أخشى كثيرا ان يستدرجني احد الى مديحه بالكلام .. وانا أرى أن هذا النوع من الكلام لاينتمي الى اللغة كوسيلة تعبير بل الى نمط لغوي لايضر ولاينفع عندما تكون الغاية منه التكسب والتقرب .. ولاأزال لوم كل شعراء وادباء العرب على انهم أضاعوا وقتنا ووقتهم في أدب المديح المأجور .. وربما كان المديح الأدبي لونا تختص به ثقافتنا لأنني لم اقرأ مايشبهه في أدب العالم .. ولاأبالغ ان قلت أنه أدب خطر لأنه وسيلة المنافقين والمؤلفة قلوبهم والفاسدين ..

 

ولكنني في الحرب السورية عرفت ان المديح هو أجمل مافي اللغة عندما يمنح لمن يستحقه دون ان يتحول الى كلام للبيع والشراء .. بل هو مكافأة للغة عندما تقترن بالممدوح الذي يستحقها .. لأنني في الحرب رأيت مشاهد حيرتني وجعلت قلمي كما الأمّي لايعرف من أين يبدأ الكلام وأحرف الهجاء .. رأيت مشاهد يحتاج الواحد منها الى ألف متنبي كي يكتب فيها الشعر والفخر .. ورأيت أبطالا يرحلون دون قصائد ودون بيانات ودون ان ينتظروها او يلقوا لها بالا .. ولكنهم كانوا يغادرون بكبرياء وعنفوان فتستحي اللغة من أن تتخلف عن الانحناء لهم أو أن تسير الى جانبهم دون ان ترفعهم على غماماتها .. وأن تقتفي اثرهم وان تتمسح بثيابهم .. انهم ابطال رحلوا دون ضجيج المديح والتفخيم .. لكنهم جعلوني اخجل ان لم أذبح كلماتي كالقرابين لهم ..

 

وقد انعكس هذا على كتاباتي فبات زهدي واضحا في ان ألتفت الى الشخصيات الروتينية التي تظهر لنا في كل المناسبات او عبر التعيينات الحكومية والوزارية والتغييرات الادارية التي لم اعرها بالا وكنت أكتفي بقراءة أخبارها ونشاطاتها دون اي انفعال .. لكنني اختصصت دوما الوطنيين السوريين الذين لفتت نظري فدائيتهم واخلاصهم وتفانيهم من أجل الناس ومن أجل وطنهم .. وكنت لاأتردد في الاطراء والثناء عليهم ..

 

خبر واحد قرأته منذ ايام عن أحد أطباء الجيش السوري الذي تم تعيينه مديرا لمشفى تشرين العسكري جعلني أتوقف وأتأمل الخبر وأرغب في أن أعلق على خبر تكليفه بمهامه .. وكان تعليقي فقط هو: انها بداية رجل شجاع ..

 

الدكتور العميد مفيد درويش الذي تم تعيينه مديرا للمشفى جعلني احس ان هناك من كان موفقا كثيرا في ترشيح هذا الاسم لهذا المكان لانني أذكر انني سمعت من زملائه في ذروة الحرب ان هذا الطبيب وجراح العظام القدير لم يغادر المشفى وبقي مع عائلته في سكن المشفى رغم انه كان يملك امكانية ان يسكن هو واسرته خارجها .. ولكن ضغط الحرب والاصابات والجراح جعلته مضطرا لأن يبقى قريبا من العسكريين والمصابين وزملائه .. وجعلته يرفض ان يرسل عائلته الى مكان أكثر أمنا لان مشفى تشرين كان أمام فك التمساح الارهابي المسمى بجيش الاسلام والذي كان يتسلى بقصف المشفى كل يوم وكل ليلة ومحاولات اقتحامه ..

 

وكنت كلما سألت عن العميد الطبيب فوجئت انه في احدى غرف العمليات او الجولات الطبية في المشفى حتى ساعات متأخرة من الليل .. والأكثر من ذلك انني علمت في احد الايام ان قذيفة سقطت في بيته في المشفى واخترقت غرفة الجلوس .. ودمرتها .. وفي اليوم التالي شوهد هذا الطبيب يقوم بجولته العادية الصباحية وكأن شيئا لم يكن .. ولم يصنع من الأمر حكاية ورواية واستعراضا أو طلب نقله الى سكن آخر أو قام بنقل عائلته .. لأنه كان مؤمنا ان مجرد هروبه بعائلته تعني بكل بساطة انه لايستطيع ان يطلب من الجنود الذبن يعالجهم ان يثبتوا في الميدان .. ولا يقدر ان يطلب من الأطباء والعاملين معه أن يتحلوا بالشجاعة والهدوء .. وكانت رسالته لهم واضحة وهي اننا جميعا يد واحدة .. وقلب واحد .. ومصير واحد ..

 

لاأريد ان أضيف الكثير لكنني أريد تهتئة هذا البطل الصامت والمتواضع على الثقة به .. أهنئه وقلبي عليه لأن المهمة الآن ستكون أقسى .. فهو ليس أمام فك التمساح الارهابي وجها لوجه .. بل أمام تماسيح الروتين والبيروقراطية والفساد .. ومع هذا فان يقيني يحعلني مطمئنا أكثر الآن لأن وصول هذا الطبيب الحازم والصارم في عمله الى هذا المكان يعني ان حلقات الفساد والمحسوبية بدات قبضتها ترتخي في بعض المؤسسات الحكومية وصار من يستحق المهمات الصعبة يوضع في المكان المناسب والمهمة المناسبة .. وأن عمليات التحسين الاداري جدية وانطلقت .. وهناك ضباط كثيرون ومواطنون وموظفون كثر أبطال عملوا بصمت وأعطوا بلانهاية .. ويجب ان يتم حقن مفاصل المؤسسات الحكومية بأمثال هؤلاء لأنه تعزيز للعمل الاداري وللثقة بين الناس والدولة .. وهو تكريم لهم وتكريم لتلك المؤسسات التي لايجب ان يدخلها الوصوليون أو قليلو الكفاءة والوطنية ..

 

وبالنسبة لي اقول له من جديد: أيها الجندي الصامت .. انها بداية رجل شجاع .. وانا متفائل جدا بما ستقدمه من خدمات للعسكريين والجرحى .. فهم أمانه ثقيلة في يد أمينة الآن .. واستطيع ان أنام ملء جفوني وأطمئن على كل جرح وكل اصابة وكل ألم يصيب العسكريين انهم في عناية هذا الرجل .. الذي أحترمه جدا .. وأقدره جدا .. وأحبه جدا .. واثق به جدا .. بالتوفيق ايها المتواضع الشجاع

  • فريق ماسة
  • 2019-01-09
  • 10963
  • من الأرشيف

بداية رجل شجاع .. علامة من علائم التعافي المؤسساتي

  أخشى كثيرا ان يستدرجني احد الى مديحه بالكلام .. وانا أرى أن هذا النوع من الكلام لاينتمي الى اللغة كوسيلة تعبير بل الى نمط لغوي لايضر ولاينفع عندما تكون الغاية منه التكسب والتقرب .. ولاأزال لوم كل شعراء وادباء العرب على انهم أضاعوا وقتنا ووقتهم في أدب المديح المأجور .. وربما كان المديح الأدبي لونا تختص به ثقافتنا لأنني لم اقرأ مايشبهه في أدب العالم .. ولاأبالغ ان قلت أنه أدب خطر لأنه وسيلة المنافقين والمؤلفة قلوبهم والفاسدين ..   ولكنني في الحرب السورية عرفت ان المديح هو أجمل مافي اللغة عندما يمنح لمن يستحقه دون ان يتحول الى كلام للبيع والشراء .. بل هو مكافأة للغة عندما تقترن بالممدوح الذي يستحقها .. لأنني في الحرب رأيت مشاهد حيرتني وجعلت قلمي كما الأمّي لايعرف من أين يبدأ الكلام وأحرف الهجاء .. رأيت مشاهد يحتاج الواحد منها الى ألف متنبي كي يكتب فيها الشعر والفخر .. ورأيت أبطالا يرحلون دون قصائد ودون بيانات ودون ان ينتظروها او يلقوا لها بالا .. ولكنهم كانوا يغادرون بكبرياء وعنفوان فتستحي اللغة من أن تتخلف عن الانحناء لهم أو أن تسير الى جانبهم دون ان ترفعهم على غماماتها .. وأن تقتفي اثرهم وان تتمسح بثيابهم .. انهم ابطال رحلوا دون ضجيج المديح والتفخيم .. لكنهم جعلوني اخجل ان لم أذبح كلماتي كالقرابين لهم ..   وقد انعكس هذا على كتاباتي فبات زهدي واضحا في ان ألتفت الى الشخصيات الروتينية التي تظهر لنا في كل المناسبات او عبر التعيينات الحكومية والوزارية والتغييرات الادارية التي لم اعرها بالا وكنت أكتفي بقراءة أخبارها ونشاطاتها دون اي انفعال .. لكنني اختصصت دوما الوطنيين السوريين الذين لفتت نظري فدائيتهم واخلاصهم وتفانيهم من أجل الناس ومن أجل وطنهم .. وكنت لاأتردد في الاطراء والثناء عليهم ..   خبر واحد قرأته منذ ايام عن أحد أطباء الجيش السوري الذي تم تعيينه مديرا لمشفى تشرين العسكري جعلني أتوقف وأتأمل الخبر وأرغب في أن أعلق على خبر تكليفه بمهامه .. وكان تعليقي فقط هو: انها بداية رجل شجاع ..   الدكتور العميد مفيد درويش الذي تم تعيينه مديرا للمشفى جعلني احس ان هناك من كان موفقا كثيرا في ترشيح هذا الاسم لهذا المكان لانني أذكر انني سمعت من زملائه في ذروة الحرب ان هذا الطبيب وجراح العظام القدير لم يغادر المشفى وبقي مع عائلته في سكن المشفى رغم انه كان يملك امكانية ان يسكن هو واسرته خارجها .. ولكن ضغط الحرب والاصابات والجراح جعلته مضطرا لأن يبقى قريبا من العسكريين والمصابين وزملائه .. وجعلته يرفض ان يرسل عائلته الى مكان أكثر أمنا لان مشفى تشرين كان أمام فك التمساح الارهابي المسمى بجيش الاسلام والذي كان يتسلى بقصف المشفى كل يوم وكل ليلة ومحاولات اقتحامه ..   وكنت كلما سألت عن العميد الطبيب فوجئت انه في احدى غرف العمليات او الجولات الطبية في المشفى حتى ساعات متأخرة من الليل .. والأكثر من ذلك انني علمت في احد الايام ان قذيفة سقطت في بيته في المشفى واخترقت غرفة الجلوس .. ودمرتها .. وفي اليوم التالي شوهد هذا الطبيب يقوم بجولته العادية الصباحية وكأن شيئا لم يكن .. ولم يصنع من الأمر حكاية ورواية واستعراضا أو طلب نقله الى سكن آخر أو قام بنقل عائلته .. لأنه كان مؤمنا ان مجرد هروبه بعائلته تعني بكل بساطة انه لايستطيع ان يطلب من الجنود الذبن يعالجهم ان يثبتوا في الميدان .. ولا يقدر ان يطلب من الأطباء والعاملين معه أن يتحلوا بالشجاعة والهدوء .. وكانت رسالته لهم واضحة وهي اننا جميعا يد واحدة .. وقلب واحد .. ومصير واحد ..   لاأريد ان أضيف الكثير لكنني أريد تهتئة هذا البطل الصامت والمتواضع على الثقة به .. أهنئه وقلبي عليه لأن المهمة الآن ستكون أقسى .. فهو ليس أمام فك التمساح الارهابي وجها لوجه .. بل أمام تماسيح الروتين والبيروقراطية والفساد .. ومع هذا فان يقيني يحعلني مطمئنا أكثر الآن لأن وصول هذا الطبيب الحازم والصارم في عمله الى هذا المكان يعني ان حلقات الفساد والمحسوبية بدات قبضتها ترتخي في بعض المؤسسات الحكومية وصار من يستحق المهمات الصعبة يوضع في المكان المناسب والمهمة المناسبة .. وأن عمليات التحسين الاداري جدية وانطلقت .. وهناك ضباط كثيرون ومواطنون وموظفون كثر أبطال عملوا بصمت وأعطوا بلانهاية .. ويجب ان يتم حقن مفاصل المؤسسات الحكومية بأمثال هؤلاء لأنه تعزيز للعمل الاداري وللثقة بين الناس والدولة .. وهو تكريم لهم وتكريم لتلك المؤسسات التي لايجب ان يدخلها الوصوليون أو قليلو الكفاءة والوطنية ..   وبالنسبة لي اقول له من جديد: أيها الجندي الصامت .. انها بداية رجل شجاع .. وانا متفائل جدا بما ستقدمه من خدمات للعسكريين والجرحى .. فهم أمانه ثقيلة في يد أمينة الآن .. واستطيع ان أنام ملء جفوني وأطمئن على كل جرح وكل اصابة وكل ألم يصيب العسكريين انهم في عناية هذا الرجل .. الذي أحترمه جدا .. وأقدره جدا .. وأحبه جدا .. واثق به جدا .. بالتوفيق ايها المتواضع الشجاع

المصدر : نارام سرجون


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة