رغم أنهما تفتقدان لأي معنىً قانوني، فإن خطوتي الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرتين القاضيتين بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على كلٍّ من القدس الشرقية والجولان السوري، دليلٌ قاطع على انسداد كل أفقٍ ممكنٍ للتسويات في المنطقة، ومؤشرٌ مهم إلى أن الصراع دخل طوراً جديداً من التوتر الذي سيبدأ بالتصعيد والتسخين الميداني، ولا يبدو أن أفقه الأخير يمكن أن ينتهي بغير الحرب الشاملة.

لا أدل على ذلك من سقوط 3 صواريخ من عيارات كبيرة خلال الأسبوعين الماضيين على تل أبيب، فسواءٌ كان إطلاق تلك الصواريخ نتيجة قرار مركزي من محور المقاومة يقضي بتغيير قواعد الاشتباك، أو أنه جاء نتيجة أجواء التوتر التي وُضِعت فيها المنطقة على خلفية انسداد أي أفق للتسوية، فالنتيجة في النهاية واحدة، إن تل أبيب لم تعد خارج مرمى النيران كما كانت منذ أعلن الكيان الصهيوني.

من جهةٍ أخرى لم تقدم الإدارات الأميركية السابقة على مثل ما أقدمت عليه إدارة ترامب حتى في ذروة عهد القوة الأميركية بعد حالة الغيبوبة التي دخلها الاتحاد السوفييتي أواخر الثمانينات، التي انتهت بسقوطه ودخول وريثته روسيا حالةً من الفوضى والتحلل، وما تلى ذلك من انفرادٍ أميركي بإدارة شؤون العالم، رغم أن إسرائيل في ذلك العهد لم تكن تواجه حركات مقاومةٍ شعبيةً من مستوى ما يتمتع به حزب اللـه وحركات المقاومة في غزة اليوم من قوة إعدادٍ ومن ترسانات صاروخية، ولا كانت تل أبيب تواجه تحالفاً متماسكاً معادياً لها، كالممتد اليوم من طهران إلى الضاحية الجنوبية في بيروت مروراً ببغداد ودمشق، ورغم أن الالتزام الأميركي بأمن إسرائيل ومنذ دخلت الولايات المتحدة بنفوذها منطقتنا عقب الحرب العالمية الثانية لم يتغير.

في تلك الحقبة جهدت الولايات المتحدة لتأمين شرعية الكيان الصهيوني من خلال قيادة ما عُرِف بـ«عملية السلام» التي تهدف إلى مقايضة ما تحتله إسرائيل من أراضٍ سورية وفلسطينية ولبنانية مقابل الحصول على شرعية وجودها، وهي شرعيةٌ لا يمكن لأمير قطر أو لملك البحرين أو لملك السعودية أو حاكم الإمارات أن يمنحها لإسرائيل، بل يمكن الحصول عليها فقط ممن يخوض المواجهة المباشرة مع المشروع الصهيوني على الأرض، من فلسطينيين وسوريين ولبنانيين.

لذلك لا يمكن اعتبار قراري ترامب بشأن القدس والجولان دليل صعودٍ في قوة إسرائيل وحليفتها أميركا، ولا دليل ضعف في الجبهة المعادية لها، كما لا يمكن اعتباره دليل التزامٍ أميركي صادقٍ بالمصلحة الإسرائيلية ولو على حساب المصالح الأميركية، كما يحلو لبعض المحللين في عالمنا العربي أن يستنتج، بقدر ما يمكن وضع القرارين في سياق إبراء ذمةٍ يقدمه ترامب لإسرائيل قبل تنفيذ ما وعد به ناخبيه الأميركيين، بإخراج الجيش الأميركي من البؤر الساخنة في الشرق الأوسط، والذي كلف تورط واشنطن فيها 7 تريليونات دولار كما يردد ترامب دائماً، فلو كان الرئيس الأميركي ماضياً في خدمة أمن إسرائيل إلى حد اللامبالاة بالمصالح الأميركية، لكان أنفع لها لو ربط الانسحاب العسكري الأميركي من سورية مثلاً، بانسحاب كلٍّ من إيران وحزب اللـه منها، بدل تبني الخطاب الراديكالي الصهيوني الذي تنتهجه إسرائيل بهدف الحفاظ على صورتها كأهم قوة عسكرية في الشرق الأوسط، وكقاعدة عسكرية قادرة على الحياة بالقوة الصرفة، ومن دون إعطاء أي تنازل لخصومها بل عبر إخضاعهم.

