كتبت في الأسبوع الماضي مقالاً بعنوان «ما بين قمتي بكين والرياض» ولم تكن الغاية تقريع الأعراب على ما أظهروه من وضاعة وانحطاط خلال استقبالهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب،

 

فهذا الموضوع أُشبع كثيراً عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتعليقات الساخرة التي انهالت من كل حدب وصوب فاضحة آل سعود أكثر مما هم مفضوحون، ولكن الغاية كانت محاولة تلمس معالم العالم الجديد، وما ملامحه، والاجتهاد في قراءة التحولات التي تحدث في العلاقات الدولية من خلال الاستفادة من فرصة مشاركتي في قمة بكين، واجتماع مراكز الأبحاث في العالم في اليوم التالي.

 

ما يلفت النظر مؤخراً بعد قمة بكين، هو جولة ترامب الأوروبية، ولقاؤه مع قادة «مجموعة السبع»، وأعضاء حلف شمال الأطلسي، وما كشفته من تباينات واضحة كانت مخفية، وانفجرت للعلن من دون أن يحاول أي طرف «ضبضبة» الأمور كما نقول باللغة الدارجة لدينا، فالزعيمة الألمانية أنجيلا ميركل «طقت مرارتها» أخيراً من السياسات الأميركية في عهد ترامب، وأطلقت تصريحات نارية تعبر عن حجم الانقسام العميق بين الأوروبيين والأميركيين، وكلام ميركل أظهر ما كان مخفياً إذ أكدت أن «الثقة باتت ضعيفة بالأميركيين، وأنه يجب على الأوروبيين أن يقرروا مصيرهم بأيديهم، فالزمن الذي كُنا نعتمد فيه على الآخرين إلى حدٍ ما، انتهى»، وتضيف ميركل: «علينا أن نعرف أننا يجب أن نكافح من أجل مستقبلنا بأنفسنا».

 

وتبع كلام ميركل، هجوم لوزير خارجيتها سيغمار غابر يال حينما اعتبر «أن سياسات ترامب القصيرة النظر أضعفت الغرب، وألحقت أضراراً بالمصالح الأوروبية، ذلك أن أي شخص يعمل على تسريع التغير المناخي من خلال إضعاف حماية البيئة، ويبيع المزيد من الأسلحة في مناطق النزاع، ولا يرغب في حل النزاعات الدينية سياسياً، يُعرض السلام في أوروبا للخطر».

 

أما زعيم الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني مارتن شولتز فقد رأى «أن ترامب يقوض التعاون السلمي بين الدول، القائم على الاحترام المتبادل والتسامح، وأن على المرء أن يتصدى لمثل هذا الرجل وعقيدته لإعادة سباق التسلح».

 

ترامب لم يكتفِ بمهاجمة الألمان، ووصفهم بـ«الوضاعة والرداءة» لأنهم يبيعون كميات كبيرة جداً من السيارات في أميركا، بل هدد بتقنين ذلك، إذ قال على تويتر: «لدينا عجز تجاري هائل مع ألمانيا، إضافة إلى أنهم يدفعون أقل مما يجب لحلف الناتو، والجانب العسكري هذا أمر سيئ جداً لأميركا، وسيتغير».

 

ماذا يعني كل ذلك، وماذا يعكس من حقائق جديدة؟

1- لأول مرة نستمع إلى زعيم أوروبي يتحدث بصراحة ووضوح شديدين، ويكشف حجم المشكلة ضمن ما كان يعرف بالمنظومة الغربية وحجم التباعد بين الحلف الأنغلوساكسوني والأوروبي إن صَحَ هذا التوصيف.

2- إن هذا التصريح الألماني مؤشر لانهيار المشروع الأوروبي، وبدء العمل على بناء شيء جديد عوضاً منه ذي طابع أوروبي أكثر، كما يقول بعض المراقبين، ويؤكد هؤلاء أن ما كان يعرف بالنظام العالمي القديم قد انهار، وأن حلف شمال الأطلسي فقد القدرة على تغيير النظام العالمي بنفسه، بعد حروبه المتتالية منذ عام 2000 حتى ما قبل ذلك، كما أن التوازن الأميركي الأوروبي انهار أيضاً، والتصريحات الألمانية كشفت كل ذلك.

3- يعتقد بعض المتابعين أن تصريحات ميركل ستلقى صدى في أوروبا، وأن مسؤولين أوروبيين آخرين سيكررون فحوى كلامها كُلٍ بطريقته للتعبير عن رأيهم بذلك، وعن مواقف بلدانهم، وهذه الحرب الخفية ستتحول إلى حرب علنية!

4- إن تحول الحرب الخفية إلى علنية يمكن رصده في دهاليز منظمة الأمم المتحدة، والجدل الدائر في أروقة مجلس الأمن، ذلك أن هذه المنظمة التي كانت من ثمار الحرب العالمية الثانية، واتفاق المنتصرين فيها، لم تعد مؤهلة للاستمرار بشكلها الحالي، وتوازناتها التي اختلت كثيراً، فألمانيا المهزومة في تلك الحرب، لم تعد تقبل قسمتها الحالية من حيث وزنها الاقتصادي العالمي، ولا من حيث دورها السياسي التابع لأميركا ضمن العالم الجديد الذي يتشكل.

 

كثير من الخبراء يجادلون بأن مشروع الاتحاد الأوروبي وصل إلى نهايته، وسوف ينهار بعد خروج بريطانيا، وأن خروجها كان ضربة موجهة للألمان باعتبار أن مشروع الاتحاد الأوروبي كان مشروعا ألمانياً بالأساس، ولهذا يرى هؤلاء أن ألمانيا ستعمل على إنتاج مشروع أوروبي، أصغر بدلاً من الاتحاد الأوروبي، وستكون نواته المحور الجرماني: النمسا، هنغاريا، كرواتيا، وهو ما سيدفع دول شمال أوروبا، وجنوبها للخروج من الاتحاد الأوروبي، والبحث عن تحالفات جديدة.

كما أن ألمانيا سوف تتحول باتجاه بناء جيش خاص بحلفها الجديد تحت مسمى «الجيش الأوروبي»، وزيادة نفقاتها العسكرية بهذا الاتجاه كجزء من التخلص من التبعية الأميركية التي هيمنت على ألمانيا منذ مشروع مارشال نهاية الحرب العالمية الثانية، وسيترافق كل ذلك مع تصاعد في الشعور القومي الألماني بشكل لا يمكن تفاديه، كما يؤكد هؤلاء الخبراء، والمراقبون.

5- إن الاتجاه السائد الآن في العلاقات الدولية هو إنتاج شيء مختلف عما عرفناه سابقاً، ولا يستطيع أحد التنبؤ، منذ الآن، بالأشكال الجديدة للتحالفات، لكن المؤشرات تشير إلى انهيار بنى قديمة مثل الناتو، والاتفاقات التجارية العابرة للقارات، والدول، والأمم المتحدة بشكلها الذي عرفناه، وتراجع الحديث عن قيم مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان والحريات، ويبدو أن الصراع يتركز كما نتابع حول: السيطرة على السلطة، وأنظمة الحكم والموارد والأسواق، وهذه هي الأولويات لدى الجميع.

وإذا أردنا التدقيق أكثر يمكن أن نفهم أكثر من خلال طبيعة الحرب على سورية، فالأصلاء حلوا مكان الوكلاء، ولم يعد أحد يخفي أهدافه، فأميركا لا تريد فضاءً جيوسياسياً بين سورية والعراق وإيران ولبنان، لكونه يضعف قدرتها في السيطرة على الموارد والثروات، وحرب المواقع الجيوسياسية في سورية تفضح ذلك، وحروب اليمن وليبيا وغيرها تفضح الأهداف الحقيقية، وتظهر من سيبقى صاحب دور وريادة، ومن سيختفي دوره أو يتقلص بناءً على هذا الصراع الكبير.

6- إن ما يجري من تطورات في منطقتنا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصورة السابقة للعالم الجديد، وانتصار سورية وحلفائها، سيكون له دور مفصلي في رسم هذا العالم الجديد، ألم يقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذات يوم إن مستقبل الحرب في سورية سيحدد مصير العالم! وهذا هو السؤال الكبير أمامنا كسوريين: أي سورية نريد؟ وأي دور ستلعبه في مستقبل المنطقة؟ وأي نموذج نريده كي نستطيع إعادة إنتاج دورنا التاريخي والحضاري؟

 

في هذا السياق البعض منّا ما يزال يفكر بهذا الأمر بطريقة تقليدية، والحقيقة أن علينا أن نفكر خارج الصندوق، لأن ما يجري من تطورات عالمية وإقليمية، هي خارج إطار التحليل التقليدي الذي اعتدناه، والأشهر القادمة ستكشف تحولات كثيرة خارج المعتاد.

  • فريق ماسة
  • 2017-05-31
  • 13874
  • من الأرشيف

عندما تطلق ميركل تصريحاتها النارية.. أي عالم جديد يتشكل؟

كتبت في الأسبوع الماضي مقالاً بعنوان «ما بين قمتي بكين والرياض» ولم تكن الغاية تقريع الأعراب على ما أظهروه من وضاعة وانحطاط خلال استقبالهم الرئيس الأميركي دونالد ترامب،   فهذا الموضوع أُشبع كثيراً عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتعليقات الساخرة التي انهالت من كل حدب وصوب فاضحة آل سعود أكثر مما هم مفضوحون، ولكن الغاية كانت محاولة تلمس معالم العالم الجديد، وما ملامحه، والاجتهاد في قراءة التحولات التي تحدث في العلاقات الدولية من خلال الاستفادة من فرصة مشاركتي في قمة بكين، واجتماع مراكز الأبحاث في العالم في اليوم التالي.   ما يلفت النظر مؤخراً بعد قمة بكين، هو جولة ترامب الأوروبية، ولقاؤه مع قادة «مجموعة السبع»، وأعضاء حلف شمال الأطلسي، وما كشفته من تباينات واضحة كانت مخفية، وانفجرت للعلن من دون أن يحاول أي طرف «ضبضبة» الأمور كما نقول باللغة الدارجة لدينا، فالزعيمة الألمانية أنجيلا ميركل «طقت مرارتها» أخيراً من السياسات الأميركية في عهد ترامب، وأطلقت تصريحات نارية تعبر عن حجم الانقسام العميق بين الأوروبيين والأميركيين، وكلام ميركل أظهر ما كان مخفياً إذ أكدت أن «الثقة باتت ضعيفة بالأميركيين، وأنه يجب على الأوروبيين أن يقرروا مصيرهم بأيديهم، فالزمن الذي كُنا نعتمد فيه على الآخرين إلى حدٍ ما، انتهى»، وتضيف ميركل: «علينا أن نعرف أننا يجب أن نكافح من أجل مستقبلنا بأنفسنا».   وتبع كلام ميركل، هجوم لوزير خارجيتها سيغمار غابر يال حينما اعتبر «أن سياسات ترامب القصيرة النظر أضعفت الغرب، وألحقت أضراراً بالمصالح الأوروبية، ذلك أن أي شخص يعمل على تسريع التغير المناخي من خلال إضعاف حماية البيئة، ويبيع المزيد من الأسلحة في مناطق النزاع، ولا يرغب في حل النزاعات الدينية سياسياً، يُعرض السلام في أوروبا للخطر».   أما زعيم الحزب الديمقراطي الاشتراكي الألماني مارتن شولتز فقد رأى «أن ترامب يقوض التعاون السلمي بين الدول، القائم على الاحترام المتبادل والتسامح، وأن على المرء أن يتصدى لمثل هذا الرجل وعقيدته لإعادة سباق التسلح».   ترامب لم يكتفِ بمهاجمة الألمان، ووصفهم بـ«الوضاعة والرداءة» لأنهم يبيعون كميات كبيرة جداً من السيارات في أميركا، بل هدد بتقنين ذلك، إذ قال على تويتر: «لدينا عجز تجاري هائل مع ألمانيا، إضافة إلى أنهم يدفعون أقل مما يجب لحلف الناتو، والجانب العسكري هذا أمر سيئ جداً لأميركا، وسيتغير».   ماذا يعني كل ذلك، وماذا يعكس من حقائق جديدة؟ 1- لأول مرة نستمع إلى زعيم أوروبي يتحدث بصراحة ووضوح شديدين، ويكشف حجم المشكلة ضمن ما كان يعرف بالمنظومة الغربية وحجم التباعد بين الحلف الأنغلوساكسوني والأوروبي إن صَحَ هذا التوصيف. 2- إن هذا التصريح الألماني مؤشر لانهيار المشروع الأوروبي، وبدء العمل على بناء شيء جديد عوضاً منه ذي طابع أوروبي أكثر، كما يقول بعض المراقبين، ويؤكد هؤلاء أن ما كان يعرف بالنظام العالمي القديم قد انهار، وأن حلف شمال الأطلسي فقد القدرة على تغيير النظام العالمي بنفسه، بعد حروبه المتتالية منذ عام 2000 حتى ما قبل ذلك، كما أن التوازن الأميركي الأوروبي انهار أيضاً، والتصريحات الألمانية كشفت كل ذلك. 3- يعتقد بعض المتابعين أن تصريحات ميركل ستلقى صدى في أوروبا، وأن مسؤولين أوروبيين آخرين سيكررون فحوى كلامها كُلٍ بطريقته للتعبير عن رأيهم بذلك، وعن مواقف بلدانهم، وهذه الحرب الخفية ستتحول إلى حرب علنية! 4- إن تحول الحرب الخفية إلى علنية يمكن رصده في دهاليز منظمة الأمم المتحدة، والجدل الدائر في أروقة مجلس الأمن، ذلك أن هذه المنظمة التي كانت من ثمار الحرب العالمية الثانية، واتفاق المنتصرين فيها، لم تعد مؤهلة للاستمرار بشكلها الحالي، وتوازناتها التي اختلت كثيراً، فألمانيا المهزومة في تلك الحرب، لم تعد تقبل قسمتها الحالية من حيث وزنها الاقتصادي العالمي، ولا من حيث دورها السياسي التابع لأميركا ضمن العالم الجديد الذي يتشكل.   كثير من الخبراء يجادلون بأن مشروع الاتحاد الأوروبي وصل إلى نهايته، وسوف ينهار بعد خروج بريطانيا، وأن خروجها كان ضربة موجهة للألمان باعتبار أن مشروع الاتحاد الأوروبي كان مشروعا ألمانياً بالأساس، ولهذا يرى هؤلاء أن ألمانيا ستعمل على إنتاج مشروع أوروبي، أصغر بدلاً من الاتحاد الأوروبي، وستكون نواته المحور الجرماني: النمسا، هنغاريا، كرواتيا، وهو ما سيدفع دول شمال أوروبا، وجنوبها للخروج من الاتحاد الأوروبي، والبحث عن تحالفات جديدة. كما أن ألمانيا سوف تتحول باتجاه بناء جيش خاص بحلفها الجديد تحت مسمى «الجيش الأوروبي»، وزيادة نفقاتها العسكرية بهذا الاتجاه كجزء من التخلص من التبعية الأميركية التي هيمنت على ألمانيا منذ مشروع مارشال نهاية الحرب العالمية الثانية، وسيترافق كل ذلك مع تصاعد في الشعور القومي الألماني بشكل لا يمكن تفاديه، كما يؤكد هؤلاء الخبراء، والمراقبون. 5- إن الاتجاه السائد الآن في العلاقات الدولية هو إنتاج شيء مختلف عما عرفناه سابقاً، ولا يستطيع أحد التنبؤ، منذ الآن، بالأشكال الجديدة للتحالفات، لكن المؤشرات تشير إلى انهيار بنى قديمة مثل الناتو، والاتفاقات التجارية العابرة للقارات، والدول، والأمم المتحدة بشكلها الذي عرفناه، وتراجع الحديث عن قيم مثل الديمقراطية، وحقوق الإنسان والحريات، ويبدو أن الصراع يتركز كما نتابع حول: السيطرة على السلطة، وأنظمة الحكم والموارد والأسواق، وهذه هي الأولويات لدى الجميع. وإذا أردنا التدقيق أكثر يمكن أن نفهم أكثر من خلال طبيعة الحرب على سورية، فالأصلاء حلوا مكان الوكلاء، ولم يعد أحد يخفي أهدافه، فأميركا لا تريد فضاءً جيوسياسياً بين سورية والعراق وإيران ولبنان، لكونه يضعف قدرتها في السيطرة على الموارد والثروات، وحرب المواقع الجيوسياسية في سورية تفضح ذلك، وحروب اليمن وليبيا وغيرها تفضح الأهداف الحقيقية، وتظهر من سيبقى صاحب دور وريادة، ومن سيختفي دوره أو يتقلص بناءً على هذا الصراع الكبير. 6- إن ما يجري من تطورات في منطقتنا يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالصورة السابقة للعالم الجديد، وانتصار سورية وحلفائها، سيكون له دور مفصلي في رسم هذا العالم الجديد، ألم يقل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ذات يوم إن مستقبل الحرب في سورية سيحدد مصير العالم! وهذا هو السؤال الكبير أمامنا كسوريين: أي سورية نريد؟ وأي دور ستلعبه في مستقبل المنطقة؟ وأي نموذج نريده كي نستطيع إعادة إنتاج دورنا التاريخي والحضاري؟   في هذا السياق البعض منّا ما يزال يفكر بهذا الأمر بطريقة تقليدية، والحقيقة أن علينا أن نفكر خارج الصندوق، لأن ما يجري من تطورات عالمية وإقليمية، هي خارج إطار التحليل التقليدي الذي اعتدناه، والأشهر القادمة ستكشف تحولات كثيرة خارج المعتاد.

المصدر : الوطن / د. بسام ابو عبد الله


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة