يمتلك خطاب الرئيس الأسد في افتتاح مؤتمر وزارة الخارجية، كل مقومات وأركان خطابات النصر، لكنه يتميز بالتواضع والتأني، وإذا كان التواضع منبعه الأخلاق والمنبت الحسن، فإنّ التأني مصدره الحنكة السياسة والاحترافية الدبلوماسية، والقاسم المشترك بينهما هو سمات القائد النبيل، ورغم أنّ الخطاب في حضرة دبلوماسيين محترفين، إلّا أنّه كان خطابًا سلسًا شفافًا لا يكتنفه الغموض، ولا احتوى على رسائل مشفرة، فالرئيس الأسد سلَّم كل ذي رسالةٍ رسالته ثم قرأ فحواها على الملأ، ورغم أنّها رسائل متعددة لأطرافٍ متعددة، لكنها متداخلة في الشكل والمضمون، وهذا عائدٌ لكون الأطراف المعادية لسوريا ترتبط كلها بالطرف الأمريكي وإن تفاوتت درجات ارتباطهم، فمنهم التابعون ومنهم المتسولون ومنهم الحثالات ومنهم العملاء ومنهم المنسيون، ولكن القاسم المشترك بينها أنها كلها ثقيلة الوطء شديدة القسوة، لذلك فأنا أرى أنّ هذا الخطاب بمثابة ساعة الصفر لانطلاق السياسات الغربية ومن لف لفها، للبدء بالبحث عن استراتيجيات مستقبلية، تدرس السبل الأمثل للتعايش مع عالم ما بعد انتصار الأسد، وقد يكون هذا هو علة التأني في الخطاب.

 

والتأني هنا معناه إبقاء الأبواب مواربةً لمن أصابت استراتيجيته الحقيقة، أي استراتيجية للتعامل على قاعدة شروط المنتتصر، وهذه القاعدة ستغير وجه المنطقة إن لم يكن وجه العالم كما لمح الأسد، حين اعتبر الممسك بقرار سوريا يمسك بقرار الشرق الأوسط، وله الثقل الوازن على المستوى الدولي بعكس الحال العربي اليوم، الذي اعتبره الأسد مجاملةً يساوي صفرًا، بينما الحقيقة أنّ الصفر سقفٌ لم يروه بالعين المجردة من قاعهم بعد، لهذا بالضبط كنت أقول منذ بداية العدوان على سوريا، بأنّ الغرب ليس باستطاعته رؤية قائد عربي بقامة الأسد ينتصر، فهو ليس نصرًا تلفزيونيًا استعراضيًا ليشتريه بالتنازلات، بل بالثقة المطلقة بشعبه وقضيته، وبالصبر والجلد والتضحيات الجسام، وقد كان الغرب مستعدًا لمنحه نصرًا استعراضيًا متلفزًا كإمبراطور، وكان مستعدًا لمنحه نوبل للسلام والاقتصاد، ومنحه جوائز الحكم الرشيد والسديد والمديد أيضًا، ولكن هذا الانتصار الحقيقي المعمد بالدم يتطلب الكثير من التنازلات الغربية، وهذه التنازلات هي ما سيبني الغرب استراتيجياته القادمة عليها، لأنها الوسيلة الوحيدة للبقاء في منطقةٍ بها سوريا منتصرة، فهو بقاءٌ بالشروط السورية.

 

فالشرط الأول الذي طرحه الأسد هو قطع علاقات الغرب بالإرهاب قطعًا لا لبس فيه، والإرهاب في العرف والقانون السوريين هو كل من حمل السلاح ضد الدولة، فالاعتدال والمعارضة ليست صفات تمنح الحصانة لمن حمل السلاح، وحصانته الوحيدة هي تسليم سلاحه للدولة عبر سياسة المصالحات، كما أنّ مناطق خفض التوتر ليست حصانة، كما عبر عن ذلك بالقول "إذا لم تنته المصالحات بتسليم السلاح فهي ليست مصالحات". وكما قلت في البداية فإنّ الرسائل متداخلة، فإنّ أقسى رسالتين وجههما الأسد كانتا من نصيب تركيا و"إسرائيل"، فتسليم السلاح وبسط سيطرة الدولة، يعني أنه لا مكان لأي حثالات مسلحة محلية أو خارجية على الأرض السورية شمالًا أو جنوبًا، كما يأتي وصف المتسول الذي نعت به الرئيس الأسد أردوغان، في إطار التقارب التركي الإيراني، ويبدو أنّ أردوغان يتسول دورًا في سوريا عبر التكاذب الذي يمارسه بالتقارب مع إيران، ويأتي مدح الرئيس الأسد للوفاء والأخلاق لكلٍ من القائد الأعلى في إيران والرئيس الروسي، في إطار معرفته بأنّ التسول الأردوغاني لن يكون على حساب المصلحة السورية، كما أكد في موضعٍ آخر على القرار السوري المُصفّى، بأننا في سوريا نستمع لمشورة ورأي الأصدقاء والحلفاء، ولكن حين وقت القرار فهو سوريٌ مئة بالمئة، والقرار السوري هو تطهير الأرض السورية كلها من الحثالات، ونتيجة كل هذه الشذرات فإنّ التسول الأردوغاني مهما تذلل فلن يكون من الجيب السورية.

 

وعلى قاعدة نفس الشذرات تلك تصل الرسالة للكيان الصهيوني، حيث باءت زيارة "رئيس الاستخبارات الإسرائيلية" إلى واشنطن بالفشل، وحيث يتحضر نتن ياهو لزيارة موسكو لنفس الأسباب، وخطاب الأسد يستبق الزيارة لينذر نتن ياهو بنفس النتائج، فالهدف الأول لتلك الزيارات هو إيجاد اختراقاتٍ في اتفاق خفض التوتر بما يضمن إبعاد مقاتلي حزب الله أو إيران عن الحدود مع فلسطين المحتلة، وما قاله الأسد عن تطهير الأرض ومحلية القرار ووفاء الحلفاء وأخلاقهم، مضافًا إليه التنويه بخصوصية مقاتلي حزب الله ومساواتهم في الحرص على الأرض السورية بالقوات السورية المسلحة، يعني أنّ الجولان هي بمقام مزارع شبعا بالنسبة للحزب، بما يعني تواجدًا طبيعيًا لمقاتلي حزب الله أينما وجد الجيش السوري، وأنّ أي اتفاقات أمريكية روسية هي في أفضل أحوالها تضحياتٌ أمريكية بأدواتها مقابل خروجٍ آمن من القتل ومن السخرية كقوةٍ عظمى تخرج على ركبتيها، وليس مفاوضات من أجل إخضاع سوريا لمنطق التنازلات، فهذه مرحلة انتهت، وعنوان المرحلة الآن هو التخفيف قدر الممكن من قسوة الشروط السورية والحدّ من مفاعيلها الإقليمية والدولية، ونحن الآن فقط في انتظار تطهير آخر شبرٍ من الأرض السورية من بقايا الإرهاب، وفي انتظار التبلور النهائي لشكل النصر، وسيعود نتن ياهو من موسكو ليكون بين خيارين أحلاهما مر، إما الهروب للأمام وشنّ الحرب المباشرة، وهو يعرف أنها حرب "إسرائيل" الأخيرة، وإما البحث كحماته الغربيين عن استراتيجية تطيل عمر كيانه أطول فترةٍ ممكنة، عبر محاولات اختراق وتدجين المجتمعات العربية تحت عناوين مذهبية وقومية بمساعدة النفط.

  • فريق ماسة
  • 2017-08-23
  • 17725
  • من الأرشيف

الرسالتان الأقسى في خطاب الأسد

يمتلك خطاب الرئيس الأسد في افتتاح مؤتمر وزارة الخارجية، كل مقومات وأركان خطابات النصر، لكنه يتميز بالتواضع والتأني، وإذا كان التواضع منبعه الأخلاق والمنبت الحسن، فإنّ التأني مصدره الحنكة السياسة والاحترافية الدبلوماسية، والقاسم المشترك بينهما هو سمات القائد النبيل، ورغم أنّ الخطاب في حضرة دبلوماسيين محترفين، إلّا أنّه كان خطابًا سلسًا شفافًا لا يكتنفه الغموض، ولا احتوى على رسائل مشفرة، فالرئيس الأسد سلَّم كل ذي رسالةٍ رسالته ثم قرأ فحواها على الملأ، ورغم أنّها رسائل متعددة لأطرافٍ متعددة، لكنها متداخلة في الشكل والمضمون، وهذا عائدٌ لكون الأطراف المعادية لسوريا ترتبط كلها بالطرف الأمريكي وإن تفاوتت درجات ارتباطهم، فمنهم التابعون ومنهم المتسولون ومنهم الحثالات ومنهم العملاء ومنهم المنسيون، ولكن القاسم المشترك بينها أنها كلها ثقيلة الوطء شديدة القسوة، لذلك فأنا أرى أنّ هذا الخطاب بمثابة ساعة الصفر لانطلاق السياسات الغربية ومن لف لفها، للبدء بالبحث عن استراتيجيات مستقبلية، تدرس السبل الأمثل للتعايش مع عالم ما بعد انتصار الأسد، وقد يكون هذا هو علة التأني في الخطاب.   والتأني هنا معناه إبقاء الأبواب مواربةً لمن أصابت استراتيجيته الحقيقة، أي استراتيجية للتعامل على قاعدة شروط المنتتصر، وهذه القاعدة ستغير وجه المنطقة إن لم يكن وجه العالم كما لمح الأسد، حين اعتبر الممسك بقرار سوريا يمسك بقرار الشرق الأوسط، وله الثقل الوازن على المستوى الدولي بعكس الحال العربي اليوم، الذي اعتبره الأسد مجاملةً يساوي صفرًا، بينما الحقيقة أنّ الصفر سقفٌ لم يروه بالعين المجردة من قاعهم بعد، لهذا بالضبط كنت أقول منذ بداية العدوان على سوريا، بأنّ الغرب ليس باستطاعته رؤية قائد عربي بقامة الأسد ينتصر، فهو ليس نصرًا تلفزيونيًا استعراضيًا ليشتريه بالتنازلات، بل بالثقة المطلقة بشعبه وقضيته، وبالصبر والجلد والتضحيات الجسام، وقد كان الغرب مستعدًا لمنحه نصرًا استعراضيًا متلفزًا كإمبراطور، وكان مستعدًا لمنحه نوبل للسلام والاقتصاد، ومنحه جوائز الحكم الرشيد والسديد والمديد أيضًا، ولكن هذا الانتصار الحقيقي المعمد بالدم يتطلب الكثير من التنازلات الغربية، وهذه التنازلات هي ما سيبني الغرب استراتيجياته القادمة عليها، لأنها الوسيلة الوحيدة للبقاء في منطقةٍ بها سوريا منتصرة، فهو بقاءٌ بالشروط السورية.   فالشرط الأول الذي طرحه الأسد هو قطع علاقات الغرب بالإرهاب قطعًا لا لبس فيه، والإرهاب في العرف والقانون السوريين هو كل من حمل السلاح ضد الدولة، فالاعتدال والمعارضة ليست صفات تمنح الحصانة لمن حمل السلاح، وحصانته الوحيدة هي تسليم سلاحه للدولة عبر سياسة المصالحات، كما أنّ مناطق خفض التوتر ليست حصانة، كما عبر عن ذلك بالقول "إذا لم تنته المصالحات بتسليم السلاح فهي ليست مصالحات". وكما قلت في البداية فإنّ الرسائل متداخلة، فإنّ أقسى رسالتين وجههما الأسد كانتا من نصيب تركيا و"إسرائيل"، فتسليم السلاح وبسط سيطرة الدولة، يعني أنه لا مكان لأي حثالات مسلحة محلية أو خارجية على الأرض السورية شمالًا أو جنوبًا، كما يأتي وصف المتسول الذي نعت به الرئيس الأسد أردوغان، في إطار التقارب التركي الإيراني، ويبدو أنّ أردوغان يتسول دورًا في سوريا عبر التكاذب الذي يمارسه بالتقارب مع إيران، ويأتي مدح الرئيس الأسد للوفاء والأخلاق لكلٍ من القائد الأعلى في إيران والرئيس الروسي، في إطار معرفته بأنّ التسول الأردوغاني لن يكون على حساب المصلحة السورية، كما أكد في موضعٍ آخر على القرار السوري المُصفّى، بأننا في سوريا نستمع لمشورة ورأي الأصدقاء والحلفاء، ولكن حين وقت القرار فهو سوريٌ مئة بالمئة، والقرار السوري هو تطهير الأرض السورية كلها من الحثالات، ونتيجة كل هذه الشذرات فإنّ التسول الأردوغاني مهما تذلل فلن يكون من الجيب السورية.   وعلى قاعدة نفس الشذرات تلك تصل الرسالة للكيان الصهيوني، حيث باءت زيارة "رئيس الاستخبارات الإسرائيلية" إلى واشنطن بالفشل، وحيث يتحضر نتن ياهو لزيارة موسكو لنفس الأسباب، وخطاب الأسد يستبق الزيارة لينذر نتن ياهو بنفس النتائج، فالهدف الأول لتلك الزيارات هو إيجاد اختراقاتٍ في اتفاق خفض التوتر بما يضمن إبعاد مقاتلي حزب الله أو إيران عن الحدود مع فلسطين المحتلة، وما قاله الأسد عن تطهير الأرض ومحلية القرار ووفاء الحلفاء وأخلاقهم، مضافًا إليه التنويه بخصوصية مقاتلي حزب الله ومساواتهم في الحرص على الأرض السورية بالقوات السورية المسلحة، يعني أنّ الجولان هي بمقام مزارع شبعا بالنسبة للحزب، بما يعني تواجدًا طبيعيًا لمقاتلي حزب الله أينما وجد الجيش السوري، وأنّ أي اتفاقات أمريكية روسية هي في أفضل أحوالها تضحياتٌ أمريكية بأدواتها مقابل خروجٍ آمن من القتل ومن السخرية كقوةٍ عظمى تخرج على ركبتيها، وليس مفاوضات من أجل إخضاع سوريا لمنطق التنازلات، فهذه مرحلة انتهت، وعنوان المرحلة الآن هو التخفيف قدر الممكن من قسوة الشروط السورية والحدّ من مفاعيلها الإقليمية والدولية، ونحن الآن فقط في انتظار تطهير آخر شبرٍ من الأرض السورية من بقايا الإرهاب، وفي انتظار التبلور النهائي لشكل النصر، وسيعود نتن ياهو من موسكو ليكون بين خيارين أحلاهما مر، إما الهروب للأمام وشنّ الحرب المباشرة، وهو يعرف أنها حرب "إسرائيل" الأخيرة، وإما البحث كحماته الغربيين عن استراتيجية تطيل عمر كيانه أطول فترةٍ ممكنة، عبر محاولات اختراق وتدجين المجتمعات العربية تحت عناوين مذهبية وقومية بمساعدة النفط.

المصدر : إيهاب زكي - بيروت


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة