داخل أطراف المُعارضة السورية، باتت المواقف تتّجه نحو فرز أوضح بين منصّات الرياض والقاهرة وموسكو. وترفض المنصّتان الأخيرتان المشاركة في المؤتمر الموسّع الذي ستستضيفه الرياض للمعارضة السورية في تشرين الأول. ولا بدّ من أن للازمة الخليجية بين دول المقاطعة الأربع وقطر دوراً في تشظّي المُعارضة السورية وترجيح كفّة منصّتي القاهرة وموسكو.

باتت دير الزور بين فكيّ كماشة

بخطى مُتسارِعة أسقط الجيش السوري في الميدان مقولة "سوريا المُفيدة" منذ توغّله في الحدود الإدارية لمُحافظة الرقّة في 6 حزيران/يونيو الماضي، بالتزامن مع اندفاعه في عُمق البادية وصولاً إلى الحدود السورية - العراقية شمال شرق التنف مُلحِقاً الهزيمة بتنظيم "داعش" في هاتين المنطقتين. والتطوّر الأهم كان النجاح قبل أيام في طرْد الجهاديين من مدينة السخنة في عُمق ريف حمص الشرقي، والذي من شأنه فتح الطريق من هناك أمام الجيش ليدخل الحدود الإدارية لمُحافظة دير الزور التي يسيطر "داعش" على معظمها.   ومع سقوط السخنة ومع مواصلة الجيش زحفه في عُمق ريف الرقّة الجنوبي والشرقي، باتت دير الزور بين فكيّ كماشة. وهذا من شأنه من الناحية العسكرية أن يُسهّل معركة الدير ويقطع الطريق على محاولات أميركية لنقل مُقاتلين من فصائل سوريّة معارضة تتمتّع بدعم واشنطن تعمل في جنوب شرق سوريا، وتتلقّى التدريب في قاعدة التنف على الحدود السورية - الأردنية-العراقية مثل "أسود الشرقية" و"جيش مغاوير الثورة" و"قوات أحمد العبدو"، كي تلعب دوراً في استعادة مناطق من دير الزور على غِرار تجربة التحالف الدولي مع "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) التي زجّتها الولايات المتحدة في معركة الرقّة. ولا بدّ من الإشارة إلى أن "قسد" التي تتألّف بشكل رئيسي من "وحدات حماية الشعب" الكردية إلى جانب مُقاتلين من العشائر العربية أبرزهم "قوات النُخبة" بقيادة الرئيس السابق ل"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمُعارَضة السورية" أحمد الجربا، تواجه هي الأخرى صعوبات في الانتقال للعب دور في معركة دير الزور نظراً إلى الحساسية التي يمكن أن تنجم عن تمدّد المُقاتلين الأكراد خارج الرقّة.   وهذا أيضاً من العوامل التي تلعب دوراً في جَعْل الجيش السوري مدعوماً من روسيا وإيران، الأكثر أهلية لخوض معركة استرداد دير الزور. ولن يكون أثر هذه المعركة مُقتصِراً على الجانب العسكري، بل إن استعادة هذه المُحافظة من شأنها أن تقضي على كل سيناريوات التقسيم التي رُسِمَت لسوريا في السنوات الست من الحرب. وقد قيل الكثير عن أن الحكومة السورية في أفضل الأحوال لن تكون قادرة على الاحتفاظ بأكثر من 15 في المئة من إجمالي الجغرافيا السورية، من بعض أجزاء درعا والقنيطرة والسويداء ودمشق إلى حمص حماة والشريط الساحلي حتى اللاذقية وجزء من حلب. لكن منذ التدخّل الروسي في أيلول 2015 بدأت المُعادلات الميدانية تنقلب لمصلحة الحكومة السورية، وتوّجت أواخر العام الماضي باستعادة الأحياء الشرقية لمدينة حلب.  ومن شرق حلب كرّت سبحة استعادة الأرض فكانت استعادة تدمر وأجزاء من حول دمشق، ليتوسّع طوق الآمان حول العاصمة  بطرْد مُقاتلي المعارضة سواء بواسطة القتال أو بالمصالحات ومنها التوغل في البادية وريف الرقّة، لترتفع نسبة سيطرة الحكومة السورية إلى 40 في المئة من سوريا بحسب اعتراف المرصد السوري المعارض الذي يتّخذ لندن مقرّاً له في 19 تموز الماضي. وبذلك تكون الحكومة السورية قد تمكّنت في غضون سبعة أشهر من استعادة نحو 25 في المئة من الأراضي التي كانت تحت سيطرة فصائل جهادية أو غيرها.   هذا الواقع الميداني لا بدّ من أن يُترجَم في السياسة. وكانت أولى البوادر مع التسليم الأميركي بالدور الروسي الرئيسي في سوريا. ولم تكن منطقة "خفض التصعيد" في جنوب غرب سوريا التي نشأت بتنسيق روسي-أميركي-أردني، سوى التعبير عن التسليم الأميركي بدور موسكو. وكان لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بوقف برنامج وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إي" لدعم فصائل سوريّة "مُعتدلة"، مغزى سياسياً واضحاً يؤشّر إلى مرحلة جديدة من السياسة الأميركية في سوريا مُناقِضَة لتلك التي اعتمدها الرئيس السابق باراك أوباما. كما أتى تحذير الجيش الأميركي لمُقاتلي المعارضة السورية المدعومين من واشنطن، من استهداف القوات السورية النظامية في البادية، كمؤشّر آخر على تبدّل في الموقف الأميركي. ثم كان موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي قال فيه إن تنحّي الرئيس السوري بشّار الأسد لم يعد شرطاً فرنسياً ضرورياً لدعم المفاوضات السياسية في سوريا. وقد كرّر ماكرون هذا الموقف أمام شخصيات من المُعارضة السورية. وقبل أيام نُقِل كلام عن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير لمسؤولين من المُعارضة السوريّة بأن عليهم الاستعداد لمرحلة بقاء الأسد في الحُكم. وعلى رغم صدور نفي من مصدر سعودي مسؤول لهذا الكلام، فإن النفي جاء مخفّفاً لجهة القول إن ما نُقِل عن الجبير لم يكن "دقيقاً" وأن السعودية مُتمسّكة بالانتقال السياسي وفقاً لبيان جنيف1 الصادر في 30 حزيران 2012.   وحتى داخل أطراف المُعارضة السورية، باتت المواقف تتّجه نحو فرز أوضح بين منصّات الرياض والقاهرة وموسكو. وترفض المنصّتان الأخيرتان المشاركة في المؤتمر الموسّع الذي ستستضيفه الرياض للمعارضة السورية في تشرين الأول. ولا بدّ من أن للازمة الخليجية بين دول المقاطعة الأربع وقطر دوراً في تشظّي المُعارضة السورية وترجيح كفّة منصّتي القاهرة وموسكو. وتجدر الإشارة إلى أن مصر هي من بين الدول التي لعبت دوراً في إرساء منطقتي خفض التصعيد في الغوطة الشرقية وشمال حمص. وهذا تحوّل في الموقف العربي إذا ما أضفنا المشاركة الأردنية في الجهود التي أفضت إلى ولادة منطقة "خفض التصعيد" في جنوب غرب سوريا.  وفي الإجمال يفرض الميدان السوري نفسه على المواقف السياسية ويُبعِد سوريا عن السيناريوات الكارثية التي كانت تُعَدُّ لها ومن بينها التقسيم.

  • فريق ماسة
  • 2017-08-13
  • 12876
  • من الأرشيف

سورية العائِدة من دير الزور

داخل أطراف المُعارضة السورية، باتت المواقف تتّجه نحو فرز أوضح بين منصّات الرياض والقاهرة وموسكو. وترفض المنصّتان الأخيرتان المشاركة في المؤتمر الموسّع الذي ستستضيفه الرياض للمعارضة السورية في تشرين الأول. ولا بدّ من أن للازمة الخليجية بين دول المقاطعة الأربع وقطر دوراً في تشظّي المُعارضة السورية وترجيح كفّة منصّتي القاهرة وموسكو. باتت دير الزور بين فكيّ كماشة بخطى مُتسارِعة أسقط الجيش السوري في الميدان مقولة "سوريا المُفيدة" منذ توغّله في الحدود الإدارية لمُحافظة الرقّة في 6 حزيران/يونيو الماضي، بالتزامن مع اندفاعه في عُمق البادية وصولاً إلى الحدود السورية - العراقية شمال شرق التنف مُلحِقاً الهزيمة بتنظيم "داعش" في هاتين المنطقتين. والتطوّر الأهم كان النجاح قبل أيام في طرْد الجهاديين من مدينة السخنة في عُمق ريف حمص الشرقي، والذي من شأنه فتح الطريق من هناك أمام الجيش ليدخل الحدود الإدارية لمُحافظة دير الزور التي يسيطر "داعش" على معظمها.   ومع سقوط السخنة ومع مواصلة الجيش زحفه في عُمق ريف الرقّة الجنوبي والشرقي، باتت دير الزور بين فكيّ كماشة. وهذا من شأنه من الناحية العسكرية أن يُسهّل معركة الدير ويقطع الطريق على محاولات أميركية لنقل مُقاتلين من فصائل سوريّة معارضة تتمتّع بدعم واشنطن تعمل في جنوب شرق سوريا، وتتلقّى التدريب في قاعدة التنف على الحدود السورية - الأردنية-العراقية مثل "أسود الشرقية" و"جيش مغاوير الثورة" و"قوات أحمد العبدو"، كي تلعب دوراً في استعادة مناطق من دير الزور على غِرار تجربة التحالف الدولي مع "قوات سوريا الديموقراطية" (قسد) التي زجّتها الولايات المتحدة في معركة الرقّة. ولا بدّ من الإشارة إلى أن "قسد" التي تتألّف بشكل رئيسي من "وحدات حماية الشعب" الكردية إلى جانب مُقاتلين من العشائر العربية أبرزهم "قوات النُخبة" بقيادة الرئيس السابق ل"الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمُعارَضة السورية" أحمد الجربا، تواجه هي الأخرى صعوبات في الانتقال للعب دور في معركة دير الزور نظراً إلى الحساسية التي يمكن أن تنجم عن تمدّد المُقاتلين الأكراد خارج الرقّة.   وهذا أيضاً من العوامل التي تلعب دوراً في جَعْل الجيش السوري مدعوماً من روسيا وإيران، الأكثر أهلية لخوض معركة استرداد دير الزور. ولن يكون أثر هذه المعركة مُقتصِراً على الجانب العسكري، بل إن استعادة هذه المُحافظة من شأنها أن تقضي على كل سيناريوات التقسيم التي رُسِمَت لسوريا في السنوات الست من الحرب. وقد قيل الكثير عن أن الحكومة السورية في أفضل الأحوال لن تكون قادرة على الاحتفاظ بأكثر من 15 في المئة من إجمالي الجغرافيا السورية، من بعض أجزاء درعا والقنيطرة والسويداء ودمشق إلى حمص حماة والشريط الساحلي حتى اللاذقية وجزء من حلب. لكن منذ التدخّل الروسي في أيلول 2015 بدأت المُعادلات الميدانية تنقلب لمصلحة الحكومة السورية، وتوّجت أواخر العام الماضي باستعادة الأحياء الشرقية لمدينة حلب.  ومن شرق حلب كرّت سبحة استعادة الأرض فكانت استعادة تدمر وأجزاء من حول دمشق، ليتوسّع طوق الآمان حول العاصمة  بطرْد مُقاتلي المعارضة سواء بواسطة القتال أو بالمصالحات ومنها التوغل في البادية وريف الرقّة، لترتفع نسبة سيطرة الحكومة السورية إلى 40 في المئة من سوريا بحسب اعتراف المرصد السوري المعارض الذي يتّخذ لندن مقرّاً له في 19 تموز الماضي. وبذلك تكون الحكومة السورية قد تمكّنت في غضون سبعة أشهر من استعادة نحو 25 في المئة من الأراضي التي كانت تحت سيطرة فصائل جهادية أو غيرها.   هذا الواقع الميداني لا بدّ من أن يُترجَم في السياسة. وكانت أولى البوادر مع التسليم الأميركي بالدور الروسي الرئيسي في سوريا. ولم تكن منطقة "خفض التصعيد" في جنوب غرب سوريا التي نشأت بتنسيق روسي-أميركي-أردني، سوى التعبير عن التسليم الأميركي بدور موسكو. وكان لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بوقف برنامج وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية "سي آي إي" لدعم فصائل سوريّة "مُعتدلة"، مغزى سياسياً واضحاً يؤشّر إلى مرحلة جديدة من السياسة الأميركية في سوريا مُناقِضَة لتلك التي اعتمدها الرئيس السابق باراك أوباما. كما أتى تحذير الجيش الأميركي لمُقاتلي المعارضة السورية المدعومين من واشنطن، من استهداف القوات السورية النظامية في البادية، كمؤشّر آخر على تبدّل في الموقف الأميركي. ثم كان موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي قال فيه إن تنحّي الرئيس السوري بشّار الأسد لم يعد شرطاً فرنسياً ضرورياً لدعم المفاوضات السياسية في سوريا. وقد كرّر ماكرون هذا الموقف أمام شخصيات من المُعارضة السورية. وقبل أيام نُقِل كلام عن وزير الخارجية السعودي عادل الجبير لمسؤولين من المُعارضة السوريّة بأن عليهم الاستعداد لمرحلة بقاء الأسد في الحُكم. وعلى رغم صدور نفي من مصدر سعودي مسؤول لهذا الكلام، فإن النفي جاء مخفّفاً لجهة القول إن ما نُقِل عن الجبير لم يكن "دقيقاً" وأن السعودية مُتمسّكة بالانتقال السياسي وفقاً لبيان جنيف1 الصادر في 30 حزيران 2012.   وحتى داخل أطراف المُعارضة السورية، باتت المواقف تتّجه نحو فرز أوضح بين منصّات الرياض والقاهرة وموسكو. وترفض المنصّتان الأخيرتان المشاركة في المؤتمر الموسّع الذي ستستضيفه الرياض للمعارضة السورية في تشرين الأول. ولا بدّ من أن للازمة الخليجية بين دول المقاطعة الأربع وقطر دوراً في تشظّي المُعارضة السورية وترجيح كفّة منصّتي القاهرة وموسكو. وتجدر الإشارة إلى أن مصر هي من بين الدول التي لعبت دوراً في إرساء منطقتي خفض التصعيد في الغوطة الشرقية وشمال حمص. وهذا تحوّل في الموقف العربي إذا ما أضفنا المشاركة الأردنية في الجهود التي أفضت إلى ولادة منطقة "خفض التصعيد" في جنوب غرب سوريا.  وفي الإجمال يفرض الميدان السوري نفسه على المواقف السياسية ويُبعِد سوريا عن السيناريوات الكارثية التي كانت تُعَدُّ لها ومن بينها التقسيم.

المصدر : سميح صعب


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة