي مدني والبحث عن أرضية مشتركة)، الذي اعتمد معادلة سينمائية من نوع السهل الممتنع، تقوم على تأصيل الواقع فنياً، بالاتكاء على التكثيف في كل شيء، وضخّ المعنى في جميع التفاصيل.
الحكاية بسيطة: زوجة حامل «نانسي خوري» تعيش مع زوجها «يزن الخليل» في منزلهما على خط النار، وهما محاصران بالحدود التي يرسمها القنّاص، لدرجة أنه يمنعهما من تقطيع الشارع للانضمام إلى جيرانهما، فيصبح حبلٌ مشدودٌ على بكرتين بمنزلة وريد لحياتهما، يتم من خلاله نقل «رغيف العيش»، ولو وصلهما بطعم البارود، لكنهما اعتادا أن يُنَكِّهاه بالنعناع من أصيص على شرفتهما، وبرغم أن الموت والدمار يحيطان بهما، لكنهما يحيكان مستقبلهما من نعومة الماضي أحياناً، (مشهد خياطة ملابس الطفل من ثوب قديم)، وفي مرَّات أخرى بالحبّ المُطَعَّم بالخوف والعزلة وقلَّة كل شيء، وفي ظل هذا العبث، ومع عدم رحمة القنّاص، برغم جميع توسُّلات الزوج المُتَرَقِّب لأبوّته بالسماح لهما بتقطيع الشارع فقط، لأن زوجته تعاني مخاضاً مبكِّراً، هذه الأزمة الوجودية المتزامنة مع إرادة الحياة جعلت الأب ينجح في تطبيق تعليمات القابلة «ضحى الدبس»، على الطرف المقابل من الشارع ويقوم بتوليد زوجته في صندوق سيارته المعطَّلة، وأن يقطع حبل السّرّة بسكِّينه، ناقلاً ابنته من عتمة الرَّحم إلى ضوء البيت الذي ازداد جمالاً بوجودها.. معارضة وجودية بين حصار الموت المفروض والانعتاق نحو الحياة، وفق مقاربة سينمائية استطاعت أن تنقل لنا بحساسية عالية حالة الولادة التي أدَّتها باقتدار «نانسي»، و«يزن» المتمكِّن من أدواته فأبدع في رسم الانطباعات المختلفة على وجهه بعدما تحوَّل بفعل الضرورة إلى «قابلة قانونية» لزوجته بكل ما يعنيه ذلك من مسؤولية مضاعفة، طبعاً كل ذلك مع حركة كاميرا تنفذ إلى روح الشخصية ضمن الموقف الدرامي الذي تعيشه، وفي تأكيد على فلسفة المسافة بين القريب والبعيد، وحساسية الزمن الفاصل بين الموت والحياة، الركون والاستمرار، السكون والحركة،… في سعي لتعزيز صورة الضحية، ورسم ملامحها بدقة، على عكس الجاني الذي اكتفى «الليث» بتصوير عينه فقط من وراء منظار القناصة المُقرِّب، إذ ليس المهم الاصطفافات والتخندقات الإيديولوجية، بقدر توسيع عدسة الكاميرا إلى أقصاها على ألم الضحايا وعذاباتهم وأنينهم المستمر، وكنوع من رد الاعتبار للمتألمين مكَّن السيناريست «رامي» الزوجَ من إصلاح سيارته، ليكتب على غطائها القماشي رسالةً بأن زوجته قامت بالسلامة مع شتيمة لائقة بقلّة وجدان القنَّاص وعدم إنسانيته، ثم يدفعها لتصبح في مرمى بندقيته غير عابئ برسائل النار التي تلقّاها بلور السيارة وجسدها المعدني. الشتيمة هنا جاءت تعبيراً عن التحرر من الضغط النفسي الهائل الذي عايشته الشخصيات ضمن الظرف والموقف البذيء الذي وضعهما فيه القناص، وفسحة تسمح لمشاعر الزوج بالتألق، مشاعر انتقلت إلينا في مقاعد الصالة، تعاطفاً مع ابتسامة المُتألِّم والمُنتَصِر على الموت، ونكايةً في مُسبِّبه
«الليث» لم ينجح فقط في رسم ملامح شخوصه ونقل مشاعرها إلينا، بل ترك بصمته الخاصة في رسم ملامح المكان بأصواته وروائحه ومكوِّناته، ولم يرتضِ لكاميرته أن تحظى بموقع القناص إلا مرّات قليلة، لأن رغبته واضحة في التأثيث للواقع والالتصاق بتفاصيله: زجاج النافذة المثقوب، دعسة ماكينة الخياطة، البراعة في تصوير غريزة الرضاعة بكامل دهشتها، كيس النارنج في مواجهة القناص، لهفة الجيران في نظرات «جمال العلي» وصوت «ضحى الدبس» مثلاً،… إذ إن كل كادر كان مملوءاً بالبساطة والجَمال، مع دوزنة كميَّات الضوء المناسبة، وزاوية ورودِها، فضلاً عن الإيقاع الممسوك والمتصاعد نحو ذروته بدقة، بمساعدة مونتاج متقن لـ«عمار العاني»، كل ذلك جعل من «الحبل السري» حبلاً متيناً قادراً على شد المتابعين إلى حيث تبزغ «بلاغة البساطة» بكامل ألقها وعفويتها.
.
المصدر :
الماسة السورية/ تشرين
اكتب تعليق
كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة