بعض العرب يحبُّون أميركا مهما فعلت بهم، ويعتقدون أنها تحميهم ضد خصومهم وخصوصا إيران. بعضُهم الآخر يكرهونها مهما فعلت ويعتبرون أنهم قادرون على الانتصار عليها بالتحالف مع روسيا وبإضعاف حلفائها في المنطقة. لكن التاريخ الحديث أثبت أن الطرفين يرغبان بخطبِ ودِّها ولا يتعاملان بالتالي مع القوى العالمية الأٌخرى الاّ كسبيل للوصول الى واشنطن.

 

أميركا بالمقابل تحتقر الطرفين، لكنها توظّف أحدهما ضد الآخر لضمان مصالحها الذاتية وأمن "إسرائيل" وحماية مصادر ومعابر الثروة والطاقة. واحتقارها لهما نابع من قناعتها بأن العربَ شعوب متخلفة وأنظمة فاسدة مقابل " الدولة الديمقراطية الوحيدة" في المنطقة أي "إسرائيل".

 

من وجهة نظر المصالح الدولية، يُمكن فهمُ التفكير الأميركي. فالعرب هم بالنسبة للبيت الأبيض إما بقرةٌ حلوب للمال والطاقة، أو مطية لتمرير السياسات الأميركية، أو أعداء يريدون تدمير الحضارات الغربية والحليف الإسرائيلي. ولا بأس بين الحين والآخر من ملاطفة بعضِ صغارِ النفوسِ الذين يزورون السفارات الأميركية مطأطئ الرؤوس، ثم يخرجون قائلين للبسطاء من شعوبهم، إنهم حصلوا على معلومات مُهمة حول تطور الأوضاع ومستقبلها ومآلاتها، فيغرِّرون بهم، كما حصل مثلا حين كانوا ينقلون عن السفارات الغربية قولها ان الرئيس بشار الأسد راحلٌ لا محالة بعد شهر أو شهرين، أو أن اميركا ستضرب إيران (فاذا بهم يفاجؤون بأن واشنطن تحاور طهران)

 

أما من وجهة النظر الاجتماعية والإنسانية، فالشعب الأميركي بشكل عام أكثر لُطفا من الشعوب الأوروبية، وأكثر انفتاحا على الآخر (مع استثناءات طبعا) ذلك أنه من الصعب في المُدن الأميركية الكبرى أن يُميِّز المرء بين من هو أميركي أصيل أو من هاجر وحصل على الجنسية لاحقاً. ولو حصل اختلاط جدي بين الشعب الأميركي وشعوب المنطقة لربما شعر الجانبان بحميمية أكثر من تلك التي تربط مثلا جنوب المتوسط بشماله.

 

وأما من ناحية توازن القوى، فإن أميركا لا تزال الأكثر قوة وسطوة وقدرة على شلِّ خصومها. فهي بقرار واحد تستطيع نقل انسان من مصاف الحرية الى السجن الكبير بمجرد وضعه على لائحة الإرهاب، وبقرار مالي تستطيع شلّ أي مصرف ومنع أي تحويل مالي فتُحدث انهيار عملات وطنية أو تقهقر الاقتصاد، وبقرار سياسي تقدر على تطويق أي دولة مع احتمال إحداث انقلاب فيها أو تغيير. الا ما ندر. ومن صمد وواجه الحصار، عاش شعبه في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة للغاية.

 

ما العمل إذا؟

 

سعى البعض لمحاورة أميركا من موقع القوة. مثالنا على ذلك الصين وكوريا الشمالية وإيران وكوبا وصولا الى سوريا حافظ الأسد. نجح البعض مؤقتا، وتبين للبعض أن المطالب الأميركية أكبر من قدرته على تنفيذها.

 

هذه مثلا د. بثينة شعبان المستشارة السياسية للرئيس الأسد، تقول :" لطالما كان حافظ الأسد يقدر العلاقة مع الولايات المتحدة ويتطلع إليها حتى في أوج العلاقات السورية مع الاتحاد السوفياتي، وحين كان يتحدث إلى وفد أميركي كان يقول لهم: نحن لا نريد منكم تأسيس علاقة معنا تتعارض ومصالح بلادكم، بل نريد أن تأخذوا مصلحة بلادكم في الاعتبار، مصلحة الولايات المتحدة وحدها، وليس مصلحة الآخرين، في إشارة إلى إسرائيل" .

 

كان حافظ الأسد محاوِرا صلبا مع الأميركيين فرض احترامه عليهم، لكنه في الوقت نفسه كان وفق ما كشف شعبان في كتابيها ( ١٠ أعوام مع حافظ الأسد، وحافة الهاوية)، راغبا في نسج علاقة قوية مع واشنطن منذ هنري كيسنجر ونيكسون حتى بيل كلينتون، وطوّر جدا رغبته هذه بعد تفكك حليفه القوي الاتحاد السوفياتي.

 

ثم لو بحثنا بالوضع العائلي لمعظم المسؤولين العرب الذين يكيلون التهم للغرب ليلا نهارا، قد نجد أن الكثير من أبنائهم يدرسون أو يعملون في هذا الغرب وبينه أميركا أو في مصارف ومؤسسات غربية وبينها أميركية، ومنهم من يحمل جنسيات غربية ويخفيها جدا في ثيابه.

 

الواقع أن الانتصار على أميركا وهم. فهي لا تزال القوة العسكرية والاقتصادية الأكبر في العالم. والاعتماد فقط على روسيا والصين هو وهمٌ آخر ذلك أن للبلدين أيضا مصالح تتناقض في بعض جوانبها مع المصلحة العربية. ( انظروا مثلا الى حجم الاستثمارات والتعاون بين بكين و"إسرائيل"، أو الى عمق العلاقة بين موسكو وإسرائيل رغم بعض المشاكل الآنية).

 

لكن الانبطاح الكامل أمام أميركا انتحار. فحين تناقضت مصالحها مع مصالح أبرز حلفائها في المنطقة تركتهم يسقطون كأوراق الخريف من مصر الى تونس فاليمن. وحين فتحت باب التفاوض الكبير مع إيران كادت تهجر كل حلفائها في المنطقة، ما دفع البعض الى الحديث عن العودة الى زمن الشاه.

 

اليوم أميركا تفاوض كوريا الشمالية بعمق. هذا لا يمكن نجاحه بلا الصين. وكوريا الشمالية كانت في محور الشر الأميركي والدولة الأكثر خطرا عليها نوويا، فما الذي يمنع عودة المفاوضات الايرانية الأميركية على غرار ما هو حاصل بين العدوين السابقين؟ لا شيء.

 

الحل اذا هو ( ولو كان في الأمر معجزة حاليا) أن يقرر العرب الاتفاق أولا في ما بينهم ليستعيدوا شيئا من قوتهم وكرامتهم ، وأن يتحاوروا مع القوى العالمية دون تفضيل واحدة على الأخرى، وان ينطلقوا من مصالحهم لا من رغباتهم. فحين يجتمعون على كلمة واحدة ( رغم أن في الأمر استحالة حاليا للأسف) يحترمهم العالم ويفاوضهم كشركاء لا كأتباع. ولو اجتمعوا لاستطاعوا تقديم خيار على آخر، كأن يقتربوا مثلا من روسيا أو أميركا وفق مصالحهم. ودهم اجتماعهم والاتفاق على مصالحهم المشتركة يدفع اليهم القوى الكبرى للنظر اليهم بعين الاحترام، وللتفكير مليون مرة قبل ان تأتي جهارا لسلب مالهم، او لتدمير دولهم أو لنقل السفارة من تل أبيب الى القدس.

 

يجب أن نتصالح مع أنفسنا أولا، فأميركا تعمل مصلحتها قبل كل شيء، وهي مُحقّة بالدفاع عن مصالحها. وكذلك تفعل روسيا والصين وغيرها، فمتى نفكر بمصالحنا المشتركة، بدلا من التدمير الذاتي المشترك؟..

 

إن من يجاهر بالعداء لأميركا حاليا، ليس لديه سوى طموح واحد، هو ... الاتفاق معها لاحقا.

  • فريق ماسة
  • 2019-02-02
  • 13524
  • من الأرشيف

بالمنطق لا بالرغبات... أميركا التي تحبُّونها سِرّاً وتكرهونها علناً

بعض العرب يحبُّون أميركا مهما فعلت بهم، ويعتقدون أنها تحميهم ضد خصومهم وخصوصا إيران. بعضُهم الآخر يكرهونها مهما فعلت ويعتبرون أنهم قادرون على الانتصار عليها بالتحالف مع روسيا وبإضعاف حلفائها في المنطقة. لكن التاريخ الحديث أثبت أن الطرفين يرغبان بخطبِ ودِّها ولا يتعاملان بالتالي مع القوى العالمية الأٌخرى الاّ كسبيل للوصول الى واشنطن.   أميركا بالمقابل تحتقر الطرفين، لكنها توظّف أحدهما ضد الآخر لضمان مصالحها الذاتية وأمن "إسرائيل" وحماية مصادر ومعابر الثروة والطاقة. واحتقارها لهما نابع من قناعتها بأن العربَ شعوب متخلفة وأنظمة فاسدة مقابل " الدولة الديمقراطية الوحيدة" في المنطقة أي "إسرائيل".   من وجهة نظر المصالح الدولية، يُمكن فهمُ التفكير الأميركي. فالعرب هم بالنسبة للبيت الأبيض إما بقرةٌ حلوب للمال والطاقة، أو مطية لتمرير السياسات الأميركية، أو أعداء يريدون تدمير الحضارات الغربية والحليف الإسرائيلي. ولا بأس بين الحين والآخر من ملاطفة بعضِ صغارِ النفوسِ الذين يزورون السفارات الأميركية مطأطئ الرؤوس، ثم يخرجون قائلين للبسطاء من شعوبهم، إنهم حصلوا على معلومات مُهمة حول تطور الأوضاع ومستقبلها ومآلاتها، فيغرِّرون بهم، كما حصل مثلا حين كانوا ينقلون عن السفارات الغربية قولها ان الرئيس بشار الأسد راحلٌ لا محالة بعد شهر أو شهرين، أو أن اميركا ستضرب إيران (فاذا بهم يفاجؤون بأن واشنطن تحاور طهران)   أما من وجهة النظر الاجتماعية والإنسانية، فالشعب الأميركي بشكل عام أكثر لُطفا من الشعوب الأوروبية، وأكثر انفتاحا على الآخر (مع استثناءات طبعا) ذلك أنه من الصعب في المُدن الأميركية الكبرى أن يُميِّز المرء بين من هو أميركي أصيل أو من هاجر وحصل على الجنسية لاحقاً. ولو حصل اختلاط جدي بين الشعب الأميركي وشعوب المنطقة لربما شعر الجانبان بحميمية أكثر من تلك التي تربط مثلا جنوب المتوسط بشماله.   وأما من ناحية توازن القوى، فإن أميركا لا تزال الأكثر قوة وسطوة وقدرة على شلِّ خصومها. فهي بقرار واحد تستطيع نقل انسان من مصاف الحرية الى السجن الكبير بمجرد وضعه على لائحة الإرهاب، وبقرار مالي تستطيع شلّ أي مصرف ومنع أي تحويل مالي فتُحدث انهيار عملات وطنية أو تقهقر الاقتصاد، وبقرار سياسي تقدر على تطويق أي دولة مع احتمال إحداث انقلاب فيها أو تغيير. الا ما ندر. ومن صمد وواجه الحصار، عاش شعبه في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة للغاية.   ما العمل إذا؟   سعى البعض لمحاورة أميركا من موقع القوة. مثالنا على ذلك الصين وكوريا الشمالية وإيران وكوبا وصولا الى سوريا حافظ الأسد. نجح البعض مؤقتا، وتبين للبعض أن المطالب الأميركية أكبر من قدرته على تنفيذها.   هذه مثلا د. بثينة شعبان المستشارة السياسية للرئيس الأسد، تقول :" لطالما كان حافظ الأسد يقدر العلاقة مع الولايات المتحدة ويتطلع إليها حتى في أوج العلاقات السورية مع الاتحاد السوفياتي، وحين كان يتحدث إلى وفد أميركي كان يقول لهم: نحن لا نريد منكم تأسيس علاقة معنا تتعارض ومصالح بلادكم، بل نريد أن تأخذوا مصلحة بلادكم في الاعتبار، مصلحة الولايات المتحدة وحدها، وليس مصلحة الآخرين، في إشارة إلى إسرائيل" .   كان حافظ الأسد محاوِرا صلبا مع الأميركيين فرض احترامه عليهم، لكنه في الوقت نفسه كان وفق ما كشف شعبان في كتابيها ( ١٠ أعوام مع حافظ الأسد، وحافة الهاوية)، راغبا في نسج علاقة قوية مع واشنطن منذ هنري كيسنجر ونيكسون حتى بيل كلينتون، وطوّر جدا رغبته هذه بعد تفكك حليفه القوي الاتحاد السوفياتي.   ثم لو بحثنا بالوضع العائلي لمعظم المسؤولين العرب الذين يكيلون التهم للغرب ليلا نهارا، قد نجد أن الكثير من أبنائهم يدرسون أو يعملون في هذا الغرب وبينه أميركا أو في مصارف ومؤسسات غربية وبينها أميركية، ومنهم من يحمل جنسيات غربية ويخفيها جدا في ثيابه.   الواقع أن الانتصار على أميركا وهم. فهي لا تزال القوة العسكرية والاقتصادية الأكبر في العالم. والاعتماد فقط على روسيا والصين هو وهمٌ آخر ذلك أن للبلدين أيضا مصالح تتناقض في بعض جوانبها مع المصلحة العربية. ( انظروا مثلا الى حجم الاستثمارات والتعاون بين بكين و"إسرائيل"، أو الى عمق العلاقة بين موسكو وإسرائيل رغم بعض المشاكل الآنية).   لكن الانبطاح الكامل أمام أميركا انتحار. فحين تناقضت مصالحها مع مصالح أبرز حلفائها في المنطقة تركتهم يسقطون كأوراق الخريف من مصر الى تونس فاليمن. وحين فتحت باب التفاوض الكبير مع إيران كادت تهجر كل حلفائها في المنطقة، ما دفع البعض الى الحديث عن العودة الى زمن الشاه.   اليوم أميركا تفاوض كوريا الشمالية بعمق. هذا لا يمكن نجاحه بلا الصين. وكوريا الشمالية كانت في محور الشر الأميركي والدولة الأكثر خطرا عليها نوويا، فما الذي يمنع عودة المفاوضات الايرانية الأميركية على غرار ما هو حاصل بين العدوين السابقين؟ لا شيء.   الحل اذا هو ( ولو كان في الأمر معجزة حاليا) أن يقرر العرب الاتفاق أولا في ما بينهم ليستعيدوا شيئا من قوتهم وكرامتهم ، وأن يتحاوروا مع القوى العالمية دون تفضيل واحدة على الأخرى، وان ينطلقوا من مصالحهم لا من رغباتهم. فحين يجتمعون على كلمة واحدة ( رغم أن في الأمر استحالة حاليا للأسف) يحترمهم العالم ويفاوضهم كشركاء لا كأتباع. ولو اجتمعوا لاستطاعوا تقديم خيار على آخر، كأن يقتربوا مثلا من روسيا أو أميركا وفق مصالحهم. ودهم اجتماعهم والاتفاق على مصالحهم المشتركة يدفع اليهم القوى الكبرى للنظر اليهم بعين الاحترام، وللتفكير مليون مرة قبل ان تأتي جهارا لسلب مالهم، او لتدمير دولهم أو لنقل السفارة من تل أبيب الى القدس.   يجب أن نتصالح مع أنفسنا أولا، فأميركا تعمل مصلحتها قبل كل شيء، وهي مُحقّة بالدفاع عن مصالحها. وكذلك تفعل روسيا والصين وغيرها، فمتى نفكر بمصالحنا المشتركة، بدلا من التدمير الذاتي المشترك؟..   إن من يجاهر بالعداء لأميركا حاليا، ليس لديه سوى طموح واحد، هو ... الاتفاق معها لاحقا.

المصدر : سامي كليب


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة