يتأرجح موقف تركيا من عملية سوتشي جيئةً وذهاباً؛ يشبه في ذلك بندول فوكو المعروف في الفيزياء، وإذ ترحّب روسيا وإيران به إذا أَقْبَل، فإنهما لا تقولان الكثير عنه إذا أَدْبر، كما لو أنهما تعرفان حدود ما يمكن أن يفعل. وقد انقلب أردوغان على إعلان سوتشي، ثم عاد إليه في أستانة 8، ثم انقلب بعد ذلك في تصريحات له من تونس (27/12)، ولا بدّ من أن يعود إليه تالياً.

تدرك تركيا جيداً أن مؤتمر سوتشي هو محطة في مسار الأزمة السورية

قصة تركيا في ذلك قديمة، يمكن العودة بها إلى اللحظة العثمانية، وبالتركيز على السنوات الأخيرة من عُمر السلطنة، فقد تمكّنت من تأجيل سقوطها لبعض الوقت، وذلك من خلال المساومة والموازنة والمفاضلة بين خصومها، المتنازعين معها وعليها. فلم تُقِم تحالفاً كاملاً ولا خصومةً كاملةً، وكانت مستعدّة في كل لحظة لأن تنقلب على تحالفاتها عندما تجد في ذلك مصلحة لها. وقد كشفت وثائق دبلوماسية عن فترة الحرب العالمية الأولى أنها بقيت تفاوض بريطانيا على الانقلاب ضد ألمانيا، المتحالفة معها، حتى آخر لحظة من الحرب، ثم إن مصطفى كمال أتاتورك اقترب في البداية من لينين، لينقلب عليه بعد انقضاء حاجته إليه.

ما يجري اليوم قريب جداً مما كان في الماضي، هذه استمرارية في السياسة تتطلّب المزيد من التدقيق والتقصّي، ولا شك أن أنقرة إذ تقترب من موسكو وطهران فهي لا تقيم تحالفاً معهما، كما أنها لا تبتعد كثيراً عن واشنطن، والعكس صحيح، بمعنى أن اقترابها من واشنطن لم يقطع مع موسكو وطهران؛ وهذا ينحسب بالتمام على موقفها من عملية سوتشي.

قصة سوتشي مُعقّدة، لأن الحديث عنها والموقف منها لا يزال أهم من طبيعتها وما يمكن أن يتمخّض عنها، مع أنها لن تطرح شيئاً جديداً بالتمام، مما لم تطرحه عمليتا جنيف وأستانة، ذلك أن السجال الرافض لـ سوتشي ممسوك ومحكوم بإرادة أميركية أولاً، ورغبة مكبوتة من قبل تركيا نفسها ثانياً، وشعور العجز من قبل أطراف أوروبية وعربية مناهِضة لدمشق وتحالفها ثالثاً، وفرصة مهدورة من قبل تكوينات المعارضة رهينة محابسها الإيديولوجية والسياسية والتمويلية رابعاً، والقصة طويلة ...

عملية سوتشي –من منظور تركيا- مطلوبة ومرفوضة في آن، مطلوبة في الأمد القريب، إذ لا بديل عن التعاون مع روسيا وإيران؛ ومرفوضة في الأمد البعيد، لأن ذلك التعاون في ما لو اكتملت فصوله، سوف يُجهض خططها ورهاناتها العميقة تجاه الأزمة السورية. وطالما أن الحضور أقل تكلفة من الغياب أو الرفض، فلا بأس، على أن يكون "مُعطِّلاً" ما أمكن؛ أما إذا أظهر ترامب استعداداً أكبر لمقاربة أردوغان، فسوف يكون الأخير ممتناً جداً لذلك، بل ومستعداً للانقلاب على العملية، كما فعل مراراً، لكن من دون جدوى، حتى الآن.

عندما يقول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن واشنطن تسعى للمحافظة على "جبهة النصرة" والتنظيمات المسلّحة الأخرى لـ "استخدامها لاحقاً في تحقيق أهدافها" في سوريا والمنطقة، (تصريحات 25-12-2017)، فهو لا يعني بذلك واشنطن فقط، إنما ثمة متلقون آخرون للرسالة، وفي مقدمهم تركيا نفسها، الراعي الرئيس لـ "جبهة النصرة" و"الإمارة" التي أعلنتها في إدلب وأجزاء من أرياف حلب وحماه. أما الرسالة الأهم فكانت قول رئيس الأركان الروسي فاليري غراسيموف بأن العام 2018 سوف يكون عاماً لاستهداف "جبهة النصرة"، وطلبه من المعارضة "إقصاء الراديكاليين" عن وفود التفاوض. (تصريحات 27-12-2017).

عندما يصف أردوغان الرئيسَ بشّار الأسد بـ "الإرهابي"، وأن "من المستحيل مواصلة مساعي السلام السورية في وجوده"، (تصريحات 27-12-2017)، فهذا يعني أن الرسائل المذكورة آنفاً كانت مُوجِعَةً له، وأنه يشارك في سوتشي نتيجة إكراهات روسية وإيرانية، وأن موافقته على أستانة 8، يمكن أن يُلغى، إذا لم يراع مصالح تركيا البعيدة والقريبة؛ إنها عقلية المساومة حتى آخر لحظة. ولو أن تلك التهديدات لا تصل إلى نهاياتها، لأن الولايات المتحدة غير مستعدة بعد لملاقاة تركيا في موقع مناسب للأخيرة.

لايزال أردوغان يساوم إلى حد المغامرة في مسألة بالغة الأهمية والحساسية لدمشق والمحور الداعِم لها، وهو مقام الرئاسة في سوريا، المسألة بالنسبة لدمشق وحلفائها، لا تتعلّق بشخص الرئيس بشّار الأسد، هذه مسألة محسومة بطبيعة الحال، وإنما بمحاولة تركيا وحلفائها التدخّل في طبيعة النظام السياسي والدولة في سوريا.

تدرك تركيا جيداً أن مؤتمر سوتشي هو محطة في مسار الأزمة السورية، ليست الوحيدة، إذ ثمة محطات أو مسارات أخرى، كما لن تكون الأخيرة، وثمة فرصة لـ "بندول أردوغان" أن يقترب لالتقاط المكاسب، ويبتعد للتلويح ببدائل أخرى، لا تزال احتمالية أو تقديرية أكثر منها واقعية. ومن المناسب لـ أردوغان أن يذهب إلى سوتشي من منظار مختلف، ذلك أن الاستمرار في التعاون مع موسكو وطهران لهُ –في نهاية المطاف- مصداقٌ رئيسٌ وهو الموقف من الرئيس بشّار الأسد. ولا يزال أردوغان يؤجّل أو يؤخّر القيام بـ قطيعة لازمة وواجبة بهذا الخصوص، وهو إذ يدرك بأن دائرة التحرّك والمساومة تضيق تدريجياً، فإنه يعمل ما أمكن على الَتَفَلُّت منها.

  • فريق ماسة
  • 2017-12-31
  • 8503
  • من الأرشيف

أردوغان إزاء سوتشي، بين المشاركة والتفلّت

يتأرجح موقف تركيا من عملية سوتشي جيئةً وذهاباً؛ يشبه في ذلك بندول فوكو المعروف في الفيزياء، وإذ ترحّب روسيا وإيران به إذا أَقْبَل، فإنهما لا تقولان الكثير عنه إذا أَدْبر، كما لو أنهما تعرفان حدود ما يمكن أن يفعل. وقد انقلب أردوغان على إعلان سوتشي، ثم عاد إليه في أستانة 8، ثم انقلب بعد ذلك في تصريحات له من تونس (27/12)، ولا بدّ من أن يعود إليه تالياً. تدرك تركيا جيداً أن مؤتمر سوتشي هو محطة في مسار الأزمة السورية قصة تركيا في ذلك قديمة، يمكن العودة بها إلى اللحظة العثمانية، وبالتركيز على السنوات الأخيرة من عُمر السلطنة، فقد تمكّنت من تأجيل سقوطها لبعض الوقت، وذلك من خلال المساومة والموازنة والمفاضلة بين خصومها، المتنازعين معها وعليها. فلم تُقِم تحالفاً كاملاً ولا خصومةً كاملةً، وكانت مستعدّة في كل لحظة لأن تنقلب على تحالفاتها عندما تجد في ذلك مصلحة لها. وقد كشفت وثائق دبلوماسية عن فترة الحرب العالمية الأولى أنها بقيت تفاوض بريطانيا على الانقلاب ضد ألمانيا، المتحالفة معها، حتى آخر لحظة من الحرب، ثم إن مصطفى كمال أتاتورك اقترب في البداية من لينين، لينقلب عليه بعد انقضاء حاجته إليه. ما يجري اليوم قريب جداً مما كان في الماضي، هذه استمرارية في السياسة تتطلّب المزيد من التدقيق والتقصّي، ولا شك أن أنقرة إذ تقترب من موسكو وطهران فهي لا تقيم تحالفاً معهما، كما أنها لا تبتعد كثيراً عن واشنطن، والعكس صحيح، بمعنى أن اقترابها من واشنطن لم يقطع مع موسكو وطهران؛ وهذا ينحسب بالتمام على موقفها من عملية سوتشي. قصة سوتشي مُعقّدة، لأن الحديث عنها والموقف منها لا يزال أهم من طبيعتها وما يمكن أن يتمخّض عنها، مع أنها لن تطرح شيئاً جديداً بالتمام، مما لم تطرحه عمليتا جنيف وأستانة، ذلك أن السجال الرافض لـ سوتشي ممسوك ومحكوم بإرادة أميركية أولاً، ورغبة مكبوتة من قبل تركيا نفسها ثانياً، وشعور العجز من قبل أطراف أوروبية وعربية مناهِضة لدمشق وتحالفها ثالثاً، وفرصة مهدورة من قبل تكوينات المعارضة رهينة محابسها الإيديولوجية والسياسية والتمويلية رابعاً، والقصة طويلة ... عملية سوتشي –من منظور تركيا- مطلوبة ومرفوضة في آن، مطلوبة في الأمد القريب، إذ لا بديل عن التعاون مع روسيا وإيران؛ ومرفوضة في الأمد البعيد، لأن ذلك التعاون في ما لو اكتملت فصوله، سوف يُجهض خططها ورهاناتها العميقة تجاه الأزمة السورية. وطالما أن الحضور أقل تكلفة من الغياب أو الرفض، فلا بأس، على أن يكون "مُعطِّلاً" ما أمكن؛ أما إذا أظهر ترامب استعداداً أكبر لمقاربة أردوغان، فسوف يكون الأخير ممتناً جداً لذلك، بل ومستعداً للانقلاب على العملية، كما فعل مراراً، لكن من دون جدوى، حتى الآن. عندما يقول وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن واشنطن تسعى للمحافظة على "جبهة النصرة" والتنظيمات المسلّحة الأخرى لـ "استخدامها لاحقاً في تحقيق أهدافها" في سوريا والمنطقة، (تصريحات 25-12-2017)، فهو لا يعني بذلك واشنطن فقط، إنما ثمة متلقون آخرون للرسالة، وفي مقدمهم تركيا نفسها، الراعي الرئيس لـ "جبهة النصرة" و"الإمارة" التي أعلنتها في إدلب وأجزاء من أرياف حلب وحماه. أما الرسالة الأهم فكانت قول رئيس الأركان الروسي فاليري غراسيموف بأن العام 2018 سوف يكون عاماً لاستهداف "جبهة النصرة"، وطلبه من المعارضة "إقصاء الراديكاليين" عن وفود التفاوض. (تصريحات 27-12-2017). عندما يصف أردوغان الرئيسَ بشّار الأسد بـ "الإرهابي"، وأن "من المستحيل مواصلة مساعي السلام السورية في وجوده"، (تصريحات 27-12-2017)، فهذا يعني أن الرسائل المذكورة آنفاً كانت مُوجِعَةً له، وأنه يشارك في سوتشي نتيجة إكراهات روسية وإيرانية، وأن موافقته على أستانة 8، يمكن أن يُلغى، إذا لم يراع مصالح تركيا البعيدة والقريبة؛ إنها عقلية المساومة حتى آخر لحظة. ولو أن تلك التهديدات لا تصل إلى نهاياتها، لأن الولايات المتحدة غير مستعدة بعد لملاقاة تركيا في موقع مناسب للأخيرة. لايزال أردوغان يساوم إلى حد المغامرة في مسألة بالغة الأهمية والحساسية لدمشق والمحور الداعِم لها، وهو مقام الرئاسة في سوريا، المسألة بالنسبة لدمشق وحلفائها، لا تتعلّق بشخص الرئيس بشّار الأسد، هذه مسألة محسومة بطبيعة الحال، وإنما بمحاولة تركيا وحلفائها التدخّل في طبيعة النظام السياسي والدولة في سوريا. تدرك تركيا جيداً أن مؤتمر سوتشي هو محطة في مسار الأزمة السورية، ليست الوحيدة، إذ ثمة محطات أو مسارات أخرى، كما لن تكون الأخيرة، وثمة فرصة لـ "بندول أردوغان" أن يقترب لالتقاط المكاسب، ويبتعد للتلويح ببدائل أخرى، لا تزال احتمالية أو تقديرية أكثر منها واقعية. ومن المناسب لـ أردوغان أن يذهب إلى سوتشي من منظار مختلف، ذلك أن الاستمرار في التعاون مع موسكو وطهران لهُ –في نهاية المطاف- مصداقٌ رئيسٌ وهو الموقف من الرئيس بشّار الأسد. ولا يزال أردوغان يؤجّل أو يؤخّر القيام بـ قطيعة لازمة وواجبة بهذا الخصوص، وهو إذ يدرك بأن دائرة التحرّك والمساومة تضيق تدريجياً، فإنه يعمل ما أمكن على الَتَفَلُّت منها.

المصدر : الميادين / د. عقيل سعيد محفوض


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة