يُعَدُّ البدءُ بتنفيذ عقدِ توريد صواريخ (S 400) الروسيّة الذي كانت قد أبرمته الحكومة التركية سابقاً مع روسيا الاتحاديّة، لحظةً تاريخيّةً فاصلةً، دخلت بها الحكومة التركيّة، رغم التحذيرات الأمريكية لها،

 

في عملية فتح إطارٍ جديد للعلاقات التركية-الدولية، إذ تمضي الحكومة التركية بقوة الآن في تنفيذ بعض خياراتها الاستراتيجية التي كانت قد رسمتها منذ بعض الوقت؛ ذلك بهدف تعويم الدور التركيّ في مختلف القضايا الدولية، لا سيما قضايا الإقليم، بما يعزز الشروط اللازمة لضمان مصالح تركيا الاستراتيجية، في المنظار البعيد.

 

لقد ارتبطت تركيا، تاريخيّاً، بعلاقة استراتيجية مميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية، إذ اتجهت الدولة التركيّة منذ خمسينيات القرن الماضي نحو تبني سياسات تؤكد الالتزام بخيارات الولايات المتحدة الأمريكية وتوجُّهاتها الاستراتيجية لجهة ما يتعلق بإدارة مختلف القضايا الإقليمية والدولية. وفي إطار عملية الاصطفاف السياسيّ الدوليّ، ذهبت تركيا أبعد من حدود الانحياز، إذ تبنت خياراً أكثر تقدّماً في المواجهة مع دول المعسكر الشرقيّ، بقيادة الاتحاد السوفياتيّ سابقاً، لطالما انضمت إلى حلف شمال الأطلسيّ (الناتو)، واستضافت قاعدة عسكرية متقدمة للحلف، (قاعدة إنجرليك)، التي كانت منطلقاً مهماً للكثير من العمليات التي نفذها الحلف في غير مكان، وعلى أكثر من مستوى وزمان.

وفي الواقع إنَّ العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية كانت تعبّر عن حاجة استراتيجية متبادلة للطرفين، إذ إنه في الوقت الذي كانت فيه أمريكا تمثل حاجةً استراتيجيةً لتركيا لوقف التوسع الروسيّ، غرباً وجنوباً، كانت تركياً تمثل بالمقابل حاجة لأمريكا لتحقيق هدفين استراتيجيين: الأول تحقيق شروط الموازنة الصفرية للمعادلة التي تحكم مواقف دول العالَمين العربي والإسلامي تجاه "إسرائيل" التي ارتبطت بعلاقة مميزة مع تركيا، طوال عقودٍ عدة من الزمن، والثاني وقف تمدد  النفوذ السوفياتي جنوباً وغرباً، مع ضرورة الأخذ بالحسبان طبيعة الموقف الاستراتيجي الأمريكيّ الذي التزم إلى حدٍّ كبيرٍ بمضمون الرؤية التركية حول مستقبل جزيرة قبرص، وقد أدركت تركيا إلى حدٍّ كبير حدود الدور التركي ومضمونه، وفهمت قواعد اللعبة، وأتقنت فنّ استخدام أدواتها، وجيّرت مواقفها الدولية وسياستها الخارجية، بصورة واضحة، لصالح الغرب، بقيادة أمريكا في مواجهة الشرق، ولم تكن قضايا فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني تشكل بالنسبة لها في يومٍ من الأيام مادة لأي خلافٍ في وجهة النظر مع الغرب بعامّة، والولايات المتحدة الأمريكية بخاصّة.

مع سقوط الاتحاد السوفياتي، تغيرت قواعد اللعبة، إذ لم تعد تركيا تتمتع بالقيمة الاستراتيجيّة نفسها، ولا حتى بالأهمية نفسها بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكيّة، لطالما أنَّ دولاً وظيفية أخرى، وجماعات متعددة، أصبح من الممكن أن تحل مكان تركيا، بتكلفة سياسية واقتصادية أقل، وجدوى أكبر، ذلك انطلاقاً من قواعد لعبة جديدة ومختلفة، وقد استغلت الولايات المتحدة الأمريكية اللحظة التاريخية للانطلاق من قواعد هذه اللعبة (توظيف وكلاء جدد) على حساب الدور التركي التقليدي والتاريخي. وبذلك بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بطرح أجندات جديدة، وخلقت كثيراً من التعقيدات، وفرضت مزيداً من القيود والالتزامات على الأتراك. إلا أن المسألة أخذت بُعداً جديداً بعد الاحتلال الأمريكي للعراق الذي يُعَدُّ نقطة تمفصلٍ حقيقية، دخل بها الأتراك، وطيلة سنوات ما بعدها في حالة قلق واضطراب كبيرين، حول الدور التركي والمصالح الاستراتيجية لتركيا على المستويين الإقليمي والدوليّ، ما دفع الحكومة التركية نحو تقديم مزيدٍ من التنازلات، وتجديد أوراق الاعتمادات والتوكيلات، لكن الولايات المتحدة الأمريكية تعاملت باستعلاءٍ مستفزٍّ، واستمرت في  تجاهل كثيرٍ من العروض والإشارات التركية، كما تجاهلت الاحتياجات الاستراتيجية بالنسبة لتركيا، لا بل تورطت (على حدِّ تعبير الحكومة التركية) بأعمالٍ كثيرة، حَسِبَتْها الحكومة التركية عدائية، وعدّتها  تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية لتركيا، وأخلّت بشروط الأمن ومتطلبات الاستقرار.

تحولت الحكومة التركية نحو تبني استراتيجية تدوير الزوايا من جديد، إذ اتجهت نحو صياغة أسسٍ مختلفة لمنظومة علاقات خارجية جديدة (استراتيجية صفر مشاكل، والتوجه نحو الفضاء الجنوبي، والشرقي لتركيا)، والتي راهنت تركيا عليها إلى حدٍّ كبير كمدخل لتجاوز كثيرٍ من التعقيدات التي أنتجتها التطورات المكثفة، والتي جاءت في سياق مرحلة ما بعد الحقبة السوفياتيّة، واسْتُكْمِلت بمعطيات لاحقة أفرزتها عملية احتلال العراق. لكن حالة القلق والارتباك بقيت تسيطر بقوة على ذهنية الحكومة التركية، وتشكل محدداً أساساً من محدّدات سياستها في الداخل والخارج.

وما زاد الطين بلة في الواقع، هو غموض الموقف الأمريكي وملابساته حيال مسألة الكرد، ومستقبل دورهم في الإقليم. غموضٌ لم تتغير ملامحه رغم انعطافات الرئيس الأمريكي باراك أوباما العابرة والمحدودة تجاه تركيا، والعبارات الدبلوماسية المنتقاة، المهذبة سياسياً. كل ذلك لم يخفف من هواجس تركيا ومخاوفها، وقد استمرت الحال كذلك إلى أن اندلعت الحرب في سورية، إذ وجد الأتراك فيها الفرصة التاريخية للإمساك بالورقة السورية، وتجييرها بقوة، بما يساعدهم في التعويض عن بعض خسائرهم الاستراتيجية، وذلك عن طريق:

-الانغماس أكثر في الملف السوريّ، والتورط اقتصاديّاً وعسكريّاً وبشريّاً؛ ذلك عن طريق تقديم الدعم المالي والتقني والعسكري والاستخباراتي لجميع الفصائل والقوى المسلحة العاملة على الساحة السورية، بكلف باهظة ومؤلمة لكلٍّ من الشعب السوريّ والجغرافيا السورية.

-توجه الأتراك نحو إعادة النظر بالتموضع والخيار، وقد كان مفتاحهم  لذلك، التوجه نحو روسيا الاتحادية، وبناء تفاهمات جديدة معها، تضمنت إبرام صفقات سلاح، واتفاقيات تدريب عسكريين، وتوقيع العديد من الاتفاقات الاقتصادية مع الروس، لتعميق قنوات التبادل التجاري والمالي والاستثماري، وقد ذهب الأتراك أبعد من ذلك مع الروس، بقبولهم الانخراط في مسار أستانا حول الملف السوريّ، كمسارٍ موازٍ لمسار الأمم المتحدة، لا حُبّاً بالروس ولا تقديراً لمصالح روسيا الاتحادية، ولكن بهدف الابتزاز أكثر للأمريكيين والضغط عليهم، ودفعهم لإعادة النظر والمراجعة، وتقديم بعض التنازلات التي تساعد في تعزيز الضمانات للمصالحِ الاستراتيجية التركية، وتساعد في تعزيز فرص أردوغان السياسية والانتخابية. وقد استشعر الروس حالة القلق العميق، والتمسوا حاجة الحكومة التركية المأزومة، والمؤثرة بقوة في الوقت ذاته في الملف السوري، جراء الجوار الجغرافي من جهة، والعمق البشري (الأيديولوجي/الإسلامي والعرقي) من جهة ثانية.

لقد تفهم الروس الحاجة التركية، ووضعوا وردة حمراء على ضريح الطيار الروسي الذي أُسقط بنيران الدفاعات الجوية التركية، واستجابوا للعبة تدوير الزوايا التركية، وانعطفوا بقوة تجاه التنسيق مع تركيا التي يمكن أن تقدم خدمات كبرى لروسيا، في الملف السوري المتشابك والمعقد، في الوقت الذي وجد فيه الروس ثمة مصالح استراتيجية، يمكن أن تتحقق بالنسبة للاقتصاد الروسيّ الذي يخضع لعقوبات اقتصادية دولية، مكلفة ومرهقة بالنسبة للاقتصاد الروسيّ، تقودها الولايات المتحدة الأمريكية.

وعليه، إنَّ البدء بتنفيذ صفقة صواريخ (S 400) يندرج في سياق خطوات الابتزاز والضغط الذي تمارسه الحكومة التركية بقيادة أردوغان على الأمريكيين، لإعادة النظر بتقديراتهم لجهة ما يتعلق بمصالح تركيا الاستراتيجية، هذا من جانب، ولأخذ مصادر القلق الأخرى التي تقضّ مضجع الأتراك بالحسبان، تحديداً لجهة ما يتعلق بالمسألة الكردية، ومستقبل الكرد المدعومين من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، من جانب آخر.

ويبقى الأبرز في هذا السياق، هو الإشارة إلى أن عملية تسليم منظومة صواريخ (S 400) إلى تركيا، لا تتولد أهميتها (بالنسبة للروس) من المقابل المالي للصفقة موضوع العقد فقط، بل من كونها عملية تنطوي على مضمون سياسيّ وعسكريّ استراتيجيّ، سينعكس بصورة إيجابية على مضمون الدّور الروسيّ في المدى البعيد.

  • فريق ماسة
  • 2019-07-29
  • 7241
  • من الأرشيف

تركيا: إعادة تحديد الدّور ورسم المسار أبعد من حدود صفقة (اس 400)

يُعَدُّ البدءُ بتنفيذ عقدِ توريد صواريخ (S 400) الروسيّة الذي كانت قد أبرمته الحكومة التركية سابقاً مع روسيا الاتحاديّة، لحظةً تاريخيّةً فاصلةً، دخلت بها الحكومة التركيّة، رغم التحذيرات الأمريكية لها،   في عملية فتح إطارٍ جديد للعلاقات التركية-الدولية، إذ تمضي الحكومة التركية بقوة الآن في تنفيذ بعض خياراتها الاستراتيجية التي كانت قد رسمتها منذ بعض الوقت؛ ذلك بهدف تعويم الدور التركيّ في مختلف القضايا الدولية، لا سيما قضايا الإقليم، بما يعزز الشروط اللازمة لضمان مصالح تركيا الاستراتيجية، في المنظار البعيد.   لقد ارتبطت تركيا، تاريخيّاً، بعلاقة استراتيجية مميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية، إذ اتجهت الدولة التركيّة منذ خمسينيات القرن الماضي نحو تبني سياسات تؤكد الالتزام بخيارات الولايات المتحدة الأمريكية وتوجُّهاتها الاستراتيجية لجهة ما يتعلق بإدارة مختلف القضايا الإقليمية والدولية. وفي إطار عملية الاصطفاف السياسيّ الدوليّ، ذهبت تركيا أبعد من حدود الانحياز، إذ تبنت خياراً أكثر تقدّماً في المواجهة مع دول المعسكر الشرقيّ، بقيادة الاتحاد السوفياتيّ سابقاً، لطالما انضمت إلى حلف شمال الأطلسيّ (الناتو)، واستضافت قاعدة عسكرية متقدمة للحلف، (قاعدة إنجرليك)، التي كانت منطلقاً مهماً للكثير من العمليات التي نفذها الحلف في غير مكان، وعلى أكثر من مستوى وزمان. وفي الواقع إنَّ العلاقة بين تركيا والولايات المتحدة الأمريكية كانت تعبّر عن حاجة استراتيجية متبادلة للطرفين، إذ إنه في الوقت الذي كانت فيه أمريكا تمثل حاجةً استراتيجيةً لتركيا لوقف التوسع الروسيّ، غرباً وجنوباً، كانت تركياً تمثل بالمقابل حاجة لأمريكا لتحقيق هدفين استراتيجيين: الأول تحقيق شروط الموازنة الصفرية للمعادلة التي تحكم مواقف دول العالَمين العربي والإسلامي تجاه "إسرائيل" التي ارتبطت بعلاقة مميزة مع تركيا، طوال عقودٍ عدة من الزمن، والثاني وقف تمدد  النفوذ السوفياتي جنوباً وغرباً، مع ضرورة الأخذ بالحسبان طبيعة الموقف الاستراتيجي الأمريكيّ الذي التزم إلى حدٍّ كبيرٍ بمضمون الرؤية التركية حول مستقبل جزيرة قبرص، وقد أدركت تركيا إلى حدٍّ كبير حدود الدور التركي ومضمونه، وفهمت قواعد اللعبة، وأتقنت فنّ استخدام أدواتها، وجيّرت مواقفها الدولية وسياستها الخارجية، بصورة واضحة، لصالح الغرب، بقيادة أمريكا في مواجهة الشرق، ولم تكن قضايا فلسطين وحقوق الشعب الفلسطيني تشكل بالنسبة لها في يومٍ من الأيام مادة لأي خلافٍ في وجهة النظر مع الغرب بعامّة، والولايات المتحدة الأمريكية بخاصّة. مع سقوط الاتحاد السوفياتي، تغيرت قواعد اللعبة، إذ لم تعد تركيا تتمتع بالقيمة الاستراتيجيّة نفسها، ولا حتى بالأهمية نفسها بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكيّة، لطالما أنَّ دولاً وظيفية أخرى، وجماعات متعددة، أصبح من الممكن أن تحل مكان تركيا، بتكلفة سياسية واقتصادية أقل، وجدوى أكبر، ذلك انطلاقاً من قواعد لعبة جديدة ومختلفة، وقد استغلت الولايات المتحدة الأمريكية اللحظة التاريخية للانطلاق من قواعد هذه اللعبة (توظيف وكلاء جدد) على حساب الدور التركي التقليدي والتاريخي. وبذلك بدأت الولايات المتحدة الأمريكية بطرح أجندات جديدة، وخلقت كثيراً من التعقيدات، وفرضت مزيداً من القيود والالتزامات على الأتراك. إلا أن المسألة أخذت بُعداً جديداً بعد الاحتلال الأمريكي للعراق الذي يُعَدُّ نقطة تمفصلٍ حقيقية، دخل بها الأتراك، وطيلة سنوات ما بعدها في حالة قلق واضطراب كبيرين، حول الدور التركي والمصالح الاستراتيجية لتركيا على المستويين الإقليمي والدوليّ، ما دفع الحكومة التركية نحو تقديم مزيدٍ من التنازلات، وتجديد أوراق الاعتمادات والتوكيلات، لكن الولايات المتحدة الأمريكية تعاملت باستعلاءٍ مستفزٍّ، واستمرت في  تجاهل كثيرٍ من العروض والإشارات التركية، كما تجاهلت الاحتياجات الاستراتيجية بالنسبة لتركيا، لا بل تورطت (على حدِّ تعبير الحكومة التركية) بأعمالٍ كثيرة، حَسِبَتْها الحكومة التركية عدائية، وعدّتها  تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية لتركيا، وأخلّت بشروط الأمن ومتطلبات الاستقرار. تحولت الحكومة التركية نحو تبني استراتيجية تدوير الزوايا من جديد، إذ اتجهت نحو صياغة أسسٍ مختلفة لمنظومة علاقات خارجية جديدة (استراتيجية صفر مشاكل، والتوجه نحو الفضاء الجنوبي، والشرقي لتركيا)، والتي راهنت تركيا عليها إلى حدٍّ كبير كمدخل لتجاوز كثيرٍ من التعقيدات التي أنتجتها التطورات المكثفة، والتي جاءت في سياق مرحلة ما بعد الحقبة السوفياتيّة، واسْتُكْمِلت بمعطيات لاحقة أفرزتها عملية احتلال العراق. لكن حالة القلق والارتباك بقيت تسيطر بقوة على ذهنية الحكومة التركية، وتشكل محدداً أساساً من محدّدات سياستها في الداخل والخارج. وما زاد الطين بلة في الواقع، هو غموض الموقف الأمريكي وملابساته حيال مسألة الكرد، ومستقبل دورهم في الإقليم. غموضٌ لم تتغير ملامحه رغم انعطافات الرئيس الأمريكي باراك أوباما العابرة والمحدودة تجاه تركيا، والعبارات الدبلوماسية المنتقاة، المهذبة سياسياً. كل ذلك لم يخفف من هواجس تركيا ومخاوفها، وقد استمرت الحال كذلك إلى أن اندلعت الحرب في سورية، إذ وجد الأتراك فيها الفرصة التاريخية للإمساك بالورقة السورية، وتجييرها بقوة، بما يساعدهم في التعويض عن بعض خسائرهم الاستراتيجية، وذلك عن طريق: -الانغماس أكثر في الملف السوريّ، والتورط اقتصاديّاً وعسكريّاً وبشريّاً؛ ذلك عن طريق تقديم الدعم المالي والتقني والعسكري والاستخباراتي لجميع الفصائل والقوى المسلحة العاملة على الساحة السورية، بكلف باهظة ومؤلمة لكلٍّ من الشعب السوريّ والجغرافيا السورية. -توجه الأتراك نحو إعادة النظر بالتموضع والخيار، وقد كان مفتاحهم  لذلك، التوجه نحو روسيا الاتحادية، وبناء تفاهمات جديدة معها، تضمنت إبرام صفقات سلاح، واتفاقيات تدريب عسكريين، وتوقيع العديد من الاتفاقات الاقتصادية مع الروس، لتعميق قنوات التبادل التجاري والمالي والاستثماري، وقد ذهب الأتراك أبعد من ذلك مع الروس، بقبولهم الانخراط في مسار أستانا حول الملف السوريّ، كمسارٍ موازٍ لمسار الأمم المتحدة، لا حُبّاً بالروس ولا تقديراً لمصالح روسيا الاتحادية، ولكن بهدف الابتزاز أكثر للأمريكيين والضغط عليهم، ودفعهم لإعادة النظر والمراجعة، وتقديم بعض التنازلات التي تساعد في تعزيز الضمانات للمصالحِ الاستراتيجية التركية، وتساعد في تعزيز فرص أردوغان السياسية والانتخابية. وقد استشعر الروس حالة القلق العميق، والتمسوا حاجة الحكومة التركية المأزومة، والمؤثرة بقوة في الوقت ذاته في الملف السوري، جراء الجوار الجغرافي من جهة، والعمق البشري (الأيديولوجي/الإسلامي والعرقي) من جهة ثانية. لقد تفهم الروس الحاجة التركية، ووضعوا وردة حمراء على ضريح الطيار الروسي الذي أُسقط بنيران الدفاعات الجوية التركية، واستجابوا للعبة تدوير الزوايا التركية، وانعطفوا بقوة تجاه التنسيق مع تركيا التي يمكن أن تقدم خدمات كبرى لروسيا، في الملف السوري المتشابك والمعقد، في الوقت الذي وجد فيه الروس ثمة مصالح استراتيجية، يمكن أن تتحقق بالنسبة للاقتصاد الروسيّ الذي يخضع لعقوبات اقتصادية دولية، مكلفة ومرهقة بالنسبة للاقتصاد الروسيّ، تقودها الولايات المتحدة الأمريكية. وعليه، إنَّ البدء بتنفيذ صفقة صواريخ (S 400) يندرج في سياق خطوات الابتزاز والضغط الذي تمارسه الحكومة التركية بقيادة أردوغان على الأمريكيين، لإعادة النظر بتقديراتهم لجهة ما يتعلق بمصالح تركيا الاستراتيجية، هذا من جانب، ولأخذ مصادر القلق الأخرى التي تقضّ مضجع الأتراك بالحسبان، تحديداً لجهة ما يتعلق بالمسألة الكردية، ومستقبل الكرد المدعومين من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، من جانب آخر. ويبقى الأبرز في هذا السياق، هو الإشارة إلى أن عملية تسليم منظومة صواريخ (S 400) إلى تركيا، لا تتولد أهميتها (بالنسبة للروس) من المقابل المالي للصفقة موضوع العقد فقط، بل من كونها عملية تنطوي على مضمون سياسيّ وعسكريّ استراتيجيّ، سينعكس بصورة إيجابية على مضمون الدّور الروسيّ في المدى البعيد.

المصدر : الماسة السورية/ مداد


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة