كان من الممكن تجنيب عفرين مصائر الميادين السورية الأخرى. كان الأمر يتوقف إلى حد كبير على «وحدات حماية الشعب» الكردية التي فوّتت على نفسها،

وعلى مئات الآلاف من السوريين في أكثر من ٣٠٠ قرية في ريف المدينة، فرصة النجاة من العملية التركية الواسعة التي تبدو قدراً لا بد منه، على ضوء تمسك الأكراد بخيار الذهاب نحو كيان بدأت ملامحه تتبلور تدريجياً، في الأشهر الستة الأخيرة، وبناء مؤسسات الأمر الواقع.

وليس رفض «الوحدات» عودة الجيش السوري إلى عفرين والانتشار فيها بديلاً من الحرب، وتحييدها في الصراع مع تركيا، سوى تفصيل متأخر من المشهد. لم يفاجئ القيادي الكردي البارز، ألدار خليل، أحداً في رفضه عرضاً روسياً دخول الجيش السوري ورفع الأعلام السورية فوقها، إذ يفصل الرفض الكردي التأرجح الطويل بين الروس والأميركيين إلى اعتماد أميركا حليفاً وحيداً رغم غياب طائراتها عن سماء عفرين، فيما ذهبت «الوحدات» أبعد من ذلك بتحميل الوسيط الروسي «مسؤولية المجازر التي ستنتج من الاحتلال التركي».

ثلاثة عوامل رئيسة تضافرت خلال معارك شرق الفرات لتصفية «داعش»، أقنعت الأكراد أن مشروعهم بانتزاع كيان كردي أصبح ممكناً، تحت حدود «سايكس بيكو»، تجنّباً للاصطدام بالاعتراض التركي والإيراني بشكل خاص، مع مواصلة إضعاف الدولة السورية المركزية خلف برنامج فيدرالي، لم يتوافر له حتى اليوم دعم أيّ قوى سورية عربية وازنة: العنصر الأول هو القرار الأميركي بالبقاء في سوريا واعتبارها ميداناً لاحتواء إيران ومواصلة استنزاف روسيا والجيش السوري وحزب الله. الثاني هو الحصول على موارد نفطية ومالية كبيرة بعد الاستيلاء على حقول نفطية ومنشآت استراتيجية في دير الزور ووادي الفرات، والدعم الأميركي لتحويل القوة العشائرية العربية في وادي الفرات إلى حرس حدود لاحتلال شرق الفرات وحماية مكتسبات القوات الكردية من مؤسسات وتوسع في الأرض السورية يصل إلى ٢٥ في المئة منها، فيما يتعدى بكثير المعاقل الكردية التقليدية في الشمال السوري.

يبدو القرار الأميركي الاستراتيجي بالبقاء في الشرق السوري عاملاً أول حاسماً في تعزيز تيار قوي داخل حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، يرى في الانخراط الأميركي فرصته التاريخية التي لن تتكرر لبناء مشروعه القومي. في البدء كان الاكتفاء بالشق العسكري وقتال «داعش» برنامج «البنتاغون» الوحيد، مع استبعاد أي شق سياسي، أو احتلال أو إدارة مناطق ما بعد «داعش»، أو محض المشروع الكردي الفيدرالي التأييد والقوة التي تفترض انخراطاً مديداً في الحرب السورية، لم تكن واشنطن قد عقدت العزم عليه. ويقول خبير دولي واكب تطور العلاقات الكردية الاميركية منذ بدايتها إن الانعطافة الاميركية للبقاء في سوريا منذ تشرين الاول الماضي هي التي تدفع الاكراد اليوم نحو المواجهة مع جميع الاطراف في المنطقة، باستثناء الاميركيين. وعوضاً عن الصفقة التي كان ينوي المرشح دونالد ترامب عقدها مع الروس في سوريا، اتجه مجلس الامن القومي، منذ تكليفه صياغة استراتيجية سورية لواشنطن، الى ربط سوريا، «ما بعد داعش»، بخطة احتواء إيران في سوريا وتغيير النظام في دمشق، وهما بندان تحدث عنهما وزير الخارجية الاميركي «المعتدل» ريكس تيلرسون، عكس فيهما طغيان الصقور في الادارة الاميركية، والقطيعة مع سيطرة كوادر وسطى كبيرت ماكغورك من إدارة أوباما السابقة، الفريق القديم الذي أشرف على تدخل الحد الأدنى السياسي في سوريا، ومنع الانزلاق في صراع طويل أو إدارة احتلال ما بعد «داعش».

اكتسب المشروع الكردي في سوريا خلال معارك دير الزور القدرة على توفير موارد نفطية واقتصادية وبنى تحتية مهمة، تجعل مشروع أي كيان كردي قابلاً للحياة اقتصادياً؛ فخلال معارك دير الزور، انضمت أكبر حقول سوريا النفطية وأغناها، كالعمر والجفرة والصيجان، إلى لائحة طويلة من الحقول التي بات الاكراد يسيطرون عليها، كالرميلان والشدادي وجبسة وكراتشوك والسويدية وعليان وحمزة ومعشوق وليلاك. وهي مكتسبات تجعل من سوريا المفيدة مفهوماً نظرياً لا قدرة له على الصمود وإعادة الاعمار من دونها، وهو هدف أميركي واضح من خلال دعم الاكراد، وتحميل المزيد من الأعباء على الحليفين الايراني والروسي. واستولى الاكراد على منشأة كونيكو للغاز، وهي أحدث منشأة سورية، كانت توفر أكثر من ١٣٠ مليون قدم مكعب من الغاز المسيل وألف طن من الغاز المنزلي. وكان الروس قد فشلوا في إقناع الاكراد بإشراكهم في إدارة المناطق التي استولوا عليها شرق الفرات خلال اجتماع عقده في الثالث من الشهر الماضي نائب قائد القوات الروسية، الجنرال الكسي كيم، في قرية الصالحية شمال شرق دير الزور، وعرض عليهم قيام الشركات الروسية بترميم جزء من المنشآت النفطية التي تضررت خلال العمليات العسكرية، على ما يقوله خبير دولي واكب ذلك اللقاء.

أما العامل الأخير في تفضيل الأكراد المواجهة على أي تسوية، فهو اتجاه الاميركيين الى مساعدتهم على ما بدأوه قبل أشهر لتهميش العشائر، ومأسسة القوة العسكرية العربية الرديفة التي كان يصل تعدداها داخل «قسد» إلى ٢٨ ألف مقاتل عربي نهاية الصيف الماضي، مع الإعلان عن قوة حرس حدود عربية رديفة للقوات الكردية في وادي الفرات، وتحويل النهر الى خط حدودي مهمته منع القوات السورية من مهاجمة الكيان المزمع إنشاؤه، أصبح يشكل للمرة الاولى في تاريخ الحركة القومية الكردية في سوريا حدوداً معروفة لمشروعها الذي لم يكن قادراً، حتى الأمس القريب، على وضع خريطة واضحة للمطالب الترابية الكردية في الاراضي السورية.

تحول الاكراد في سياق الصراع السوري الى قوة ارتكاز أميركية للتدخل شرق الفرات ضد سوريا واحتواء إيران واستنزاف الروس ما أمكن. وتجعل الضرورات الميدانية والسياسية الطرفين شركاء استراتيجيين لا يمكن لأحدهما أن يستغني عن الآخر، وتدفع تركيا وإيران وسوريا وروسيا الى إعادة تحديد أولوياتها واستراتيجياتها في الشمال السوري. فالأميركيون يستظلون مشروعاً كردياً «ديمقراطياً فيدرالياً» لتضخيم تموضعهم في الشرق السوري من دون الاضطرار الى نشر قوات كبيرة وتجديد شرعية بقائها بعد نفاد شرعية محاربة «داعش». والأكراد يتوسعون في سوريا بحجة مشروعهم الفيدرالي ويراكمون أوراقاً جديدة من أرض وموارد وقوات عربية رديفة في المناطق التي يدخلون اليها. وليست عفرين، التي كان من الممكن للأكراد تجنّب التضحية بها، سوى الاختبار الاول لقوة التحالف الجديد في مواجهة الجميع.

  • فريق ماسة
  • 2018-01-21
  • 3985
  • من الأرشيف

معركة عفرين: ثمن الشراكة مع واشنطن

كان من الممكن تجنيب عفرين مصائر الميادين السورية الأخرى. كان الأمر يتوقف إلى حد كبير على «وحدات حماية الشعب» الكردية التي فوّتت على نفسها، وعلى مئات الآلاف من السوريين في أكثر من ٣٠٠ قرية في ريف المدينة، فرصة النجاة من العملية التركية الواسعة التي تبدو قدراً لا بد منه، على ضوء تمسك الأكراد بخيار الذهاب نحو كيان بدأت ملامحه تتبلور تدريجياً، في الأشهر الستة الأخيرة، وبناء مؤسسات الأمر الواقع. وليس رفض «الوحدات» عودة الجيش السوري إلى عفرين والانتشار فيها بديلاً من الحرب، وتحييدها في الصراع مع تركيا، سوى تفصيل متأخر من المشهد. لم يفاجئ القيادي الكردي البارز، ألدار خليل، أحداً في رفضه عرضاً روسياً دخول الجيش السوري ورفع الأعلام السورية فوقها، إذ يفصل الرفض الكردي التأرجح الطويل بين الروس والأميركيين إلى اعتماد أميركا حليفاً وحيداً رغم غياب طائراتها عن سماء عفرين، فيما ذهبت «الوحدات» أبعد من ذلك بتحميل الوسيط الروسي «مسؤولية المجازر التي ستنتج من الاحتلال التركي». ثلاثة عوامل رئيسة تضافرت خلال معارك شرق الفرات لتصفية «داعش»، أقنعت الأكراد أن مشروعهم بانتزاع كيان كردي أصبح ممكناً، تحت حدود «سايكس بيكو»، تجنّباً للاصطدام بالاعتراض التركي والإيراني بشكل خاص، مع مواصلة إضعاف الدولة السورية المركزية خلف برنامج فيدرالي، لم يتوافر له حتى اليوم دعم أيّ قوى سورية عربية وازنة: العنصر الأول هو القرار الأميركي بالبقاء في سوريا واعتبارها ميداناً لاحتواء إيران ومواصلة استنزاف روسيا والجيش السوري وحزب الله. الثاني هو الحصول على موارد نفطية ومالية كبيرة بعد الاستيلاء على حقول نفطية ومنشآت استراتيجية في دير الزور ووادي الفرات، والدعم الأميركي لتحويل القوة العشائرية العربية في وادي الفرات إلى حرس حدود لاحتلال شرق الفرات وحماية مكتسبات القوات الكردية من مؤسسات وتوسع في الأرض السورية يصل إلى ٢٥ في المئة منها، فيما يتعدى بكثير المعاقل الكردية التقليدية في الشمال السوري. يبدو القرار الأميركي الاستراتيجي بالبقاء في الشرق السوري عاملاً أول حاسماً في تعزيز تيار قوي داخل حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، يرى في الانخراط الأميركي فرصته التاريخية التي لن تتكرر لبناء مشروعه القومي. في البدء كان الاكتفاء بالشق العسكري وقتال «داعش» برنامج «البنتاغون» الوحيد، مع استبعاد أي شق سياسي، أو احتلال أو إدارة مناطق ما بعد «داعش»، أو محض المشروع الكردي الفيدرالي التأييد والقوة التي تفترض انخراطاً مديداً في الحرب السورية، لم تكن واشنطن قد عقدت العزم عليه. ويقول خبير دولي واكب تطور العلاقات الكردية الاميركية منذ بدايتها إن الانعطافة الاميركية للبقاء في سوريا منذ تشرين الاول الماضي هي التي تدفع الاكراد اليوم نحو المواجهة مع جميع الاطراف في المنطقة، باستثناء الاميركيين. وعوضاً عن الصفقة التي كان ينوي المرشح دونالد ترامب عقدها مع الروس في سوريا، اتجه مجلس الامن القومي، منذ تكليفه صياغة استراتيجية سورية لواشنطن، الى ربط سوريا، «ما بعد داعش»، بخطة احتواء إيران في سوريا وتغيير النظام في دمشق، وهما بندان تحدث عنهما وزير الخارجية الاميركي «المعتدل» ريكس تيلرسون، عكس فيهما طغيان الصقور في الادارة الاميركية، والقطيعة مع سيطرة كوادر وسطى كبيرت ماكغورك من إدارة أوباما السابقة، الفريق القديم الذي أشرف على تدخل الحد الأدنى السياسي في سوريا، ومنع الانزلاق في صراع طويل أو إدارة احتلال ما بعد «داعش». اكتسب المشروع الكردي في سوريا خلال معارك دير الزور القدرة على توفير موارد نفطية واقتصادية وبنى تحتية مهمة، تجعل مشروع أي كيان كردي قابلاً للحياة اقتصادياً؛ فخلال معارك دير الزور، انضمت أكبر حقول سوريا النفطية وأغناها، كالعمر والجفرة والصيجان، إلى لائحة طويلة من الحقول التي بات الاكراد يسيطرون عليها، كالرميلان والشدادي وجبسة وكراتشوك والسويدية وعليان وحمزة ومعشوق وليلاك. وهي مكتسبات تجعل من سوريا المفيدة مفهوماً نظرياً لا قدرة له على الصمود وإعادة الاعمار من دونها، وهو هدف أميركي واضح من خلال دعم الاكراد، وتحميل المزيد من الأعباء على الحليفين الايراني والروسي. واستولى الاكراد على منشأة كونيكو للغاز، وهي أحدث منشأة سورية، كانت توفر أكثر من ١٣٠ مليون قدم مكعب من الغاز المسيل وألف طن من الغاز المنزلي. وكان الروس قد فشلوا في إقناع الاكراد بإشراكهم في إدارة المناطق التي استولوا عليها شرق الفرات خلال اجتماع عقده في الثالث من الشهر الماضي نائب قائد القوات الروسية، الجنرال الكسي كيم، في قرية الصالحية شمال شرق دير الزور، وعرض عليهم قيام الشركات الروسية بترميم جزء من المنشآت النفطية التي تضررت خلال العمليات العسكرية، على ما يقوله خبير دولي واكب ذلك اللقاء. أما العامل الأخير في تفضيل الأكراد المواجهة على أي تسوية، فهو اتجاه الاميركيين الى مساعدتهم على ما بدأوه قبل أشهر لتهميش العشائر، ومأسسة القوة العسكرية العربية الرديفة التي كان يصل تعدداها داخل «قسد» إلى ٢٨ ألف مقاتل عربي نهاية الصيف الماضي، مع الإعلان عن قوة حرس حدود عربية رديفة للقوات الكردية في وادي الفرات، وتحويل النهر الى خط حدودي مهمته منع القوات السورية من مهاجمة الكيان المزمع إنشاؤه، أصبح يشكل للمرة الاولى في تاريخ الحركة القومية الكردية في سوريا حدوداً معروفة لمشروعها الذي لم يكن قادراً، حتى الأمس القريب، على وضع خريطة واضحة للمطالب الترابية الكردية في الاراضي السورية. تحول الاكراد في سياق الصراع السوري الى قوة ارتكاز أميركية للتدخل شرق الفرات ضد سوريا واحتواء إيران واستنزاف الروس ما أمكن. وتجعل الضرورات الميدانية والسياسية الطرفين شركاء استراتيجيين لا يمكن لأحدهما أن يستغني عن الآخر، وتدفع تركيا وإيران وسوريا وروسيا الى إعادة تحديد أولوياتها واستراتيجياتها في الشمال السوري. فالأميركيون يستظلون مشروعاً كردياً «ديمقراطياً فيدرالياً» لتضخيم تموضعهم في الشرق السوري من دون الاضطرار الى نشر قوات كبيرة وتجديد شرعية بقائها بعد نفاد شرعية محاربة «داعش». والأكراد يتوسعون في سوريا بحجة مشروعهم الفيدرالي ويراكمون أوراقاً جديدة من أرض وموارد وقوات عربية رديفة في المناطق التي يدخلون اليها. وليست عفرين، التي كان من الممكن للأكراد تجنّب التضحية بها، سوى الاختبار الاول لقوة التحالف الجديد في مواجهة الجميع.

المصدر : الأخبار / محمد بلوط, وليد شرارة


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة