الدرس الأهم المستخلَص من اجتماع سوتشي هو أن المواجهة في المؤتمرات لا تقلّ خطورة عن المواجهة في أرض المعركة، وأن "إنتاج النصوص" لا يقلّ أهمية عن الإنجاز العسكري، ذلك أن الأزمة السورية هي أزمة نصيّة أيضاً. وهذا يُفسّر الاهتمام الكبير من قِبَل موسكو بحشد ما يُقارب 1600 مشارك لـ "عرض" نصوص معروفة مُسبقاً، في مشهديّة طقوسيةٍ و"مسرحةٍ" لها أكثر منها مفاوضة ومداولة حولها.

أكّدت الأوراق الصادِرة عن سوتشي من بين أمور عديدة على "إصلاح دستوري" وليس "صوغ دستور جديد"

كشفَ مؤتمر سوتشي 29و30 كانون الثاني/يناير 2018 عن أن المواجهة في سوريا هي تأويلية بامتياز، مُفردات ونصوص مُتشابهة إلى حدٍ كبير، وسياسات مُتنافِرة إلى حدِ الصِدام. ذلك أن العديد من الفروق بين مخرجات سوتشي ومخرجات جنيف وفيينا وهامبورغ وفيتنام وأستانة، وحتى القرار 2254، هي  عبارة عن فروق نصيّة وأحياناً بلاغية ولفظية.

وعلى الرغم من تأكيد القائمين على المؤتمر أنه لن يؤسّس مرجعية خاصةً به، مُنفصِلة عن مرجعية جنيف والقرار 2254، وإدراجهم نقاط دي ميستورا الـ 12 في أوراقه، وهي بالأساس من وضع المستشرِق أو المستعرِب الروسي فيتالي نعومكين، على ما صرّح هو نفسه للميادين (26-1-2018)، إلا أن مُناهضي المؤتمر تصرّفوا كما لو أنه ضدّ عملية جنيف وضدّ القرار 2254. وإذ تقرأ المواقف المناهِضة للمؤتمر، قبل انعقاده، تجد تقديراً واحداً تقريباً وهو أن المؤتمر لن يُعقَد. ثم أن المؤتمر انعقد، لكن المواقف لم تتغيرّ كثيراً، ولا تزال تقرأ لمناهضين يتحدّثون –على طريقة جان بودريار- عن مؤتمر سوتشي الذي لم يُعقَد!

يتعلّق الأمر بموقف واشنطن التي هدّدت بعودة الأمور في سوريا إلى "نقطة الصفر"، وأعلنت عن استراتيجية للمواجهة انطلاقاً من "شرق الفرات"، ووفقاً لوثيقة "مجموعة واشنطن" و"لا ورقة" تيلرسون التي تقطع كليةً مع عملية جنيف والقرار 2254، وتريد وضع سوريا تحت انتداب أميركي بغطاء أممي. (الميادين 26-1-2018).

الدرس الأهم المستخلَص من اجتماع سوتشي هو أن المواجهة في المؤتمرات لا تقلّ خطورة عن المواجهة في أرض المعركة، وأن "إنتاج النصوص" لا يقلّ أهمية عن الإنجاز العسكري، ذلك أن الأزمة السورية هي أزمة نصيّة أيضاً. وهذا يُفسّر  الاهتمام الكبير  من قِبَل موسكو بحشد ما يُقارب 1600 مشارك لـ "عرض" نصوص معروفة مُسبقاً، في مشهديّة طقوسيةٍ و"مسرحةٍ" لها أكثر منها مفاوضة ومداولة حولها. ومثل ذلك تفعل واشنطن بحشد حلفائها لـ "تظهير" و"تمرير" نصوص مُعادية لدمشق وحلفائها، تحت عنوان واحد تقريباً وهو  "حتميّة الانتقال السياسي"!

أكّدت الأوراق الصادِرة عن سوتشي من بين أمور عديدة على "إصلاح دستوري" وليس "صوغ دستور جديد"، وعلى دور مُحدّد للأمم المتحدة في تسيير أو تيسير عمل اللجان الدستورية وغيرها، وليس إشرافاً أو ولاية تامّة على عملها، إلا أن المؤتمر  تضمّن "مُسايرة" ما للضغوط الأميركية والغربية المناهِضة له، وبدت موسكو أحياناً أنها مُهتمّة بعقد المؤتمر حتى لو كان ذلك على حساب مضمونه. وقد قبلت اشتراطات غوتيريش ومبادئ دي مستورا التي يجد ممثلو  دمشق صعوبة في مجرّد قراءتها، فكيف المداوَلة والمفاوَضة حولها.

من دروس سوتشي أيضاً ألا يدفع الشعور بالانتصار، والرغبة بالتعبير عنه، والحاجة لاعتراف الآخرين به، إلى ما يمكن أن يمثّل "تفريطاً" بالانتصار نفسه، وقد شاب المؤتمر شيء من ذلك. وهكذا فقد "مرّرت" واشنطن، كما سبقت الإشارة، عدّة اشتراطات "تَمَثَّلَها" منظمو المؤتمر ومُعدّو نصوصه وأوراقه، ولكنها مع ذلك لم تُقرّ بشرعيّته، ومثل ذلك فعلت "هيئة الرياض" التي أعلنت أنها سوف "تتفاعل" مع مخرجاته. (تصريحات 1-2-2018). تركيا بدورها لا تزال على سياستها في المساوَمة على كل خطوة، وقد يسّرت انعقاد المؤتمر، ولكنها أوعزت لممثلي الجماعات الموالية لها بعدم المشاركة فيه، ولم تُشرعن مخرجاته.

صحيح أن انعقاد المؤتمر كان مُخطّطاً له منذ فترة طويلة نسبياً، إلا أن الإعلان عنه دفعَ الولايات المتحدة وحلفائها للكشف عن رهانات لم تكن مُعلنة بالتمام، تمثّلت بتقديم أوراق وخطط تُغَيِّرُ من مرجعية جنيف والقرار 2254، وذلك بالسعي في مستويين، الأول هو تأويل النصوص والقرارات الدولية الخاصة بالأزمة السورية، والثاني هو محاولة خلق وقائع جديدة على الأرض، وخاصة في "شرق الفرات" والمنطقة الجنوبية. وقد سبقت الإشارة إلى محاولة "مجموعة واشنطن" تمرير خطط تؤدّي إلى فرض ولاية أممية تامة على عملية التسوية أو الحل في سوريا، بما في ذلك فرض دستور جديد ونُظُم انتخابية جديدة معروفة الغرَض والمقصَد. لكن المؤتمر لم يتّخذ موقفاً حاسِماً بالقدْر الكافي تجاهها.

انبثق مع سوتشي فيضٌ من التطوّرات والمسارات الممكنة، والدرس الواجب الاستخلاص هنا هو أن المواقف السياسية والنصوص والبيانات "المتفاوَض عليها" قد لا تخضع دائماً لشروط إنتاج موضوعية. وأن تقدير الموقف السياسي والتفاوضي قد يكون أكثر حساسية من تقدير الموقف العسكري والأمني.

ثمة وقائع لا ينبغي التغافُل عنها، وهي وجود مصادر تهديد كبيرة وكثيرة في أنحاء مختلفة من سوريا، وهناك غرف عمليات تركية وإسرائيلية وأميركية وغيرها، ولا بدّ من احتواء مصادر التهديد تلك، وإلا سوف تبقى سيفاً مُصلطاً على مسارات الحلول. بهذا المعنى ربما كان مؤتمر سوتشي ضرورياً، لكن بقدر، ذلك أن الكثير من المؤتمرات تأخذ أكثر مما تعطي!

  • فريق ماسة
  • 2018-02-06
  • 10347
  • من الأرشيف

دروس سوتشي..إنتاج النصوص لا يقلّ أهمية عن الإنجاز العسكري

الدرس الأهم المستخلَص من اجتماع سوتشي هو أن المواجهة في المؤتمرات لا تقلّ خطورة عن المواجهة في أرض المعركة، وأن "إنتاج النصوص" لا يقلّ أهمية عن الإنجاز العسكري، ذلك أن الأزمة السورية هي أزمة نصيّة أيضاً. وهذا يُفسّر الاهتمام الكبير من قِبَل موسكو بحشد ما يُقارب 1600 مشارك لـ "عرض" نصوص معروفة مُسبقاً، في مشهديّة طقوسيةٍ و"مسرحةٍ" لها أكثر منها مفاوضة ومداولة حولها. أكّدت الأوراق الصادِرة عن سوتشي من بين أمور عديدة على "إصلاح دستوري" وليس "صوغ دستور جديد" كشفَ مؤتمر سوتشي 29و30 كانون الثاني/يناير 2018 عن أن المواجهة في سوريا هي تأويلية بامتياز، مُفردات ونصوص مُتشابهة إلى حدٍ كبير، وسياسات مُتنافِرة إلى حدِ الصِدام. ذلك أن العديد من الفروق بين مخرجات سوتشي ومخرجات جنيف وفيينا وهامبورغ وفيتنام وأستانة، وحتى القرار 2254، هي  عبارة عن فروق نصيّة وأحياناً بلاغية ولفظية. وعلى الرغم من تأكيد القائمين على المؤتمر أنه لن يؤسّس مرجعية خاصةً به، مُنفصِلة عن مرجعية جنيف والقرار 2254، وإدراجهم نقاط دي ميستورا الـ 12 في أوراقه، وهي بالأساس من وضع المستشرِق أو المستعرِب الروسي فيتالي نعومكين، على ما صرّح هو نفسه للميادين (26-1-2018)، إلا أن مُناهضي المؤتمر تصرّفوا كما لو أنه ضدّ عملية جنيف وضدّ القرار 2254. وإذ تقرأ المواقف المناهِضة للمؤتمر، قبل انعقاده، تجد تقديراً واحداً تقريباً وهو أن المؤتمر لن يُعقَد. ثم أن المؤتمر انعقد، لكن المواقف لم تتغيرّ كثيراً، ولا تزال تقرأ لمناهضين يتحدّثون –على طريقة جان بودريار- عن مؤتمر سوتشي الذي لم يُعقَد! يتعلّق الأمر بموقف واشنطن التي هدّدت بعودة الأمور في سوريا إلى "نقطة الصفر"، وأعلنت عن استراتيجية للمواجهة انطلاقاً من "شرق الفرات"، ووفقاً لوثيقة "مجموعة واشنطن" و"لا ورقة" تيلرسون التي تقطع كليةً مع عملية جنيف والقرار 2254، وتريد وضع سوريا تحت انتداب أميركي بغطاء أممي. (الميادين 26-1-2018). الدرس الأهم المستخلَص من اجتماع سوتشي هو أن المواجهة في المؤتمرات لا تقلّ خطورة عن المواجهة في أرض المعركة، وأن "إنتاج النصوص" لا يقلّ أهمية عن الإنجاز العسكري، ذلك أن الأزمة السورية هي أزمة نصيّة أيضاً. وهذا يُفسّر  الاهتمام الكبير  من قِبَل موسكو بحشد ما يُقارب 1600 مشارك لـ "عرض" نصوص معروفة مُسبقاً، في مشهديّة طقوسيةٍ و"مسرحةٍ" لها أكثر منها مفاوضة ومداولة حولها. ومثل ذلك تفعل واشنطن بحشد حلفائها لـ "تظهير" و"تمرير" نصوص مُعادية لدمشق وحلفائها، تحت عنوان واحد تقريباً وهو  "حتميّة الانتقال السياسي"! أكّدت الأوراق الصادِرة عن سوتشي من بين أمور عديدة على "إصلاح دستوري" وليس "صوغ دستور جديد"، وعلى دور مُحدّد للأمم المتحدة في تسيير أو تيسير عمل اللجان الدستورية وغيرها، وليس إشرافاً أو ولاية تامّة على عملها، إلا أن المؤتمر  تضمّن "مُسايرة" ما للضغوط الأميركية والغربية المناهِضة له، وبدت موسكو أحياناً أنها مُهتمّة بعقد المؤتمر حتى لو كان ذلك على حساب مضمونه. وقد قبلت اشتراطات غوتيريش ومبادئ دي مستورا التي يجد ممثلو  دمشق صعوبة في مجرّد قراءتها، فكيف المداوَلة والمفاوَضة حولها. من دروس سوتشي أيضاً ألا يدفع الشعور بالانتصار، والرغبة بالتعبير عنه، والحاجة لاعتراف الآخرين به، إلى ما يمكن أن يمثّل "تفريطاً" بالانتصار نفسه، وقد شاب المؤتمر شيء من ذلك. وهكذا فقد "مرّرت" واشنطن، كما سبقت الإشارة، عدّة اشتراطات "تَمَثَّلَها" منظمو المؤتمر ومُعدّو نصوصه وأوراقه، ولكنها مع ذلك لم تُقرّ بشرعيّته، ومثل ذلك فعلت "هيئة الرياض" التي أعلنت أنها سوف "تتفاعل" مع مخرجاته. (تصريحات 1-2-2018). تركيا بدورها لا تزال على سياستها في المساوَمة على كل خطوة، وقد يسّرت انعقاد المؤتمر، ولكنها أوعزت لممثلي الجماعات الموالية لها بعدم المشاركة فيه، ولم تُشرعن مخرجاته. صحيح أن انعقاد المؤتمر كان مُخطّطاً له منذ فترة طويلة نسبياً، إلا أن الإعلان عنه دفعَ الولايات المتحدة وحلفائها للكشف عن رهانات لم تكن مُعلنة بالتمام، تمثّلت بتقديم أوراق وخطط تُغَيِّرُ من مرجعية جنيف والقرار 2254، وذلك بالسعي في مستويين، الأول هو تأويل النصوص والقرارات الدولية الخاصة بالأزمة السورية، والثاني هو محاولة خلق وقائع جديدة على الأرض، وخاصة في "شرق الفرات" والمنطقة الجنوبية. وقد سبقت الإشارة إلى محاولة "مجموعة واشنطن" تمرير خطط تؤدّي إلى فرض ولاية أممية تامة على عملية التسوية أو الحل في سوريا، بما في ذلك فرض دستور جديد ونُظُم انتخابية جديدة معروفة الغرَض والمقصَد. لكن المؤتمر لم يتّخذ موقفاً حاسِماً بالقدْر الكافي تجاهها. انبثق مع سوتشي فيضٌ من التطوّرات والمسارات الممكنة، والدرس الواجب الاستخلاص هنا هو أن المواقف السياسية والنصوص والبيانات "المتفاوَض عليها" قد لا تخضع دائماً لشروط إنتاج موضوعية. وأن تقدير الموقف السياسي والتفاوضي قد يكون أكثر حساسية من تقدير الموقف العسكري والأمني. ثمة وقائع لا ينبغي التغافُل عنها، وهي وجود مصادر تهديد كبيرة وكثيرة في أنحاء مختلفة من سوريا، وهناك غرف عمليات تركية وإسرائيلية وأميركية وغيرها، ولا بدّ من احتواء مصادر التهديد تلك، وإلا سوف تبقى سيفاً مُصلطاً على مسارات الحلول. بهذا المعنى ربما كان مؤتمر سوتشي ضرورياً، لكن بقدر، ذلك أن الكثير من المؤتمرات تأخذ أكثر مما تعطي!

المصدر : الميادين /عقيل سعيد محفوض


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة