مؤخراً بات ملف التنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط محور صراع جديد يتصدّر المشھد السياسي الحالي، ومصدرا لتوترات ونزاعات وحروب أكثر خطورة من حروب المياه التي كانت متوقعة في المنطقة منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، والتي تراجعت أمام حروب اكتشافات الغاز والنفط.. ما أدى الى تداعيات جيوسياسية جديدة، وعملية اصطفاف جديدة للقوى الإقليمية والدولية، ترافقت مع مزيد من التوتر فيھا، خصوصا بسبب الغياب الكامل للحدود البحرية بين الكثير من ھذه الدول التي لم ترسم بعد، وبسبب وجود الغاز والبترول على عمق واحد في شرق المتوسط، وفي حوضِ واحد يمتد بين مصر وفلسطين المحتلة ولبنان وسوريا وتركيا واليونان وقبرص، ولذلك فإن من يبدأ بالاستخراج أولا يكون بإمكانه أن يستخرج حصته وحصص الدول المجاورة من ھذا الحوض، وھو ما باشرت به "إسرائيل" منذ أعوام بخلاف دول المنطقة الأخرى المنشغلة بصراعاتھا ومشاكلھا الداخلية.

تداخل الحدود البحرية خلّف صراعا خفيا وتسابقا للفوز بالغاز في البحر المتوسط، خصوصا بين ثلاث قوى رئيسية مصر وتركيا و"إسرائيل":

تركيا لم تدخل رسميا بعد مجال إنتاج النفط والغاز، ولم توفق في تكوين أي تحالف في شرق المتوسط، نظرا للتوتر القائم بينھا وبين قبرص في الجزء الشمالي منھا، والذي احتلته تركيا في سبعينات القرن الماضي وترفض الاعتراف بأحقية قبرص في المنطقة الاقتصادية الخاصة بھا.. وتكمن مصالح تركيا بالحصول على مصدر جديد للطاقة باعتبارھا الأكثر استيرادا للغاز في المنطقة، وبإمرار خط أنابيب عبر أراضيھا إلى أوروبا، خصوصا أن تسييل الغاز لنقله عبر البواخر مكلف نسبيا في ظل تھاوي أسعار النفط العالمية، بينما تمديد أنابيب من فلسطين مرورا بقبرص ومنھا إلى تركيا وصولا إلى أوروبا يبقى الأجدى اقتصاديا، وھو أقل كلفة من أنبوب غاز قد يمتد من فلسطين مرورا بقبرص واليونان، وصولا إلى أوروبا.

"إسرائيل" التي تماطل في ترسيم الحدود البحرية مع لبنان وسوريا والفلسطينيين، تسعى الى أن تصبح "إمبراطورية غاز" مصدرة للغاز لكل دول العالم، والتحرر من تبعيتھا نفطيا لدول أخرى، خصوصا أن النفط في أغلبيته في يد العرب، لذلك تحاول إيجاد مصادر بديلة.

ومؤخرا، يدور نزاع بين لبنان و"إسرائيل" عقب إعلان لبنان عن الاستثمار النفطي في المنطقة البحرية البلوك رقم-9، ويعود أساس الصراع الى العام 2007، حيث تم التوصل الى تحديد النقطة المتساوية الأبعاد ما بين قبرص ولبنان وفلسطين المحتلة والتي عرفت بالنقطة 23، في مكان يعلو 10 أميال شمال النقطة المحددة في القانون الدولي والموجب اعتمادھا.. كل ذلك سمح لـ"إسرائيل" وعبر سياسة القضم المنظمة، باقتناص الفرصة خلال مفاوضاتھا مع الجانب القبرصي الذي أھداھا ترسيما للحدود يثبت النقطة 23 في مكانھا ويحرم لبنان من مساحة 860 كلم 2 من مياھه الإقليمية، مساحة يتوقع أن تحتوي على مكامن نفطية وازنة وتسمح لـ"تل أبيب" بالاستثمار فيھا دون أن تضطر الى تقاسمھا مع لبنان.

وأمام عدم قدرة الجانبين على القيام بمباحثات ثنائية لوجودھما في حالة حرب، وعدم القدرة على مقاضاة كيان العدو لھذا الخرق لعدم توقيعه على اتفاق قانون البحار الدولي، اعتبرت الأمم المتحدة أن مساحة ال 860 كلم 2 ھي منطقة متنازع عليھا بين لبنان و"إسرائيل"، ولا يمكنھا المساھمة في ترسيم الحدود إلا بموافقة الطرفين، الأمر الذي رفضته "تل ابيب"، فيما أصرّ لبنان على الترسيم المرسل الى الأمم المتحدة الذي يراعي الاتفاقات الدولية ويؤكد على حقه في استثمار ثرواته.

أما مصر فقد عززت موقعھا بصفتھا مركزا إقليميا للطاقة بعد اكتشافھا الغاز في حقل "ظھر" الأكبر في المتوسط باحتياطات غاز ضخمة 30 تريليون قدم مربع، والذي تحول إلى وجھة جديدة مھمة لصراع شركات الطاقة العالمية. علما أنھا وقّعت اتفاقية مبدئية مع قبرص لمد خط أنابيب يمتد بين البلدين، كما أنھا وقعت اتفاقية استيراد الغاز من "إسرائيل" بھدف إعادة تشغيل محطتين لتسييل الغاز، وتحويل البلاد إلى مركز إقليمي للطاقة.

 

كل ھذه المعطيات أقلقت تركيا، والرئيس رجب طيب إردوغان نقل الأزمة من مرحلة التوتر مع القاھرة إلى التھديدات المباشرة، ضد اليونان وقبرص، باستخدام التدخل العسكري ضدھما في بحر إيجة والبحر المتوسط.

من الواضح أن اكتشاف الثروات الجديدة سيترافق مع بروز خريطة من التنافس والصراع على منطقة شرق المتوسط لأنھا مركز الثقل العالمي الجديد لإنتاج وتصدير الغاز الأقل كلفة وإضرارا بالبيئة، ولعل ھذه المتغيرات تقدم تفسيرا للتنافس المحموم بين القوى العالمية والإقليمية حول سوريا.. فمن يضع اليوم قدما في سوريا يسعى لأن يحصل غدا على قسيمة اشتراك في ثروة شرق المتوسط، حين تضع الحرب أوزارھا وتنطلق الشركات العالمية الكبرى للتنقيب عن الغاز والنفط قبالة سوريا، وتأمين خطوط النقل إلى دولھا، للحفاظ على حصة من الموارد والمكتسبات في حال التوصل إلى صيغة حلول أو تسويات للقضايا والملفات الشائكة

  • فريق ماسة
  • 2018-03-19
  • 10687
  • من الأرشيف

حروب الطاقة في المتوسط

مؤخراً بات ملف التنقيب عن الغاز في شرق البحر المتوسط محور صراع جديد يتصدّر المشھد السياسي الحالي، ومصدرا لتوترات ونزاعات وحروب أكثر خطورة من حروب المياه التي كانت متوقعة في المنطقة منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن، والتي تراجعت أمام حروب اكتشافات الغاز والنفط.. ما أدى الى تداعيات جيوسياسية جديدة، وعملية اصطفاف جديدة للقوى الإقليمية والدولية، ترافقت مع مزيد من التوتر فيھا، خصوصا بسبب الغياب الكامل للحدود البحرية بين الكثير من ھذه الدول التي لم ترسم بعد، وبسبب وجود الغاز والبترول على عمق واحد في شرق المتوسط، وفي حوضِ واحد يمتد بين مصر وفلسطين المحتلة ولبنان وسوريا وتركيا واليونان وقبرص، ولذلك فإن من يبدأ بالاستخراج أولا يكون بإمكانه أن يستخرج حصته وحصص الدول المجاورة من ھذا الحوض، وھو ما باشرت به "إسرائيل" منذ أعوام بخلاف دول المنطقة الأخرى المنشغلة بصراعاتھا ومشاكلھا الداخلية. تداخل الحدود البحرية خلّف صراعا خفيا وتسابقا للفوز بالغاز في البحر المتوسط، خصوصا بين ثلاث قوى رئيسية مصر وتركيا و"إسرائيل": تركيا لم تدخل رسميا بعد مجال إنتاج النفط والغاز، ولم توفق في تكوين أي تحالف في شرق المتوسط، نظرا للتوتر القائم بينھا وبين قبرص في الجزء الشمالي منھا، والذي احتلته تركيا في سبعينات القرن الماضي وترفض الاعتراف بأحقية قبرص في المنطقة الاقتصادية الخاصة بھا.. وتكمن مصالح تركيا بالحصول على مصدر جديد للطاقة باعتبارھا الأكثر استيرادا للغاز في المنطقة، وبإمرار خط أنابيب عبر أراضيھا إلى أوروبا، خصوصا أن تسييل الغاز لنقله عبر البواخر مكلف نسبيا في ظل تھاوي أسعار النفط العالمية، بينما تمديد أنابيب من فلسطين مرورا بقبرص ومنھا إلى تركيا وصولا إلى أوروبا يبقى الأجدى اقتصاديا، وھو أقل كلفة من أنبوب غاز قد يمتد من فلسطين مرورا بقبرص واليونان، وصولا إلى أوروبا. "إسرائيل" التي تماطل في ترسيم الحدود البحرية مع لبنان وسوريا والفلسطينيين، تسعى الى أن تصبح "إمبراطورية غاز" مصدرة للغاز لكل دول العالم، والتحرر من تبعيتھا نفطيا لدول أخرى، خصوصا أن النفط في أغلبيته في يد العرب، لذلك تحاول إيجاد مصادر بديلة. ومؤخرا، يدور نزاع بين لبنان و"إسرائيل" عقب إعلان لبنان عن الاستثمار النفطي في المنطقة البحرية البلوك رقم-9، ويعود أساس الصراع الى العام 2007، حيث تم التوصل الى تحديد النقطة المتساوية الأبعاد ما بين قبرص ولبنان وفلسطين المحتلة والتي عرفت بالنقطة 23، في مكان يعلو 10 أميال شمال النقطة المحددة في القانون الدولي والموجب اعتمادھا.. كل ذلك سمح لـ"إسرائيل" وعبر سياسة القضم المنظمة، باقتناص الفرصة خلال مفاوضاتھا مع الجانب القبرصي الذي أھداھا ترسيما للحدود يثبت النقطة 23 في مكانھا ويحرم لبنان من مساحة 860 كلم 2 من مياھه الإقليمية، مساحة يتوقع أن تحتوي على مكامن نفطية وازنة وتسمح لـ"تل أبيب" بالاستثمار فيھا دون أن تضطر الى تقاسمھا مع لبنان. وأمام عدم قدرة الجانبين على القيام بمباحثات ثنائية لوجودھما في حالة حرب، وعدم القدرة على مقاضاة كيان العدو لھذا الخرق لعدم توقيعه على اتفاق قانون البحار الدولي، اعتبرت الأمم المتحدة أن مساحة ال 860 كلم 2 ھي منطقة متنازع عليھا بين لبنان و"إسرائيل"، ولا يمكنھا المساھمة في ترسيم الحدود إلا بموافقة الطرفين، الأمر الذي رفضته "تل ابيب"، فيما أصرّ لبنان على الترسيم المرسل الى الأمم المتحدة الذي يراعي الاتفاقات الدولية ويؤكد على حقه في استثمار ثرواته. أما مصر فقد عززت موقعھا بصفتھا مركزا إقليميا للطاقة بعد اكتشافھا الغاز في حقل "ظھر" الأكبر في المتوسط باحتياطات غاز ضخمة 30 تريليون قدم مربع، والذي تحول إلى وجھة جديدة مھمة لصراع شركات الطاقة العالمية. علما أنھا وقّعت اتفاقية مبدئية مع قبرص لمد خط أنابيب يمتد بين البلدين، كما أنھا وقعت اتفاقية استيراد الغاز من "إسرائيل" بھدف إعادة تشغيل محطتين لتسييل الغاز، وتحويل البلاد إلى مركز إقليمي للطاقة.   كل ھذه المعطيات أقلقت تركيا، والرئيس رجب طيب إردوغان نقل الأزمة من مرحلة التوتر مع القاھرة إلى التھديدات المباشرة، ضد اليونان وقبرص، باستخدام التدخل العسكري ضدھما في بحر إيجة والبحر المتوسط. من الواضح أن اكتشاف الثروات الجديدة سيترافق مع بروز خريطة من التنافس والصراع على منطقة شرق المتوسط لأنھا مركز الثقل العالمي الجديد لإنتاج وتصدير الغاز الأقل كلفة وإضرارا بالبيئة، ولعل ھذه المتغيرات تقدم تفسيرا للتنافس المحموم بين القوى العالمية والإقليمية حول سوريا.. فمن يضع اليوم قدما في سوريا يسعى لأن يحصل غدا على قسيمة اشتراك في ثروة شرق المتوسط، حين تضع الحرب أوزارھا وتنطلق الشركات العالمية الكبرى للتنقيب عن الغاز والنفط قبالة سوريا، وتأمين خطوط النقل إلى دولھا، للحفاظ على حصة من الموارد والمكتسبات في حال التوصل إلى صيغة حلول أو تسويات للقضايا والملفات الشائكة

المصدر : العهد / سركيس أبوزيد


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة