يموجُ الشمالُ السوري على وقع تغييراتٍ متسارعة وجذرية، من عملية «درع الفرات» التي يحيط بها غموضٌ كبير لجهة الدول الداعمة لها أو المتضررة منها، إلى الإيعاز الأميركي مباشرة التحضيرات لبدء عزل محافظة الرقة تمهيداً لشنّ هجومٍ على «داعش» فيها وسط خلافات حادّة بين الأطراف المرشحة للمشاركة في هذا الهجوم.

وقد كُشفت في الأيام الأخيرة على لسان بعض المسؤولين الروس معلوماتٌ لافتة عن وجود تنسيق استخباري بين موسكو وأنقرة بخصوص عملية «درع الفرات» التي تقودُها تركيا في الشمال السوري. وقد أثارَ كشفُ هذه المعلومات موجةً من التفسيرات، وصلَ بعضُها لدرجة توصيف هذا التنسيق بأنه نواةُ تحالف قادم بين البلدين، قائم على النقمة من الأخطاء الأميركية والغضب جرّاء عدم صدق واشنطن في تعاملها مع البلدين، كما قال لـ «السفير» الكاتب التركي محمد زاهد غول، المُقرّبُ من دائرة صنعِ القرار في أنقرة.

وبغضّ النظر عن التوصيف، فإن إقرار موسكو بوجود تعاون استخباري بينها وبين تركيا، كفيلٌ بطرحِ تساؤلات عن دلالات هذا التعاون وموقعه وتأثيره على مجمل الأحداث الساخنة، سواء الجارية حالياً أو المتوقعُ حصولُها قريباً في عاصمة الشمال السوري وشريطِها الحدودي مع تركيا. وما يُعزّز من شرعية هذه التساؤلات هو أن العاصمة السورية تبدو غير بعيدة من نسجِ هذا التقارب، أو على الأقل الموافقة عليه، وهو ما أشار إليه الرئيس السوري بشار الأسد في 13 الشهر الحالي، عندما قال في حوار مع صحيفة روسية إنه «يأمل أن يسمحَ التقارب بين روسيا وتركيا بتغيير سياسة أنقرة تجاه سوريا».

وجاءت تصريحات الأسد عقب الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنقرة واجتماعه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهي الزيارة التي يبدو أنها أحدثت النقلة النوعية بين البلدين. كما سبقَ لعسكريين سوريين أن اجتمعوا مع أقرانهم الأتراك في العاصمة العراقية بغداد، في أيلول الماضي، لوضع اللمسات الأخيرة على تفاهم بشأن الوضع في شمال حلب، وهو التفاهم الذي يُعتقد أنه كان أساس الاتفاق بين الرئيسين الروسي والتركي.

ولعلّ أبرز ملامح نقاط الاتفاق على حلب، هي غضُّ روسيا طرفَها عن التوغل التركي في شمال حلب بما يسمح لتركيا القول إنها حققت «حلمَها» المتمثل بإقامة منطقة آمنة، وإن كان هذا الحلم غير مكتمل بسبب غياب أهم أركانه، وهو الحظر الجوي. ولكن ما زالت حدودُ هذا التوغل المسموح به غير واضحة، خصوصاً أنّ قيام أنقرة بتحويل «درع الفرات» مؤقتاً نحو تل رفعت، وما تطلَّبه ذلك من قيامها بقصف مواقع «قوات سوريا الديموقراطية»، استدعى موقفاً سورياً حازماً هدد بإسقاط أي طائرة تركية تحلّق في الأجواء السورية، بينما لم يصدر مثل هذا الموقف التصعيدي أثناء التوغل التركي في الأراضي التي يسيطر عليها «داعش» من جرابلس وحتى دابق.

غضُّ الطرف الروسيّ هذا له ثمنٌ مقابل، التزمت أنقرة بدفعه، وهو لزوم الصمت إزاء العملية العسكرية التي يقوم بها الجيش السوري مدعوماً بالطائرات الروسية في أحياء حلب الشرقية. وهنا أيضاً، فإن مدى وعمق هذا الصمت غير واضحين تماماً ويشوبُهما الكثير من الغموض. فصحيحٌ أن تركيا، وعلى لسان كبار مسؤوليها من وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، وحتى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، طالبوا «فتح الشام» (النصرة) بالانسحاب من أحياء حلب الشرقية تنفيذاً للخطة الروسية، لكن الصحيح أيضاً هو أن الفصائل المحسوبة على أنقرة، وعلى رأسها «أحرار الشام»، اتخذت موقفاً مناقضاً، ورفضت انسحاب «فتح الشام» أو أي فصيل آخر، ما أدّى إلى فشل الهدنة التي أعلنتها روسيا من طرف واحد. لكن يبقى أنه لم يصدر عن أنقرة أي تصريح يدين العملية العسكرية في شمال حلب، ما جعلها تُغرّد خارج سرب دول حلف «الناتو» التي ما زالت تُصعّد من لهجتها إزاء هذه العملية وتداعياتها.

وجاء كلام أردوغان، أمس، ليُرجّح صحّة ما تم تسريبه من بنود الاتفاق الثنائي مع روسيا، حيث أكّد في كلمة ألقاها في اجتماع المخاتير في المجمع الرئاسي في أنقرة، أن عمليات الجيش التركي في سوريا تهدف لتأمين السيطرة على بلدتي الباب ومنبج، لكنه لا يعتزم أن يمدّ هذه العمليات إلى مدينة حلب. وقال أردوغان «لنبدأ معركة مشتركة ضد التنظيمات الإرهابية. لكن حلب ملكٌ لأهلها. علينا أن نوضح ذلك».

وبالرغم من أن روسيا كانت تنتقد على الدوام التدخّل التركي المباشر في سوريا وتحذر من تداعياته، إلا أنها منذ الاجتماع الأخير بين الرئيسين بوتين وأردوغان لم يصدر عنها أي تصريح بخصوص مدينة الباب ورفض التقدم التركي إليها.

وثمة معضلتان تواجهان عملية «درع الفرات» التي تقودها أنقرة في الشمال السوري. الأولى تتعلق بحدود تقدمها جنوباً نحو مدينة الباب وإمكان اصطدامها مع مواقع الجيش السوري، ما قد يخلق خطّ زلازل إقليمياً يمكن أن ينفجر في أي لحظة ما لم يتم رسم خطوط التماسّ فيه بدقة متناهية. وحتى الآن، ما زالت الأمور غير واضحة حول مستقبل مدينة الباب، إذ بينما تُصرُّ أنقرة على مواصلة عملياتها حتى إخراج «داعش» منها، فإن أحد القياديين الميدانيين لقوةٍ حليفة للجيش السوري اعتبر أيّ تقدم تركي بمثابة تجاوز للخطوط الحمراء، كما نقلت عنه «رويترز» من دون أن تسميه.

والثانية تتعلق بإصرار أنقرة على أن يكون لها دور في معركة الرقة. والمشكلة هنا تكمن في عدم وجود طريق أمام الجيش التركي و «قوات درع الفرات» للوصول إلى المدينة. وهذا ما يميز الرقة عن حالة الموصل، حيث لأنقرة معسكر بعشيقة وميليشيا من آلاف العناصر تقوم بتدريبها، بالإضافة إلى علاقة قوية مع إقليم كردستان، بينما في الرقة ليس لها مثل هذا المعسكر ولا هذه العلاقات، بل هي مضطرة من أجل الوصول إلى مشارف الرقة أن تصطدم مع «قوات سوريا الديموقراطية» المتحالفة مع واشنطن، سواء في تل أبيض أو في منبج. وبما أن منبج مشمولةٌ باتفاق سابق مع واشنطن ينصُّ على انسحاب «قوات سوريا الديموقراطية» منها بعد تحريرها من «داعش»، فإن التصريحات التركية تركز على هذه المدينة، مُهدّدة بإخلائها بالقوة إذا لم تف واشنطن بتعهداتها، لكن هذا لا يعني أن أنقرة تستبعد أي تدخل عبر مدينة تل أبيض إذا اضطرت لذلك.

وفي كلتا الحالتين، ستجد أنقرة نفسها تصطدم بالمخططات الأميركية التي وُضِعت على أساس أن تكون «قوات سوريا الديموقراطية» هي رأس الحربة في أي هجوم تشنه ضد «داعش» في سوريا. ولا شك بأن الجيش التركي في منازلته الأخيرة مع الكرد في تل رفعت والقرى المحيطة بها قد أدرك أن الحرب ضد هؤلاء ليست كالحرب مع «داعش» الذي كان عناصره ينسحبون أمامه من دون قتال، في ظاهرة فريدة من نوعها بالنسبة لهذا التنظيم الذي يفترض أنه اعتاد القتال حتى النفس الأخير.

وقد رأى الكاتب محمد زاهد غول في حديثه مع «السفير» أن «تركيا لا تهدف إلى مخالفة أميركا في سوريا، ولكنها لا تسمح لأميركا ولا غيرها بتهديد الأمن القومي التركي»، مشيراً إلى أنه سبق لواشنطن أن أخلّت بالعديد من التفاهمات التي عقدتها مع أنقرة بخصوص سوريا، وجلّها تفاهمات عسكرية. وأوضح أن «صبر تركيا على نقض أميركا عهودها له حدود، وقد اضطرت تركيا لدعم الجيش السوري الحرّ الذي يحارب داعش، ويحارب قوات حماية الشعب التي تدعمها أميركا أيضاً، وهذا لم يحصل إلا بعد تأخر أميركا كثيراً في الاستجابة للمطالب التركية». وشدد على أن «الحرص التركي على التفاهم مع أميركا قد تخرقه أميركا نفسها».

ويشير هذا الكلام إلى أن التقارب التركي مع روسيا قد يكون مجرد ردة فعل من قبل أنقرة على التجاهل الأميركي لمصالحها، وما يعزز ذلك أن غول شدّد بخصوص الحديث عن الموقف من «فتح الشام» أن بلاده طلبت خروج عناصر «فتح الشام» من أحياء حلب الشرقية إلا أنها لا تستطيع إجبارهم على ذلك، مشيراً إلى أن الموقف الأخير يبقى بيد الفصائل التي لها وحدها حرية القرار لأن «أصحاب الأمر هم أصحاب القرار مهما كانت الرسائل مهمة» بحسب قوله.

بعبارةٍ أخرى، يمكن القول إن النتوء النافر في السياسة التركية الذي أتاح التلاقي مع السياسة الروسية قد يكون مجرد طفرةٍ سرعان ما تعود إلى طبيعتها مع أول إشارة أميركية حول استعدادها للوفاء بتعهداتها تجاه أنقرة ومراعاة مصالحها في إطار أي مشروع ترسو عليه الأوضاع في سوريا وغيرها. وهذا يعني أن الصفحة الحالية من التطورات في الشمال السوري ليست هي الصفحة الأخيرة، بل قد تكون هناك فصول كاملة من الكتاب لم تقرأ بعد.

  • فريق ماسة
  • 2016-10-26
  • 12460
  • من الأرشيف

أردوغان: «حلب لأهلها».. نريد الباب ومنبج...الالتباس السوري بين روسيا وتركيا

يموجُ الشمالُ السوري على وقع تغييراتٍ متسارعة وجذرية، من عملية «درع الفرات» التي يحيط بها غموضٌ كبير لجهة الدول الداعمة لها أو المتضررة منها، إلى الإيعاز الأميركي مباشرة التحضيرات لبدء عزل محافظة الرقة تمهيداً لشنّ هجومٍ على «داعش» فيها وسط خلافات حادّة بين الأطراف المرشحة للمشاركة في هذا الهجوم. وقد كُشفت في الأيام الأخيرة على لسان بعض المسؤولين الروس معلوماتٌ لافتة عن وجود تنسيق استخباري بين موسكو وأنقرة بخصوص عملية «درع الفرات» التي تقودُها تركيا في الشمال السوري. وقد أثارَ كشفُ هذه المعلومات موجةً من التفسيرات، وصلَ بعضُها لدرجة توصيف هذا التنسيق بأنه نواةُ تحالف قادم بين البلدين، قائم على النقمة من الأخطاء الأميركية والغضب جرّاء عدم صدق واشنطن في تعاملها مع البلدين، كما قال لـ «السفير» الكاتب التركي محمد زاهد غول، المُقرّبُ من دائرة صنعِ القرار في أنقرة. وبغضّ النظر عن التوصيف، فإن إقرار موسكو بوجود تعاون استخباري بينها وبين تركيا، كفيلٌ بطرحِ تساؤلات عن دلالات هذا التعاون وموقعه وتأثيره على مجمل الأحداث الساخنة، سواء الجارية حالياً أو المتوقعُ حصولُها قريباً في عاصمة الشمال السوري وشريطِها الحدودي مع تركيا. وما يُعزّز من شرعية هذه التساؤلات هو أن العاصمة السورية تبدو غير بعيدة من نسجِ هذا التقارب، أو على الأقل الموافقة عليه، وهو ما أشار إليه الرئيس السوري بشار الأسد في 13 الشهر الحالي، عندما قال في حوار مع صحيفة روسية إنه «يأمل أن يسمحَ التقارب بين روسيا وتركيا بتغيير سياسة أنقرة تجاه سوريا». وجاءت تصريحات الأسد عقب الزيارة التي قام بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنقرة واجتماعه بالرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهي الزيارة التي يبدو أنها أحدثت النقلة النوعية بين البلدين. كما سبقَ لعسكريين سوريين أن اجتمعوا مع أقرانهم الأتراك في العاصمة العراقية بغداد، في أيلول الماضي، لوضع اللمسات الأخيرة على تفاهم بشأن الوضع في شمال حلب، وهو التفاهم الذي يُعتقد أنه كان أساس الاتفاق بين الرئيسين الروسي والتركي. ولعلّ أبرز ملامح نقاط الاتفاق على حلب، هي غضُّ روسيا طرفَها عن التوغل التركي في شمال حلب بما يسمح لتركيا القول إنها حققت «حلمَها» المتمثل بإقامة منطقة آمنة، وإن كان هذا الحلم غير مكتمل بسبب غياب أهم أركانه، وهو الحظر الجوي. ولكن ما زالت حدودُ هذا التوغل المسموح به غير واضحة، خصوصاً أنّ قيام أنقرة بتحويل «درع الفرات» مؤقتاً نحو تل رفعت، وما تطلَّبه ذلك من قيامها بقصف مواقع «قوات سوريا الديموقراطية»، استدعى موقفاً سورياً حازماً هدد بإسقاط أي طائرة تركية تحلّق في الأجواء السورية، بينما لم يصدر مثل هذا الموقف التصعيدي أثناء التوغل التركي في الأراضي التي يسيطر عليها «داعش» من جرابلس وحتى دابق. غضُّ الطرف الروسيّ هذا له ثمنٌ مقابل، التزمت أنقرة بدفعه، وهو لزوم الصمت إزاء العملية العسكرية التي يقوم بها الجيش السوري مدعوماً بالطائرات الروسية في أحياء حلب الشرقية. وهنا أيضاً، فإن مدى وعمق هذا الصمت غير واضحين تماماً ويشوبُهما الكثير من الغموض. فصحيحٌ أن تركيا، وعلى لسان كبار مسؤوليها من وزير الخارجية مولود جاويش أوغلو، وحتى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، طالبوا «فتح الشام» (النصرة) بالانسحاب من أحياء حلب الشرقية تنفيذاً للخطة الروسية، لكن الصحيح أيضاً هو أن الفصائل المحسوبة على أنقرة، وعلى رأسها «أحرار الشام»، اتخذت موقفاً مناقضاً، ورفضت انسحاب «فتح الشام» أو أي فصيل آخر، ما أدّى إلى فشل الهدنة التي أعلنتها روسيا من طرف واحد. لكن يبقى أنه لم يصدر عن أنقرة أي تصريح يدين العملية العسكرية في شمال حلب، ما جعلها تُغرّد خارج سرب دول حلف «الناتو» التي ما زالت تُصعّد من لهجتها إزاء هذه العملية وتداعياتها. وجاء كلام أردوغان، أمس، ليُرجّح صحّة ما تم تسريبه من بنود الاتفاق الثنائي مع روسيا، حيث أكّد في كلمة ألقاها في اجتماع المخاتير في المجمع الرئاسي في أنقرة، أن عمليات الجيش التركي في سوريا تهدف لتأمين السيطرة على بلدتي الباب ومنبج، لكنه لا يعتزم أن يمدّ هذه العمليات إلى مدينة حلب. وقال أردوغان «لنبدأ معركة مشتركة ضد التنظيمات الإرهابية. لكن حلب ملكٌ لأهلها. علينا أن نوضح ذلك». وبالرغم من أن روسيا كانت تنتقد على الدوام التدخّل التركي المباشر في سوريا وتحذر من تداعياته، إلا أنها منذ الاجتماع الأخير بين الرئيسين بوتين وأردوغان لم يصدر عنها أي تصريح بخصوص مدينة الباب ورفض التقدم التركي إليها. وثمة معضلتان تواجهان عملية «درع الفرات» التي تقودها أنقرة في الشمال السوري. الأولى تتعلق بحدود تقدمها جنوباً نحو مدينة الباب وإمكان اصطدامها مع مواقع الجيش السوري، ما قد يخلق خطّ زلازل إقليمياً يمكن أن ينفجر في أي لحظة ما لم يتم رسم خطوط التماسّ فيه بدقة متناهية. وحتى الآن، ما زالت الأمور غير واضحة حول مستقبل مدينة الباب، إذ بينما تُصرُّ أنقرة على مواصلة عملياتها حتى إخراج «داعش» منها، فإن أحد القياديين الميدانيين لقوةٍ حليفة للجيش السوري اعتبر أيّ تقدم تركي بمثابة تجاوز للخطوط الحمراء، كما نقلت عنه «رويترز» من دون أن تسميه. والثانية تتعلق بإصرار أنقرة على أن يكون لها دور في معركة الرقة. والمشكلة هنا تكمن في عدم وجود طريق أمام الجيش التركي و «قوات درع الفرات» للوصول إلى المدينة. وهذا ما يميز الرقة عن حالة الموصل، حيث لأنقرة معسكر بعشيقة وميليشيا من آلاف العناصر تقوم بتدريبها، بالإضافة إلى علاقة قوية مع إقليم كردستان، بينما في الرقة ليس لها مثل هذا المعسكر ولا هذه العلاقات، بل هي مضطرة من أجل الوصول إلى مشارف الرقة أن تصطدم مع «قوات سوريا الديموقراطية» المتحالفة مع واشنطن، سواء في تل أبيض أو في منبج. وبما أن منبج مشمولةٌ باتفاق سابق مع واشنطن ينصُّ على انسحاب «قوات سوريا الديموقراطية» منها بعد تحريرها من «داعش»، فإن التصريحات التركية تركز على هذه المدينة، مُهدّدة بإخلائها بالقوة إذا لم تف واشنطن بتعهداتها، لكن هذا لا يعني أن أنقرة تستبعد أي تدخل عبر مدينة تل أبيض إذا اضطرت لذلك. وفي كلتا الحالتين، ستجد أنقرة نفسها تصطدم بالمخططات الأميركية التي وُضِعت على أساس أن تكون «قوات سوريا الديموقراطية» هي رأس الحربة في أي هجوم تشنه ضد «داعش» في سوريا. ولا شك بأن الجيش التركي في منازلته الأخيرة مع الكرد في تل رفعت والقرى المحيطة بها قد أدرك أن الحرب ضد هؤلاء ليست كالحرب مع «داعش» الذي كان عناصره ينسحبون أمامه من دون قتال، في ظاهرة فريدة من نوعها بالنسبة لهذا التنظيم الذي يفترض أنه اعتاد القتال حتى النفس الأخير. وقد رأى الكاتب محمد زاهد غول في حديثه مع «السفير» أن «تركيا لا تهدف إلى مخالفة أميركا في سوريا، ولكنها لا تسمح لأميركا ولا غيرها بتهديد الأمن القومي التركي»، مشيراً إلى أنه سبق لواشنطن أن أخلّت بالعديد من التفاهمات التي عقدتها مع أنقرة بخصوص سوريا، وجلّها تفاهمات عسكرية. وأوضح أن «صبر تركيا على نقض أميركا عهودها له حدود، وقد اضطرت تركيا لدعم الجيش السوري الحرّ الذي يحارب داعش، ويحارب قوات حماية الشعب التي تدعمها أميركا أيضاً، وهذا لم يحصل إلا بعد تأخر أميركا كثيراً في الاستجابة للمطالب التركية». وشدد على أن «الحرص التركي على التفاهم مع أميركا قد تخرقه أميركا نفسها». ويشير هذا الكلام إلى أن التقارب التركي مع روسيا قد يكون مجرد ردة فعل من قبل أنقرة على التجاهل الأميركي لمصالحها، وما يعزز ذلك أن غول شدّد بخصوص الحديث عن الموقف من «فتح الشام» أن بلاده طلبت خروج عناصر «فتح الشام» من أحياء حلب الشرقية إلا أنها لا تستطيع إجبارهم على ذلك، مشيراً إلى أن الموقف الأخير يبقى بيد الفصائل التي لها وحدها حرية القرار لأن «أصحاب الأمر هم أصحاب القرار مهما كانت الرسائل مهمة» بحسب قوله. بعبارةٍ أخرى، يمكن القول إن النتوء النافر في السياسة التركية الذي أتاح التلاقي مع السياسة الروسية قد يكون مجرد طفرةٍ سرعان ما تعود إلى طبيعتها مع أول إشارة أميركية حول استعدادها للوفاء بتعهداتها تجاه أنقرة ومراعاة مصالحها في إطار أي مشروع ترسو عليه الأوضاع في سوريا وغيرها. وهذا يعني أن الصفحة الحالية من التطورات في الشمال السوري ليست هي الصفحة الأخيرة، بل قد تكون هناك فصول كاملة من الكتاب لم تقرأ بعد.

المصدر : السفير/عبد الله سليمان علي


اكتب تعليق

كل الحقول التي عليها علامة (*) مطلوبة