فإذا كان هذا المنطق العنصري المفرط في استعلائه على حقائق التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا، غير صالح خلال حقبة إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الذي ضغط على تل أبيب، لمصلحتها، حتى قبلت بالتنازل عن 99 بالمئة من أرض الجولان، وعلى 70-80 بالمئة من الضفة الغربية وأجزاء من القدس الشرقية، فإنه بالتأكيد لن ينفع بالحفاظ على أمن المستوطنين الصهاينة، في عصر تنامي قدرات حزب الله، وفي الزمن الذي تحقق فيه التواصل الجغرافي بين كلٍّ من إيران وسورية عبر العراق، الذي صار من خلال فصائل الحشد الشعبي عضواً فاعلاً في محور أعداء إسرائيل عملياً في ساحات القتال، وليس نظرياً فقط كما كان زمن نظام صدام حسين.

لكن ترامب فضل ببساطة أن يعطي نتنياهو ما لا يكلفه قرشاً واحداً ولا دماء جندي أميركي واحد، حتى ولو كان ذلك ليس الأفضل لخدمة أمن إسرائيل: التراجع عن الاتفاق النووي مع طهران، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على القدس والجولان، وهو ما لا يستطيع نتنياهو أن يرفضه، لأنه بنى خطابه العنصري الاستكباري أمام ناخبيه على أساس أن إسرائيل قادرة وقوية، لكن المشكلة في أميركا التي تلجمها، بالتالي يظهر ترامب بأعطياته أمام اللوبي الصهيوني كأفضل رئيس قدم لإسرائيل ما لم يقدمه سواه، من دون أن يخلّ بوعده الذي اُنتُخِب على أساسه، وهو التخلص من حروب وأزمات الشرق الأوسط التي استنزفت الاقتصاد الأميركي، وبالنسبة للمنطق الانعزالي الأميركي الذي يمثله ترامب: لتذهب المنطقة، بما فيها إسرائيل، إلى الجحيم بعدها فهذا ليس مهماً.

  • فريق ماسة
  • 2019-04-01
  • 8720
  • من الأرشيف

ترامب: ليذهب الشرق الأوسط إلى الجحيم!

رغم أنهما تفتقدان لأي معنىً قانوني، فإن خطوتي الرئيس الأميركي دونالد ترامب الأخيرتين القاضيتين بالاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على كلٍّ من القدس الشرقية والجولان السوري، دليلٌ قاطع على انسداد كل أفقٍ ممكنٍ للتسويات في المنطقة، ومؤشرٌ مهم إلى أن الصراع دخل طوراً جديداً من التوتر الذي سيبدأ بالتصعيد والتسخين الميداني، ولا يبدو أن أفقه الأخير يمكن أن ينتهي بغير الحرب الشاملة. لا أدل على ذلك من سقوط 3 صواريخ من عيارات كبيرة خلال الأسبوعين الماضيين على تل أبيب، فسواءٌ كان إطلاق تلك الصواريخ نتيجة قرار مركزي من محور المقاومة يقضي بتغيير قواعد الاشتباك، أو أنه جاء نتيجة أجواء التوتر التي وُضِعت فيها المنطقة على خلفية انسداد أي أفق للتسوية، فالنتيجة في النهاية واحدة، إن تل أبيب لم تعد خارج مرمى النيران كما كانت منذ أعلن الكيان الصهيوني. من جهةٍ أخرى لم تقدم الإدارات الأميركية السابقة على مثل ما أقدمت عليه إدارة ترامب حتى في ذروة عهد القوة الأميركية بعد حالة الغيبوبة التي دخلها الاتحاد السوفييتي أواخر الثمانينات، التي انتهت بسقوطه ودخول وريثته روسيا حالةً من الفوضى والتحلل، وما تلى ذلك من انفرادٍ أميركي بإدارة شؤون العالم، رغم أن إسرائيل في ذلك العهد لم تكن تواجه حركات مقاومةٍ شعبيةً من مستوى ما يتمتع به حزب اللـه وحركات المقاومة في غزة اليوم من قوة إعدادٍ ومن ترسانات صاروخية، ولا كانت تل أبيب تواجه تحالفاً متماسكاً معادياً لها، كالممتد اليوم من طهران إلى الضاحية الجنوبية في بيروت مروراً ببغداد ودمشق، ورغم أن الالتزام الأميركي بأمن إسرائيل ومنذ دخلت الولايات المتحدة بنفوذها منطقتنا عقب الحرب العالمية الثانية لم يتغير. في تلك الحقبة جهدت الولايات المتحدة لتأمين شرعية الكيان الصهيوني من خلال قيادة ما عُرِف بـ«عملية السلام» التي تهدف إلى مقايضة ما تحتله إسرائيل من أراضٍ سورية وفلسطينية ولبنانية مقابل الحصول على شرعية وجودها، وهي شرعيةٌ لا يمكن لأمير قطر أو لملك البحرين أو لملك السعودية أو حاكم الإمارات أن يمنحها لإسرائيل، بل يمكن الحصول عليها فقط ممن يخوض المواجهة المباشرة مع المشروع الصهيوني على الأرض، من فلسطينيين وسوريين ولبنانيين. لذلك لا يمكن اعتبار قراري ترامب بشأن القدس والجولان دليل صعودٍ في قوة إسرائيل وحليفتها أميركا، ولا دليل ضعف في الجبهة المعادية لها، كما لا يمكن اعتباره دليل التزامٍ أميركي صادقٍ بالمصلحة الإسرائيلية ولو على حساب المصالح الأميركية، كما يحلو لبعض المحللين في عالمنا العربي أن يستنتج، بقدر ما يمكن وضع القرارين في سياق إبراء ذمةٍ يقدمه ترامب لإسرائيل قبل تنفيذ ما وعد به ناخبيه الأميركيين، بإخراج الجيش الأميركي من البؤر الساخنة في الشرق الأوسط، والذي كلف تورط واشنطن فيها 7 تريليونات دولار كما يردد ترامب دائماً، فلو كان الرئيس الأميركي ماضياً في خدمة أمن إسرائيل إلى حد اللامبالاة بالمصالح الأميركية، لكان أنفع لها لو ربط الانسحاب العسكري الأميركي من سورية مثلاً، بانسحاب كلٍّ من إيران وحزب اللـه منها، بدل تبني الخطاب الراديكالي الصهيوني الذي تنتهجه إسرائيل بهدف الحفاظ على صورتها كأهم قوة عسكرية في الشرق الأوسط، وكقاعدة عسكرية قادرة على الحياة بالقوة الصرفة، ومن دون إعطاء أي تنازل لخصومها بل عبر إخضاعهم. فإذا كان هذا المنطق العنصري المفرط في استعلائه على حقائق التاريخ والجغرافيا والديموغرافيا، غير صالح خلال حقبة إدارة الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون الذي ضغط على تل أبيب، لمصلحتها، حتى قبلت بالتنازل عن 99 بالمئة من أرض الجولان، وعلى 70-80 بالمئة من الضفة الغربية وأجزاء من القدس الشرقية، فإنه بالتأكيد لن ينفع بالحفاظ على أمن المستوطنين الصهاينة، في عصر تنامي قدرات حزب الله، وفي الزمن الذي تحقق فيه التواصل الجغرافي بين كلٍّ من إيران وسورية عبر العراق، الذي صار من خلال فصائل الحشد الشعبي عضواً فاعلاً في محور أعداء إسرائيل عملياً في ساحات القتال، وليس نظرياً فقط كما كان زمن نظام صدام حسين. لكن ترامب فضل ببساطة أن يعطي نتنياهو ما لا يكلفه قرشاً واحداً ولا دماء جندي أميركي واحد، حتى ولو كان ذلك ليس الأفضل لخدمة أمن إسرائيل: التراجع عن الاتفاق النووي مع طهران، والاعتراف بالسيادة الإسرائيلية على القدس والجولان، وهو ما لا يستطيع نتنياهو أن يرفضه، لأنه بنى خطابه العنصري الاستكباري أمام ناخبيه على أساس أن إسرائيل قادرة وقوية، لكن المشكلة في أميركا التي تلجمها، بالتالي يظهر ترامب بأعطياته أمام اللوبي الصهيوني كأفضل رئيس قدم لإسرائيل ما لم يقدمه سواه، من دون أن يخلّ بوعده الذي اُنتُخِب على أساسه، وهو التخلص من حروب وأزمات الشرق الأوسط التي استنزفت الاقتصاد الأميركي، وبالنسبة للمنطق الانعزالي الأميركي الذي يمثله ترامب: لتذهب المنطقة، بما فيها إسرائيل، إلى الجحيم بعدها فهذا ليس مهماً.

المصدر : الماسة السورية/ الوطن


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة